خطبة لسماحة المفتي العام في الملعونين الأربعة
صديقك من صدقك
1432/02/17 - 2011/01/21 06:35AM
خطبة سماحة الشيخ عبد العزيز آل الشيخ -مفتي عام المملكة- خير الجزاء ونفع الأمة بعلمه، ألقاها سماحته بجامع الإمام تركي بن عبد الله بالرياض
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عباد الله، في صحيح مسلم عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قال: حدثني رسول الله بأربع كلمات، قال: ((لعن الله من ذبح لغيرِ الله، لعن الله من لَعَن والديه، لَعن الله مَن آوى محدِثًا، لعن الله من غيَّر منار الأرض)) [1].
عباد الله، في صحيح مسلم عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قال: حدثني رسول الله بأربع كلمات، قال: ((لعن الله من ذبح لغيرِ الله، لعن الله من لَعَن والديه، لَعن الله مَن آوى محدِثًا، لعن الله من غيَّر منار الأرض)) [1].
أيها المسلم، عليّ رضي الله عنه أحدُ الخلفاء الراشدين، صاحب رسول الله ، يخبرنا أنَّ نبيَّنا حدَّثه بهذه الكلمات الأربع، هذه الكلمات المنهيّ عنها، المرتَّب لعنةُ الله على من انتهَك شيئًا منها، ولعنةُ الله للعبد إبعاده عن رحمته، لعنةُ الله عليه طردُه وإبعادُه عن رحمته، فأيُّ معصيةٍ رُتِّب عليها اللعنةُ فإنها إمّا كفريّة وإمَّا كبيرة من كبائر الذنوب؛ لأنّ حقيقةَ اللعنِ الطردُ والإبعاد والإقصاء من رحمة الله، وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِى فَقَدْ هَوَىٰ [طه:81]، قُلْ هَلْ أُنَبّئُكُمْ بِشَرّ مّن ذٰلِكَ مَثُوبَةً عِندَ ٱللَّهِ مَن لَّعَنَهُ ٱللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ ٱلْقِرَدَةَ وَٱلْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ ٱلطَّـٰغُوتَ أُوْلَـئِكَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضَلُّ عَن سَوَاء ٱلسَّبِيلِ [المائدة:60].
وإذا لعن اللهُ العبدَ لعنَه كلُّ شيء، أُولَـئِكَ يَلْعَنُهُمُ ٱللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ ٱللَّـٰعِنُونَ [البقرة:159].
إذًا فالمسلمُ يتَّقي لعنةَ الله بقدرِ ما يستطيع، ويتحرَّز عنها بقدرِ ما يمكنه، لينجوَ من غضب الله وسخطه.
وهذه الجمل الأربع المنهيّ عنها، أوّلها قوله : ((لعن الله من ذبح لغير الله)).
الذبح عبادةٌ لله، الذبحُ قربانٌ يتقرَّب به العبدُ إلى الله، قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ [الأنعام:162، 163]. وأمر الله نبيَّه بأن يكثِر من الصلاة له والنَّحر له، فقال: فَصَلّ لِرَبّكَ وَٱنْحَرْ [التكاثر:2].
هذه البهيمةُ التي خلقها الله لنا وسخَّرها لنا وهيَّأها لنا انتفاعًا ركوبًا وشُربًا وأكلا يجب أن نُريق دمها لمن خلقها وكوَّنها، أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعـٰمًا فَهُمْ لَهَا مَـٰلِكُونَ وَذَلَّلْنَـٰهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ وَلَهُمْ فِيهَا مَنَـٰفِعُ وَمَشَـٰرِبُ أَفَلاَ يَشْكُرُونَ [يس:71-73].
سخَّرها لنا وليست بأقلَّ شأنًا من السباع الضارية، لكن الله سخَّرها لنا نقودها وننتفعُ منها، كَذٰلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَبَشّرِ ٱلْمُحْسِنِينَ [الحج:37]، كَذٰلِكَ سَخَّرْنَـٰهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الحج:36].
إذًا فإراقةُ دماء بهيمة الأنعام من إبلٍ أو بقر أو غنَم لغير الله قربانٌ لغير الله وشِرك بالله وكفر به، أولئك الذين يذبحون لأربابِ القبور، ويتقرَّبون بالذبح لهم، ويعدُّون تلك قربةً يتقرّبون بها إلى الأموات، وهذا ممّا جاء الإسلام بالتحذير منه والوعيد على فاعله.
كانوا في جاهليتهم يذبحون لأصنامِهم وأوثانهم، قال الله: أَفَرَءيْتُمُ ٱللَّـٰتَ وَٱلْعُزَّىٰ وَمَنَوٰةَ ٱلثَّالِثَةَ ٱلأُخْرَىٰ [النجم:19، 25]، لكثرة ما يُمنَى عندها ويراق عندها من الدماء.
هكذا كان حالُ المشركين، يذبحون لأصنامهم وأوثانهم، يتقرَّبون بذلك إليهم، وهم ضالّون في كلِّ تصرُّفاتهم، إذ من يعبدون من دون الله لا يسمَع دعاءً ولا يعلَم بحالهم، إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا ٱسْتَجَابُواْ لَكُمْ وَيَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِـكُمْ [فاطر:14].
ذبحٌ لغير الله يفعله بعضُ الجَهَلة، يذبحون خوفًا من الجنّ ومن تأثيرهم عليهم. ذبحٌ لغير الله يأمر به الكهانُ والمشعوذون، يأمرون من أتاهم وطلَب منهم العلاج أن يجعلوا من وسائل ذلك أن يأمروه بذبحٍ لغير الله، فيقول: اذبح إلى الشرقِ لفلان أو باسم فلان أو باسم فلان، فيأتي الجاهل المسكين، فيطيعهم، ولا يعلم أنَّ تلك عبادةٌ لغير الله وشركٌ مع الله غيره.
أيها المسلم، فالذبح لغير الله قربانًا لغير الله كفرٌ ينقُل من الملّة، فمن ذبح لغير الله فليتُب إلى الله من جرمه.
وإنَّ الكهان والمشعوذين يأمرون من أتاهم بالذبح لغير الله، ويذكرون أسماءَ الشياطين ومَن يعبدونهم من دون الله، ليكشفوا الضرَّ ويعالجوا المرضَ ويخبروا عن السِّحر إلى غير ذلك من خرافات الجاهلية وأباطيلها.
وثانيًا: يلعَن رسول الله من لَعن والديه، فيقول: ((لعن الله من لعن والديه)).
أيها المسلم، إنَّك لا تكاد أن تسمعَ شخصًا يلعن أباه وأمَّه إلاَّ إنسان متمرِّد قاسي القلب فاقد الإيمان والعياذ بالله، فلعنُ الأبِ والأمّ لا يصدر من عاقلٍ يُحسِن ما يقول ويُدرك حقيقةَ ما يقول؛ إذ هذا مضادٌّ للبر، ومعاكس للإحسان، ودالٌّ على أصالة اللآمة والخِسَّة في نفس ذلك الإنسان. ولذا لما قال النبي : ((لعن الله من لعن والديه)) قال الصحابة: يا رسول الله، وهل يلعن الرجل والديه؟! هل يسبُّ الرجل أباه وأمه؟! هل يُعقَل هذا أم يليق هذا بإنسان يعقِل ما يقول؟! قد يكون لا بِرَّ فيه، ولكن أن يبلغَ به الأمر إلى أن يلعن الأبَ والأم، كيف يكون ذلك؟! قال لهم : ((يسبُّ أبَا الرجل فيسبُّ أباه، ويسبُّ أمَّه فيسبُّ أمه)) [2].
أيّها المسلم، من الأولادِ من هم رحمةٌ على آبائهم وأمّهاتهم، ومن الأولاد من هم شَقاء وعَناء على الأب والأم. من الأولاد من يتنعَّم الأبوان في اللَّحد بدعواتهم الصالحةِ وأعمالهم الخيِّرة، فكلَّما رُئي ذلك الإنسان وشوهدت أعماله الطيبة وأخلاقه الحسنة ومعاملته الجيِّدة تُرحِّم على أبويه ودُعي لأبويه، فأبواه تصِلهم تلك الدعواتُ الصالحة، تصعَد إلى السماء، وينتفع بها الآباء والأمهات.
ولدٌ نديُّ الكفِّ بالصدقة، باذل الجاهِ والمعروف، محسنٌ لعباد الله، باذل كلَّ خُلُق كريم، كافّ الأذى عن الناس، فأقواله طيّبة، وأعماله حسنة، يقصده من يقصده بعد الله لقضاءِ دَين وتفريج همٍّ وكشفِ كَرب وتيسيرٍ على معسِر، فإذا ذلك الإنسان طيِّبُ النفس باذل المعروف حَسَن الأخلاق ما استطاع لذلك سبيلاً، وإذا المكروبُ والمهموم والمُعسِر يرفع أكفَّه إلى الله أن يرحمَ والدَي ذلك الإنسان، ويحسنَ إلى والدَي ذلك الإنسان، فيقول: غفر الله لك ورحم أبويك وأحسن إليهما.
فما أعظمها من نِعمة، وما أكبره من فضل. الأبوان تحتَ الثرى، ولكن سيرتهما ظاهرة، وأسماؤهما على الألسنِ دائرة، بذلك الإنسان الذي هَذَّبَ الله أخلاقه وطيَّب نفسه، فأصبح عينًا جارية لأبويه، بالأعمال الطيِّبة والأخلاق الحسنة؛ رحِمٌ يصلها، ومسكينٌ يحسِن إليه، وصغارٌ يأويهم ويحسن إليهم، وإذا الدعواتُ تصل إلى الله، فكم من مكروبٍ فرَّج كربَه، ومن مهموم فرَّج همَّه، ومن معسِر يسَّر عليه، ومن مكروب ومصاب بآلام جاءت تلك الدعوات إلى الله لتصعَد إلى السماء راجيًا صاحبُها من ربِّ العالمين أن يثيب ذلك [المحسن] ووالديه، وربك يقول: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186].
وكم من شقيٍّ صار وبالاً على نفسه وعلى من قبلَه، فأبواه لا يُذكَران ولا يعرفان، بل إذا ذُكرَا قيل: ما أنجبَا إلا شرًّا، ولا خلَّفا إلا سوءًا، وما تركا إلا رمادًا، فعياذًا بالله من سوء العاقبة، وعياذًا بالله من سوء الحال.
إذًا فالمسلم العاقل مَن هو خيرٌ لنفسه، وخير لوالديه، وخير لمجتمعه، وفَّق الله الجميعَ لكلِّ خير، وأعاننا وإياكم على كلّ خير.
وثالثًا: لعن رسولُ الله من آوى محدِثًا، فقال: ((لعن الله من آوى محدثا)).
المحدِث والمسيء والمجرِم لا يجوز إيواؤه، السّترُ عليه قبلَ أن تبلغَ الحدودُ السلطان، فإذا بلغت الحدودُ السلطانَ فلعَن الله الشافعَ والمشفَّع، لكن إيواء المجرم بالتستُّر عليه أو إعانته على جُرمه أو تمكينه من ضلالِه فإنَّ المسلمَ مع الحقّ دائر، وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلْبرِ وَٱلتَّقْوَىٰ وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلإِثْمِ وَٱلْعُدْوَانِ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ آلْعِقَابِ [المائدة:2].
فالمجرمُ لا أعينه على جُرمه، أنصحُه، أوجِّهه، أرشِده، أحذِّره، أبيِّن له أخطاءه، وأصوِّر له تجاوزاتِه، وأدعوه إلى الخير، وآخذ بيده إلى الطريق المستقيم، هذا هو الواجب، أمّا أن أدافعَ عنه وعن جرمه وإثمه وأكون في صفِّه ضدَّ العدالة وأنصُره على ظلمه وجُرمه وأتغاضى عن معايبه فذاك المنكر والبلاء.
دعاةُ الفُرقة ودعاةُ الفتنة ودعاة السوء ودعاة الضلال ودعاة الفساد ومن يسعَون في الأرض فسادًا بأقوالهم وأعمالهم موقِفي معهم نصيحتُهم إن قبِلوا، تحذيرهم من ضلالهم إن قصَدوا الحقَّ، وإلاَّ فلا أنصرُهم ولا أؤيِّدهم ولا أعتذِر عنهم إذا أبَوا قبول الحقّ والخضوع له، فإنّ المسلم لا ينصر الظلمَ ولا يؤيِّدهم، في الحديث: ((انصُر أخاك ظالمًا أو مظلومًا))، تساءل الصحابة: يا رسول الله، أنصرُه مظلومًا، فكيف أنصره ظالمًا؟! قال: ((تردعُه عن الظلم، فذاك نصرُك إياه)) [3]. فإذا رأيتُ ظالمًا ومفسدًا وساعيًا في الأرض فسادًا ومهدِّدًا لأمن الأمة فأنا أنصحه وأنصره بردْعه عن الظلم والأخذ على يده، وأما أن أؤيّده على جرمه وأنصرَه على ظلمه وأعينه على فساده فتلك المصيبة العظمى.
ورابعُها: يخبرنا عن مستحقِّ اللعنة الله بقوله: ((لعن الله من غيَّر منار الأرض))، وهي حدودها وعلاماتُها؛ بأن يتعدَّى على مُلك غيره ويزيل علامات مُلك غيره ويحلُّ أعلامه مكانَ أعلام غيره ظلمًا وعدوانًا، وهذا اقتطاعٌ لأموال المسلمين بغير حقّ، ونبيّنا يحذِّرنا فيقول: ((مَن اقتطع شِبرًا من أرض ظلمًا طُوِّقه يومَ القيامة من سبع أراضين)) [4]، ويقول أيضًا: ((ليس لعِرقٍ ظالم حقّ)) [5].
كلّ هذا تحذيرٌ للمسلم من أن يتعدَّى على غيره، ويقتطعَ مال غيره، ويضيف مالَ غيره إليه، فإنَّ الظلم ظلماتٌ يوم القيامة، فينتفع بتلك المساحة في الدنيا، ولكن يحمِلها أوزارًا يومَ لقاء الله، يُطوَّقها من سبع أرضين عقوبةً له على جُرمه وظلمه وتعدِّيه وعدم مبالاته بحقوق المسلمين.
تلك خصال أربع حذَّرنا منها نبيّنا ، والمسلم يقف أمام ذلك الوعيد الشديد ليجتنبَه وتبتعِد عنه ويتقي الله في أحواله كلها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَمَا ءاتَـٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَـٰكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ [الحشر:7].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
أيها المسلم، علامةُ الإيمان حقًّا الاستجابةُ لله ورسوله، طاعةُ الله وطاعة رسوله فيما أمرا به وفيما نهيا عنه، إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ ٱلْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُواْ إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ [النور:51].
حذَّرك نبيك من الذبح لغير الله، فإياك وتلك الجريمةَ، وإن كنتُ أعلم أن المسلمَ لن يذبح لقبر ولا وثن، لكن هؤلاء الكهّان، هؤلاء المشعوذون أضلّوا الناسَ عن طريق الله المستقيم، وصدُّوهم عن طريق الهدى، وأمروهم بالذبح لغير الله، يزعمُون أنَّ في هذا الشفاء من المرض؛ لأنهم يقولون: نحن نستعين بالجنِّ المسلمين، نستعين بهم، فلا بدّ أن نذبحَ لهم ذبيحة ليعينونا ويكشفوا مرضنا وضررنا.
أيها المسلم، هؤلاء أفسدُوا دينَك، وأكلوا مالك، وكذبوا وظلموا، والشفاءُ والضرّ بيد الله، وَإِن يَمْسَسْكَ ٱللَّهُ بِضُرّ فَلاَ كَـٰشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَىٰ كُلّ شَىْء قَدُيرٌ [الأنعام:17].
أيها المسلم، كن سببًا لوصول الخير لأبويك، كن سببًا لحصول الخير لهم، وكن سببًا لزيادة حسناتهم، وكن سببًا لارتياحهم في قبورهم، فقد ربَّياك صغيرا، وقاما بخدمتك، ولن تستطيعَ القيام بكامل حقِّهما مهما فعلت، إذًا فقابِل ذلك بأن تكونَ وسيلةَ خير لهم بالأعمال الطيبة والأخلاق الكريمة والطاعة قبل ذلك لله ورسوله.
احذر أهلَ الضلال، احذر أهلَ النفاق والفساد، احذَر من يُظهرون الإصلاحَ وهم مفسدون، ومن يريدون الخيرَ وهم كاذبون، وَٱللَّهُ يَعْلَمُ ٱلْمُفْسِدَ مِنَ ٱلْمُصْلِحِ [البقرة:220]، فلا تؤوي حَدثًا، ولا تنصُرُ باطلاً، ولا تعين مجرمًا على جرمه.
واحفظ مالك واتَّق الله، واحفظ للناس حقوقَهم، وإياك والتعدي والجنايةَ عليهم، فإن الله سائلُك يومَ القيامة، يوم تقف بين يدي الله، وقد ذهبت الأموال كلُّها، ولم يبق إلا حسناتٌ تؤخَذ منك أو سيئات تُحمَّلُ إياها، فاتَّق الله في نفسك، وقف عندما حُدَّ لك، وإياك وظلمَ الناس، ولا سيما إن كنتَ ذا جاه وقدرة وقبيلُك ضعيف، فإن الله ناصره، وإنّ الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلِته، وإن دعوةَ المظلوم لتصلُ إلى الله، وإن الله ليقول: وعزَّتي لأنصرنَّك ولو بعد حين. فاحذر مظالمَ العباد، فالمؤمن حقًّا من أمِنه الناس على دمائهم وأموالهم.
أسأل الله أن يرزقَ الجميعَ الاستقامة على الهدى، وأن يحفظنا من مكائدِ الشيطان، وأن يبصِّرنا في أنفسنا ويعيذنا من ظلم العباد، إنه على كل شيء قدير.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار.
وصلوا ـ رحمكم الله ـ على عبد الله ورسوله محمد كما أمركم بذلك ربكم، قال تعالى: إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَـٰئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِىّ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ
عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين...
وإذا لعن اللهُ العبدَ لعنَه كلُّ شيء، أُولَـئِكَ يَلْعَنُهُمُ ٱللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ ٱللَّـٰعِنُونَ [البقرة:159].
إذًا فالمسلمُ يتَّقي لعنةَ الله بقدرِ ما يستطيع، ويتحرَّز عنها بقدرِ ما يمكنه، لينجوَ من غضب الله وسخطه.
وهذه الجمل الأربع المنهيّ عنها، أوّلها قوله : ((لعن الله من ذبح لغير الله)).
الذبح عبادةٌ لله، الذبحُ قربانٌ يتقرَّب به العبدُ إلى الله، قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ [الأنعام:162، 163]. وأمر الله نبيَّه بأن يكثِر من الصلاة له والنَّحر له، فقال: فَصَلّ لِرَبّكَ وَٱنْحَرْ [التكاثر:2].
هذه البهيمةُ التي خلقها الله لنا وسخَّرها لنا وهيَّأها لنا انتفاعًا ركوبًا وشُربًا وأكلا يجب أن نُريق دمها لمن خلقها وكوَّنها، أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعـٰمًا فَهُمْ لَهَا مَـٰلِكُونَ وَذَلَّلْنَـٰهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ وَلَهُمْ فِيهَا مَنَـٰفِعُ وَمَشَـٰرِبُ أَفَلاَ يَشْكُرُونَ [يس:71-73].
سخَّرها لنا وليست بأقلَّ شأنًا من السباع الضارية، لكن الله سخَّرها لنا نقودها وننتفعُ منها، كَذٰلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَبَشّرِ ٱلْمُحْسِنِينَ [الحج:37]، كَذٰلِكَ سَخَّرْنَـٰهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الحج:36].
إذًا فإراقةُ دماء بهيمة الأنعام من إبلٍ أو بقر أو غنَم لغير الله قربانٌ لغير الله وشِرك بالله وكفر به، أولئك الذين يذبحون لأربابِ القبور، ويتقرَّبون بالذبح لهم، ويعدُّون تلك قربةً يتقرّبون بها إلى الأموات، وهذا ممّا جاء الإسلام بالتحذير منه والوعيد على فاعله.
كانوا في جاهليتهم يذبحون لأصنامِهم وأوثانهم، قال الله: أَفَرَءيْتُمُ ٱللَّـٰتَ وَٱلْعُزَّىٰ وَمَنَوٰةَ ٱلثَّالِثَةَ ٱلأُخْرَىٰ [النجم:19، 25]، لكثرة ما يُمنَى عندها ويراق عندها من الدماء.
هكذا كان حالُ المشركين، يذبحون لأصنامهم وأوثانهم، يتقرَّبون بذلك إليهم، وهم ضالّون في كلِّ تصرُّفاتهم، إذ من يعبدون من دون الله لا يسمَع دعاءً ولا يعلَم بحالهم، إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا ٱسْتَجَابُواْ لَكُمْ وَيَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِـكُمْ [فاطر:14].
ذبحٌ لغير الله يفعله بعضُ الجَهَلة، يذبحون خوفًا من الجنّ ومن تأثيرهم عليهم. ذبحٌ لغير الله يأمر به الكهانُ والمشعوذون، يأمرون من أتاهم وطلَب منهم العلاج أن يجعلوا من وسائل ذلك أن يأمروه بذبحٍ لغير الله، فيقول: اذبح إلى الشرقِ لفلان أو باسم فلان أو باسم فلان، فيأتي الجاهل المسكين، فيطيعهم، ولا يعلم أنَّ تلك عبادةٌ لغير الله وشركٌ مع الله غيره.
أيها المسلم، فالذبح لغير الله قربانًا لغير الله كفرٌ ينقُل من الملّة، فمن ذبح لغير الله فليتُب إلى الله من جرمه.
وإنَّ الكهان والمشعوذين يأمرون من أتاهم بالذبح لغير الله، ويذكرون أسماءَ الشياطين ومَن يعبدونهم من دون الله، ليكشفوا الضرَّ ويعالجوا المرضَ ويخبروا عن السِّحر إلى غير ذلك من خرافات الجاهلية وأباطيلها.
وثانيًا: يلعَن رسول الله من لَعن والديه، فيقول: ((لعن الله من لعن والديه)).
أيها المسلم، إنَّك لا تكاد أن تسمعَ شخصًا يلعن أباه وأمَّه إلاَّ إنسان متمرِّد قاسي القلب فاقد الإيمان والعياذ بالله، فلعنُ الأبِ والأمّ لا يصدر من عاقلٍ يُحسِن ما يقول ويُدرك حقيقةَ ما يقول؛ إذ هذا مضادٌّ للبر، ومعاكس للإحسان، ودالٌّ على أصالة اللآمة والخِسَّة في نفس ذلك الإنسان. ولذا لما قال النبي : ((لعن الله من لعن والديه)) قال الصحابة: يا رسول الله، وهل يلعن الرجل والديه؟! هل يسبُّ الرجل أباه وأمه؟! هل يُعقَل هذا أم يليق هذا بإنسان يعقِل ما يقول؟! قد يكون لا بِرَّ فيه، ولكن أن يبلغَ به الأمر إلى أن يلعن الأبَ والأم، كيف يكون ذلك؟! قال لهم : ((يسبُّ أبَا الرجل فيسبُّ أباه، ويسبُّ أمَّه فيسبُّ أمه)) [2].
أيّها المسلم، من الأولادِ من هم رحمةٌ على آبائهم وأمّهاتهم، ومن الأولاد من هم شَقاء وعَناء على الأب والأم. من الأولاد من يتنعَّم الأبوان في اللَّحد بدعواتهم الصالحةِ وأعمالهم الخيِّرة، فكلَّما رُئي ذلك الإنسان وشوهدت أعماله الطيبة وأخلاقه الحسنة ومعاملته الجيِّدة تُرحِّم على أبويه ودُعي لأبويه، فأبواه تصِلهم تلك الدعواتُ الصالحة، تصعَد إلى السماء، وينتفع بها الآباء والأمهات.
ولدٌ نديُّ الكفِّ بالصدقة، باذل الجاهِ والمعروف، محسنٌ لعباد الله، باذل كلَّ خُلُق كريم، كافّ الأذى عن الناس، فأقواله طيّبة، وأعماله حسنة، يقصده من يقصده بعد الله لقضاءِ دَين وتفريج همٍّ وكشفِ كَرب وتيسيرٍ على معسِر، فإذا ذلك الإنسان طيِّبُ النفس باذل المعروف حَسَن الأخلاق ما استطاع لذلك سبيلاً، وإذا المكروبُ والمهموم والمُعسِر يرفع أكفَّه إلى الله أن يرحمَ والدَي ذلك الإنسان، ويحسنَ إلى والدَي ذلك الإنسان، فيقول: غفر الله لك ورحم أبويك وأحسن إليهما.
فما أعظمها من نِعمة، وما أكبره من فضل. الأبوان تحتَ الثرى، ولكن سيرتهما ظاهرة، وأسماؤهما على الألسنِ دائرة، بذلك الإنسان الذي هَذَّبَ الله أخلاقه وطيَّب نفسه، فأصبح عينًا جارية لأبويه، بالأعمال الطيِّبة والأخلاق الحسنة؛ رحِمٌ يصلها، ومسكينٌ يحسِن إليه، وصغارٌ يأويهم ويحسن إليهم، وإذا الدعواتُ تصل إلى الله، فكم من مكروبٍ فرَّج كربَه، ومن مهموم فرَّج همَّه، ومن معسِر يسَّر عليه، ومن مكروب ومصاب بآلام جاءت تلك الدعوات إلى الله لتصعَد إلى السماء راجيًا صاحبُها من ربِّ العالمين أن يثيب ذلك [المحسن] ووالديه، وربك يقول: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186].
وكم من شقيٍّ صار وبالاً على نفسه وعلى من قبلَه، فأبواه لا يُذكَران ولا يعرفان، بل إذا ذُكرَا قيل: ما أنجبَا إلا شرًّا، ولا خلَّفا إلا سوءًا، وما تركا إلا رمادًا، فعياذًا بالله من سوء العاقبة، وعياذًا بالله من سوء الحال.
إذًا فالمسلم العاقل مَن هو خيرٌ لنفسه، وخير لوالديه، وخير لمجتمعه، وفَّق الله الجميعَ لكلِّ خير، وأعاننا وإياكم على كلّ خير.
وثالثًا: لعن رسولُ الله من آوى محدِثًا، فقال: ((لعن الله من آوى محدثا)).
المحدِث والمسيء والمجرِم لا يجوز إيواؤه، السّترُ عليه قبلَ أن تبلغَ الحدودُ السلطان، فإذا بلغت الحدودُ السلطانَ فلعَن الله الشافعَ والمشفَّع، لكن إيواء المجرم بالتستُّر عليه أو إعانته على جُرمه أو تمكينه من ضلالِه فإنَّ المسلمَ مع الحقّ دائر، وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلْبرِ وَٱلتَّقْوَىٰ وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلإِثْمِ وَٱلْعُدْوَانِ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ آلْعِقَابِ [المائدة:2].
فالمجرمُ لا أعينه على جُرمه، أنصحُه، أوجِّهه، أرشِده، أحذِّره، أبيِّن له أخطاءه، وأصوِّر له تجاوزاتِه، وأدعوه إلى الخير، وآخذ بيده إلى الطريق المستقيم، هذا هو الواجب، أمّا أن أدافعَ عنه وعن جرمه وإثمه وأكون في صفِّه ضدَّ العدالة وأنصُره على ظلمه وجُرمه وأتغاضى عن معايبه فذاك المنكر والبلاء.
دعاةُ الفُرقة ودعاةُ الفتنة ودعاة السوء ودعاة الضلال ودعاة الفساد ومن يسعَون في الأرض فسادًا بأقوالهم وأعمالهم موقِفي معهم نصيحتُهم إن قبِلوا، تحذيرهم من ضلالهم إن قصَدوا الحقَّ، وإلاَّ فلا أنصرُهم ولا أؤيِّدهم ولا أعتذِر عنهم إذا أبَوا قبول الحقّ والخضوع له، فإنّ المسلم لا ينصر الظلمَ ولا يؤيِّدهم، في الحديث: ((انصُر أخاك ظالمًا أو مظلومًا))، تساءل الصحابة: يا رسول الله، أنصرُه مظلومًا، فكيف أنصره ظالمًا؟! قال: ((تردعُه عن الظلم، فذاك نصرُك إياه)) [3]. فإذا رأيتُ ظالمًا ومفسدًا وساعيًا في الأرض فسادًا ومهدِّدًا لأمن الأمة فأنا أنصحه وأنصره بردْعه عن الظلم والأخذ على يده، وأما أن أؤيّده على جرمه وأنصرَه على ظلمه وأعينه على فساده فتلك المصيبة العظمى.
ورابعُها: يخبرنا عن مستحقِّ اللعنة الله بقوله: ((لعن الله من غيَّر منار الأرض))، وهي حدودها وعلاماتُها؛ بأن يتعدَّى على مُلك غيره ويزيل علامات مُلك غيره ويحلُّ أعلامه مكانَ أعلام غيره ظلمًا وعدوانًا، وهذا اقتطاعٌ لأموال المسلمين بغير حقّ، ونبيّنا يحذِّرنا فيقول: ((مَن اقتطع شِبرًا من أرض ظلمًا طُوِّقه يومَ القيامة من سبع أراضين)) [4]، ويقول أيضًا: ((ليس لعِرقٍ ظالم حقّ)) [5].
كلّ هذا تحذيرٌ للمسلم من أن يتعدَّى على غيره، ويقتطعَ مال غيره، ويضيف مالَ غيره إليه، فإنَّ الظلم ظلماتٌ يوم القيامة، فينتفع بتلك المساحة في الدنيا، ولكن يحمِلها أوزارًا يومَ لقاء الله، يُطوَّقها من سبع أرضين عقوبةً له على جُرمه وظلمه وتعدِّيه وعدم مبالاته بحقوق المسلمين.
تلك خصال أربع حذَّرنا منها نبيّنا ، والمسلم يقف أمام ذلك الوعيد الشديد ليجتنبَه وتبتعِد عنه ويتقي الله في أحواله كلها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَمَا ءاتَـٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَـٰكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ [الحشر:7].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
أيها المسلم، علامةُ الإيمان حقًّا الاستجابةُ لله ورسوله، طاعةُ الله وطاعة رسوله فيما أمرا به وفيما نهيا عنه، إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ ٱلْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُواْ إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ [النور:51].
حذَّرك نبيك من الذبح لغير الله، فإياك وتلك الجريمةَ، وإن كنتُ أعلم أن المسلمَ لن يذبح لقبر ولا وثن، لكن هؤلاء الكهّان، هؤلاء المشعوذون أضلّوا الناسَ عن طريق الله المستقيم، وصدُّوهم عن طريق الهدى، وأمروهم بالذبح لغير الله، يزعمُون أنَّ في هذا الشفاء من المرض؛ لأنهم يقولون: نحن نستعين بالجنِّ المسلمين، نستعين بهم، فلا بدّ أن نذبحَ لهم ذبيحة ليعينونا ويكشفوا مرضنا وضررنا.
أيها المسلم، هؤلاء أفسدُوا دينَك، وأكلوا مالك، وكذبوا وظلموا، والشفاءُ والضرّ بيد الله، وَإِن يَمْسَسْكَ ٱللَّهُ بِضُرّ فَلاَ كَـٰشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَىٰ كُلّ شَىْء قَدُيرٌ [الأنعام:17].
أيها المسلم، كن سببًا لوصول الخير لأبويك، كن سببًا لحصول الخير لهم، وكن سببًا لزيادة حسناتهم، وكن سببًا لارتياحهم في قبورهم، فقد ربَّياك صغيرا، وقاما بخدمتك، ولن تستطيعَ القيام بكامل حقِّهما مهما فعلت، إذًا فقابِل ذلك بأن تكونَ وسيلةَ خير لهم بالأعمال الطيبة والأخلاق الكريمة والطاعة قبل ذلك لله ورسوله.
احذر أهلَ الضلال، احذر أهلَ النفاق والفساد، احذَر من يُظهرون الإصلاحَ وهم مفسدون، ومن يريدون الخيرَ وهم كاذبون، وَٱللَّهُ يَعْلَمُ ٱلْمُفْسِدَ مِنَ ٱلْمُصْلِحِ [البقرة:220]، فلا تؤوي حَدثًا، ولا تنصُرُ باطلاً، ولا تعين مجرمًا على جرمه.
واحفظ مالك واتَّق الله، واحفظ للناس حقوقَهم، وإياك والتعدي والجنايةَ عليهم، فإن الله سائلُك يومَ القيامة، يوم تقف بين يدي الله، وقد ذهبت الأموال كلُّها، ولم يبق إلا حسناتٌ تؤخَذ منك أو سيئات تُحمَّلُ إياها، فاتَّق الله في نفسك، وقف عندما حُدَّ لك، وإياك وظلمَ الناس، ولا سيما إن كنتَ ذا جاه وقدرة وقبيلُك ضعيف، فإن الله ناصره، وإنّ الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلِته، وإن دعوةَ المظلوم لتصلُ إلى الله، وإن الله ليقول: وعزَّتي لأنصرنَّك ولو بعد حين. فاحذر مظالمَ العباد، فالمؤمن حقًّا من أمِنه الناس على دمائهم وأموالهم.
أسأل الله أن يرزقَ الجميعَ الاستقامة على الهدى، وأن يحفظنا من مكائدِ الشيطان، وأن يبصِّرنا في أنفسنا ويعيذنا من ظلم العباد، إنه على كل شيء قدير.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار.
وصلوا ـ رحمكم الله ـ على عبد الله ورسوله محمد كما أمركم بذلك ربكم، قال تعالى: إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَـٰئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِىّ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ
عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين...