خطبة : ( لا كثير مع التبذير ولا قليل مع حسن التدبير )
عبدالله البصري
1438/01/27 - 2016/10/28 06:54AM
لا كثير مع التبذير ولا قليل مع حسن التدبير 27 / 1 / 1438
الخطبة الأولى :
أَمَّا بَعدُ ، فَـ" يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم وَالَّذِينَ مِن قَبلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ "
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، يَتَحَدَّثُ النَّاسُ مُنذُ مُدَّةٍ عَنِ الرَّوَاتِبِ حَدِيثَ الخَائِفِينَ ، وَقَد وَضَعَ كُلٌّ مِنهُم يَدَهُ عَلَى قَلبِهِ ، لا يَدري مَا اللهُ صَانِعٌ بِهَذَا المَصدَرِ مِن مَصَادِرِ رِزقِهِ ، أَمَّا وَقَد تَسَلَّمُوهَا قَبلَ لَيلَةٍ أَو لَيلَتَينِ ، فَقَد بَانَ لِكُلٍّ حَالُ رَاتِبِهِ وَمَا أَصَابَهُ ، غَيرَ أَنَّ مِمَّا يَجِبُ أَلاَّ يُشَكَّ فِيهِ ، وَهُوَ مِمَّا يَبعَثُ السَّكِينَةَ في النُّفُوسِ وَيَبُثُّ الطُّمَأنِينَةَ في القُلُوبِ ، أَنَّ ذَلِكَ لم يَخرُجْ عَمَّا قَدَّرَهُ اللهُ لِكُلِّ عَبدٍ مِن الرِّزقِ وَهُوَ في بَطنِ أُمِّهِ ، فَفِي الحَدِيثِ المُتَّفَقِ عَلَيهِ عَن عَبدِاللهِ بنِ مَسعُودٍ – رَضِيَ اللهُ عَنهُ - قَالَ : حَدَّثَنَا رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ الصَّادِقُ المَصدُوقُ : " إِنَّ أَحَدَكُم يُجمَعُ خَلقُهُ في بَطنِ أُمِّهِ أَربَعِينَ يَومًا ، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثلَ ذَلِكَ ، ثُمَّ يَكُونُ مُضغَةً مِثلَ ذَلِكَ ، ثُمَّ يَبعَثُ اللهُ مَلَكًا فَيُؤمَرُ بِأَربَعِ كَلِمَاتٍ وَيُقَالُ لَهُ : اُكتُبْ عَمَلَهُ وَرِزقَهُ وَأَجَلَهُ وَشَقِيٌّ أَو سَعِيدٌ ... " الحَدِيثَ .
وَبَعِيدًا عَنِ الحَدِيثِ عَن زِيَادَةِ الرَّوَاتِبِ أَو نُقصَانِهَا ، أَو حَذفِ شَيءٍ مِنَ البَدَلاتِ أَو تَعدِيلِهَا ، فَإِنَّ ثَمَّةَ أَمرًا مُهِمًّا قَد غَفَلَ عَنهُ كَثِيرٌ مِنَّا ، وَغَابَ عَن الأَذهانِ في خِضَمِّ مَا نَنعَمُ بِهِ مِن نِعَمٍ مُمتَدَّةٍ وَخَيرَاتٍ وَاسِعَةٍ وَتَوَفُّرٍ في الأَموَالِ ، مَعَ أَنَّهُ مِنَ الأُصُولِ الَّتي يَحيَا بِهَا النَّاسُ حَيَاةً كَرِيمَةً لَوِ اتَّبَعُوهَا ، وَيَهنَؤُونَ بِعَيشِهِم لَو عَمِلُوا بِهَا وَاعتَمَدُوهَا ، وَإِلاَّ فَإِنَّ مَن أَهمَلَهُ وَلم يَنتَبِهْ إِلَيهِ ، ضَاعَت عَلَيهِ أَموَالُهُ وَذَهَبَت وَتَبَدَّدَت ، وَإِن كَانَ دَخلُهُ كَعَشَرَةٍ مِنَ الرِّجَالِ . أَرَأَيتُم لَو أَنَّ امرَأً اشتَرَى في يَومِهِ مَا يَحتَاجُ إِلَيهِ وَمَا لا يَلزَمُهُ ، وَأَطَاعَ مَن تَحتَ يَدِهِ مِن زَوجَةٍ وَأَبنَاءٍ في كُلِّ مَا يَطلُبُونَهُ وَيَشتَهُونَهُ ، وَقَلَّدَ الآخَرِينَ فِيمَا يَشتَرُونَ وَيَركَبُونَ وَيَسكُنُونَ ، هَل تَرونَهُ سَيَبقَى مِن رَاتِبِهِ شَيءٌ وَلَو كَثُرَ ؟! لا أَظُنُّ الإِجَابَةَ تَخفَى عَلَى عَاقِلٍ حَصِيفٍ ، وَمِن ثَمَّ كَانَ ادِّخَارُ المَالِ وَالاقتِصَادُ في الإِنفَاقِ مَنهَجًا لِلعُقَلاءِ المُدرِكِينَ عَوَاقِبَ الأُمُورِ ، جَاءَت بِهِ الشَّرَائِعُ وَصَدَّقَتهُ الوَقَائِعُ ، وَأَثبَتَتهُ تَجَارِبُ الحَيَاةِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا ، فَفي البُخَارِيِّ مِن حَدِيثِ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنهُ - أَنَّ النَّبيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَبِيعُ نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ , وَيَحبِسُ لِأَهلِهِ قُوتَ سَنَتِهِم .
وَفي الصَّحِيحَينِ مِن حَدِيثِ سَعدِ بنِ أَبي وَقَّاصٍ – رَضِيَ اللهُ عَنهُ - قَالَ : مَرِضتُ عَامَ الفَتحِ مَرَضًا أَشفَيتُ عَلَى المَوتِ ، فَأَتَاني رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يَعُودُني ، فَقُلتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، إِنَّ لي مَالاً كَثِيرًا ، وَلَيسَ يَرِثُني إِلاَّ ابنَتي ، أَفَأُوصِي بِمَالي كُلِّهِ ؟ قَالَ : " لا " قُلتُ : فَثُلُثَي مَالي ؟ قَالَ : " لا " قُلتُ : فَالشَّطرُ ؟ قَالَ : " لا " قُلتُ : فَالثُّلُثُ ؟ قَالَ : " الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ ، إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغنِيَاءَ خَيرٌ مِن أَن تَذَرَهُم عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ ... " الحَدِيثَ .
وَفي الصَّحِيحَينِ في قِصَّةِ تَوبَةِ كَعبِ بنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللهُ عَنهُ – قَالَ : قُلتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، إِنَّ مِن تَوبَتِي أَن أَنخَلِعَ مِن مَالي صَدَقَةً إِلى اللهِ وَإِلى رَسُولِ اللهِ . قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - : أَمسِكْ عَلَيكَ بَعضَ مَالِكَ فَهُوَ خَيرٌ لَكَ ... الحَدِيثَ .
وَعَن عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ - رَضِيَ اللهُ عَنهُ - قَالَ : أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يَومًا أَن نَتَصَدَّقَ ، فَوَافَقَ ذَلِكَ مَالاً عِندِي ، فَقُلتُ : اليَومَ أَسبِقُ أَبَا بَكرٍ إِنْ سَبَقتُهُ يَومًا ، فَجِئتُ بِنِصفِ مَالي ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - : " مَا أَبقَيتَ لأَهلِكَ ؟ " قُلتُ : مِثلَهُ . قَالَ : وَأَتى أَبُو بَكرٍ - رَضِيَ اللهُ عَنهُ - بِكُلِّ مَا عِندَهُ ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - : " مَا أَبقَيتَ لأَهلِكَ ؟ " قَالَ : أَبقَيتُ لَهُمُ اللهَ وَرَسُولَهُ . قُلتُ : لا أُسَابِقُكَ إِلى شَيءٍ أَبَدًا " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ الأَلبَانيُّ .
وَهَذِهِ الأَحَادِيثُ كَمَا سَمِعتُم – أَيُّهَا المُسلِمُونَ – تُبِينُ جَوَازَ ادِّخَارِ ثُلُثَيِ المَالِ أَو نِصفِهِ ، أَو قُوتِ سَنَةٍ أَو أَكثَرَ ، بَل فِيهَا جَوَازُ ادِّخَارِ المَالِ لِلأَبنَاءِ بَعدَ المَوتِ ، وَلا يُقَالُ إِنَّ هَذَا مِن طُولِ الأَمَلِ أَوِ البُخلِ ؛ لأَنَّ الإِعدَادَ لِلحَاجَةِ مُستَحسَنٌ شَرعًا وَعَقلاً ، وَخَاصَّةً حِينَمَا يَكُونُ المَرءُ مِمَّا لا يَصبِرُ عَلَى ضَيقِ العَيشِ وَلا يَتَحَمَّلُ شِدَّتَهُ , وَإِلاَّ فَإِنَّ مَن يَصبِرُ عَلَى شَظَفِ العَيشِ وَمَرَارَةِ الفَقرِ ، فَإِنَّ مِنَ المُستَحسَنِ لَهُ تَقدِيمَ المَالِ كُلِّهِ أَمَامَهُ ؛ لِيَلقَاهُ يَومَ القِيَامَةِ ، في مَوقِفٍ هُوَ أَشَدُّ مَا يَكُونُ إِلَيهِ حَاجَةً وَاضطِرَارًا ؛ وَمِن ثَمَّ كَانَ – عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ – في نَفسِهِ لا يَدَّخِرُ شَيئًا لِغَدٍ ، قَالَ – صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - : " مَا يَسُرُّني أَنَّ عِندِي مِثلَ أُحُدٍ هَذَا ذَهَبًا ، تَمضِي عَلَيهِ ثَالِثَةٌ وَعِندِي مِنهُ دِينَارٌ إِلاَّ شَيءٌ أُرصِدُهُ لِدَينٍ " رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ .
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِنَّ تَقَلُّبَ أَحوَالِ الدُّنيَا بَينَ الشِّدَّةِ وَالرَّخَاءِ ، وَانتِقَالَ النَّاسِ مَا بَينَ الفَقرِ وَالغِنى ، أَمرٌ لا مَنَاصَ مِنهُ لأَحَدٍ كَائِنًا مَن كَانَ ، وَلا تَسلَمُ مِنهُ بِلادٌ وَلا يَخلُو مِنهُ مَكَانٌ وَلا زَمَانٌ ، وَنَحنُ نَقرَأُ في كِتَابِ اللهِ مَا أَصَابَ النَّاسَ في مِصرَ في عَهدِ نَبيِّ اللهِ يُوسُفَ – عَلَيهِ السَّلامُ - وَكَيفَ رَأَى المَلِكُ تِلكَ الرُّؤيَا في مَنَامِهِ ، لِيَعبُرَهَا يُوسُفُ – عَلَيهِ السَّلامُ – لَهُم بما عَلَّمَهُ اللهُ مِن تَأوِيلِ الأَحَادِيثِ ، وَيُنَظِّمُ لَهُم مَوَارِدَهُم ، وَيَدُلَّهُم عَلَى ضَرُورَةِ الاستِعَانَةِ بِالرَّخَاءِ عَلَى الشِّدَّةِ ، وَبِالادِّخَارِ مِن أَيَّامِ الغِنى وَالسَّعَةِ لأَيَّامِ الفَقرِ وَالضِّيقِ ، قَالَ – سُبحَانَهُ - : " وَقَالَ المَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأكُلُهُنَّ سَبعٌ عِجَافٌ وَسَبعَ سُنبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَفتُوني في رُؤيَايَ إِنْ كُنتُم لِلرُّؤيَا تَعبُرُونَ . قَالُوا أَضغَاثُ أَحلامٍ وَمَا نَحنُ بِتَأوِيلِ الأَحلامِ بِعَالِمِينَ . وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنهُمَا وَادَّكَرَ بَعدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُم بِتَأوِيلِهِ فَأَرسِلُونِ . يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا في سَبعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأكُلُهُنَّ سَبعٌ عِجَافٌ وَسَبعِ سُنبُلَاتٍ خُضرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرجِعُ إِلى النَّاسِ لَعَلَّهُم يَعلَمُونَ . قَالَ تَزرَعُونَ سَبعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُم فَذَرُوهُ في سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأكُلُونَ . ثُمَّ يَأتي مِن بَعدِ ذَلِكَ سَبعٌ شِدَادٌ يَأكُلْنَ مَا قَدَّمتُم لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحصِنُونَ . ثُمَّ يَأتي مِن بَعدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعصِرُونَ "
لَقَد أَرشَدَهُم – عَلَيهِ السَّلامُ – بما عَلَّمَهُ اللهُ بِأَن يَأكُلُوا القَلِيلَ وَيَدَّخِرُوا الكَثِيرَ ، وَدَلَّهُم عَلَى أَنَّ عَدَمَ الإِسرَافِ في الإِنفَاقِ مِمَّا في أَيدِيهِم ، هُوَ خَيرُ مَا يَستَعِينُونَ بِهِ عَلَى تَسيِيرِ أُمُورِهِم وَشُؤُونِ حَيَاتِهِم ، حِينَ تَشتَدُّ بِهِمُ السُّنُونَ وَتُجدِبُ أَرضُهُم وَيَقِلُّ مَا عِندَهُم . وَلَيسَ الحَثُّ عَلَى الادِّخَارِ وَالاقتِصَادِ – أَيُّهَا المُسلِمُونَ – دَعوَةً إِلى أَن يَضعُفَ يَقِينُ المُسلِمِ بِرِزقِ اللهِ لَهُ في غَدِهِ ، أَو إِلى التَّحَلِّي بِالبُخلِ وَاعتِيَادِ الشُّحِّ ، أَوِ التَّقتِيرِ عَلَى مَن تَجِبُ عَلَيهِ نَفَقَتُهُم ، فَكُلُّ هَذَا مِمَّا لم يَأمُرْ بِهِ دِينٌ قَوِيمٌ وَلا يُقِرُّهُ عَقلٌ سَلِيمٌ ، وَلَكِنَّ المَقصُودَ أَن يَزِنَ المُسلِمُ مَنهَجَهُ في الإِنفَاقِ بِمَا وَجَّهَهُ رَبُّهُ وَخَالِقُهُ إِلَيهِ ، حَيثَ قَالَ – تَعَالى - : " وَلا تَجعَلْ يَدَكَ مَغلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبسُطْهَا كُلَّ البَسطِ فَتَقعُدَ مَلُومًا مَحسُورًا . إِنَّ رَبَّكَ يَبسُطُ الرِّزقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا " وَقَالَ - عَزَّ وَجَلَّ - : " وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لم يُسرِفُوا وَلم يَقتُرُوا وَكَانَ بَينَ ذَلِكَ قَوَامًا "
وَإِذَا كَانَ الإِسلامُ قَد أَبَاحَ الادِّخَارَ وَبَيَّنَ فَضِيلَتَهُ لِمَن يَحتَاجُ إِلَيهِ ، فَقَد حَذَّرَ مِنَ البُخلِ وَاكتِنَازِ المَالِ بِلا حَاجَةٍ ، وَحَبسِهِ عَمَّن يَجِبُ لَهُ وَعَدَمِ أَدَاءِ حُقُوقِ اللهِ فِيهِ ، قَالَ – جَلَّ وَعَلا - : " وَالَّذِينَ يَكنِزُونَ الذَّهَبَ وَالفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا في سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ . يَومَ يُحمَى عَلَيهَا في نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكوَى بها جِبَاهُهُم وَجُنُوبُهُم وَظُهُورُهُم هَذَا مَا كَنَزتُم لأَنفُسِكُم فَذُوقُوا مَا كُنتُم تَكنِزُونَ "
أَجَل – أَيُّهَا المُسلِمُونَ – إِنَّ المَقصُودَ هُوَ أَن يَسِيرَ المَرءُ فِيمَا آتَاهُ اللهُ مِن مَالٍ سَيرًا مُعتَدِلاً ، وَيُوَازِنَ إِنفَاقَهُ لِمَالِهِ في الوُجُوهِ المُختَلِفَةِ بَينَ مَا يَجِبُ وَمَا يَحسُنُ ، وَمَا لا يَجُوزُ وَلا يَحسُنُ ، فَإِنَّهُ إِن فَعَلَ ذَلِكَ بَارَكَ اللهُ لَهُ في مَالِهِ ، وَذَاقَ لَذَّتَهُ وَاستَمتَعَ بِهِ ، وَتَوَالى عَلَيهِ الرِّزقُ مِن رَبِّهِ ، وَلم يُضطَرَّ يَومًا لِمَا لا يَلِيقُ بِهِ ، وَاسمَعُوا إِلى هَذَا الحَدِيثِ الَّذِي يَروِيهِ أَبُو هُرَيرَةَ – رَضِيَ اللهُ عَنهُ - عَنِ النَّبيِّ – صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حَيثُ قَالَ : " بَينَا رَجُلٌ بِفَلاةٍ مِنَ الأَرضِ ، فَسَمِعَ صَوتًا في سَحَابَةٍ : اِسْقِ حَدِيقَةَ فُلاَنٍ . فَتَنَحَّى ذَلِكَ السَّحَابُ فَأَفرَغَ مَاءَهُ في حَرَّةٍ ، فَإِذَا شَرْجَةٌ مِن تِلكَ الشِّرَاجِ قَدِ استَوعَبَتْ ذَلِكَ المَاءَ كُلَّهُ ، فَتَتَبَّعَ المَاءَ ، فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ في حَدِيقَتِهِ يُحَوِّلُ المَاءَ بِمِسحَاتِهِ ، فَقَالَ لَهُ : يَا عَبدَاللهِ مَا اسمُكَ ؟ قَالَ : فُلاَنٌ . لِلاسمِ الَّذِي سَمِعَ في السَّحَابَةِ ، فَقَالَ لَهُ يَا عَبدَاللهِ ، لِمَ تَسأَلُني عَنِ اسمِي ؟ فَقَالَ : إِنِّي سَمِعتُ صَوتًا في السَّحَابِ الَّذِي هَذَا مَاؤُهُ يَقُولُ : اِسْقِ حَدِيقَةَ فُلاَنٍ لاسمِكَ ، فَمَا تَصنَعُ فِيهَا ؟ قَالَ : أَمَّا إِذَا قُلتَ هَذَا ، فَإِنِّي أَنظُرُ إِلى مَا يَخرُجُ مِنهَا فَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثِهِ ، وَآكُلُ أَنَا وَعِيَالِي ثُلُثًا ، وَأَرُدُّ فِيهَا ثُلُثَهُ " رَوَاهُ مُسلِمٌ .
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسأَلُكَ خَشيَتَكَ في الغَيبِ وَالشَّهَادَةِ ، وَنَسأَلُكَ كَلِمَةَ الحَقِّ في الغَضَبِ وَالرِّضَا ، وَنَسأَلُكَ القَصدَ في الغِنى وَالفَقرِ ، وَنَسأَلُكَ نَعِيمًا لا يَنفَدُ وَقُرَّةَ عَينٍ لا تَنقَطِعُ ، وَنَسأَلُكَ الرِّضَا بَعدَ القَضَاءِ ، وَنَسأَلُكَ بَردَ العَيشِ بَعدَ المَوتِ ، وَنَسأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلى وَجهِكَ الكَرِيمِ وَالشَّوقَ إِلى لِقَائِكَ ، في غَيرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ وَلا فِتنَةٍ مُضِلَّةٍ ، اللَّهُمَّ زَيِّنَّا بِزِينَةِ الإِيمَانِ وَاجعَلْنَا هُدَاةً مُهتَدِينَ ...
الخطبة الثانية :
أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ – تَعَالى - وَأَطِيعُوهُ وَاشكُرُوهُ " وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجعَلْ لَهُ مَخرَجًا . وَيَرزُقْهُ مِن حَيثُ لا يَحتَسِبُ "
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، حِينَمَا يُنفِقُ أَحَدُنَا بِلا حِسَابٍ لِيُسَافِرَ لِلسِّيَاحَةِ ، أَو لِيُغَيِّرَ أَثَاثَ بَيتِ مَا زَالَ صَالِحًا ، أَو لِيَركَبَ سَيَّارَةً فَخمَةً ، أَو لِيَشتَرِيَ جَوَّالاً قَبلَ أَن يَملِكَهُ غَيرُهُ ، أَو لِيُقِيمَ حَفلاً لم يَسمَعِ النَّاسُ بِمِثلِهِ ، أَو لِيُقِيمَ غَدَاءً أَو عَشَاءً لا يُؤكَلُ عُشرُ مَا قُدِّمَ فِيهِ ، ثم لا يَأتي آخِرُ الشَّهرِ إِلاَّ وَقَد صَارَ كَالفَقِيرِ المُعدِمِ ، لا يَكَادُ يَجِدُ قِيمَةَ غَدَائِهِ وَعَشَائِهِ ، فَيُضطَرُّ لِلاستِدَانَةِ لِتَوفِيرِ حَاجَاتِ بَيتِهِ وَأُسرَتِهِ ، فَهَل يَحِقُّ لَهُ أَن يَقُولَ إِنَّ الرَّاتِبَ قَلِيلٌ وَلا يَكفِي وَلا يَفِي ؟!
صَحِيحٌ أَنَّنَا مَا زِلنَا نُعَاني مِن غَلاءِ الأَسعَارِ وَارتِفَاعِهَا عَنِ المُعَدَّلِ الطَّبِيعِيِّ في كَثِيرٍ مِنَ السِّلَعِ ، وَأَنَّ بَعضَنَا قَد تَعرِضُ لَهُ أَحوَالٌ وَظُرُوفٌ وَمُتَغَيِّرَاتٌ ، وَلَكِنْ ... لِنَكُنْ عَلَى ثِقَةٍ أَنَّ أَكثَرَ ما يُصِيبُنَا مِن قِلَّةِ ذَاتِ اليَدِ وَالحَاجَةِ المَاسَّةِ ، وَعَدَمِ وَفَاءِ الرَّوَاتِبِ بِمَا نَطمَحُ إِلَيهِ ، إِنَّمَا مَرَدُّهُ إِلى سُوءِ سِيَاسَتِنَا لِمَا بِأَيدِينَا مِن أَموَالٍ ، وَكَونِ قَرَارَاتِنَا في الشِّرَاءِ في كَثِيرٍ مِنَ الأَحيَانِ ، لَيسَت مَبنِيَّةً عَلَى تَعَقُّلٍ وَتَوَسُّطٍ ، وَلا تَخطِيطٍ جَيِّدٍ وَاقتِصَارٍ عَلَى مَا نَحتَاجُ إِلَيهِ ، نَعَم - أَيُّهَا الإِخوَةُ – إِنَّ لَدَينَا وَلِلأَسَفِ الشَّدِيدِ خَلطًا بَينَ مَا نَحتَاجُ إِلَيهِ فِعلاً ، وَبَينَ مَا تَرغَبُهُ نُفُوسُنَا وَتَشتَهِيهِ تَظَاهُرًا وَتَشَبُّعًا ، فَكَثِيرٌ مِن قَرَارَاتِ الشِّرَاءِ لَدَينَا ، إِنَّمَا نَتَّخِذُهَا بِنَاءً عَلَى الرَّغبَةِ لا عَلَى الحَاجَةِ ، يَحتَاجُ أَحَدُنَا شَيئًا يَسِيرًا يُحَصِّلُهُ بِمَبلَغٍ زَهِيدٍ أَو قَلِيلٍ ، وَلَكِنَّهُ يَأبى إِلاَّ أَن يُحَصِّلَ الغَاليَ وَلَو أَن يَقتَرِضَ أَو يَستَدِينَ ، وَتَرَاهُ يُوهِمُ نَفسَهُ بِأَنَّهُ كَانَ في حَاجَةٍ إِلى مَا اشتَرَاهُ ، وَلَو تَفَكَّرَ وَتَدَبَّرَ وَتَأَمَّلَ ، وَصَدَقَ مَعَ نَفسِهِ وَلم يَكْذِبْهَا ، لَوَجَدَ أَنَّ بَاعِثَهُ فِيمَا يَشتَرِيهِ وَيَقتَنِيهِ إِنَّمَا هُوَ التَّقلِيدُ لِلآخَرِينَ ، وَحُبُّ الظُّهُورِ أَمَامَهُم بِمَظهَرِ الغِنى وَالثَّرَاءِ ، وَالتَّطَلُّعُ إِلى مَدحِهِم وَالخَوفُ مِن ذَمِّهِم ، أَلا فَاتَّقُوا اللهَ – عِبَادَ اللهِ – وَأَحسِنُوا التَّصَرُّفَ فِيمَا آتَاكُم يُبَارَكْ لَكُم فِيهِ ، فَإِنَّهُ لا كَثِيرَ مَعَ الإِسرَافِ وَالتَّبذِيرِ ، وَلا قَلِيلَ مَعَ الاقتِصَادِ وَحُسنِ التَّدبِيرِ ...
المرفقات
لا كثير مع التبذير ولا قليل مع حسن التدبير.doc
لا كثير مع التبذير ولا قليل مع حسن التدبير.doc
لا كثير مع التبذير ولا قليل مع حسن التدبير.pdf
لا كثير مع التبذير ولا قليل مع حسن التدبير.pdf
عبدالعزيز الدلبحي
جزاك الله خير ياشيخنا ونفع الله بعلمك
تعديل التعليق