خطبة : ( لا تخيفوا أنفسكم بعد أمنها )
عبدالله البصري
وَمَعنى قَولِهِ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " وَأَجمِلُوا في الطَّلَبِ " أَيِ اطلُبُوهُ بِالطُّرُقِ الجَمِيلَةِ المُحَلَّلَةِ ، بِتُؤَدَةٍ وَتَرَفُّقٍ ، وَبِلا كَدٍّ وَلا حِرصٍ ، وَلا تَهَافُتٍ عَلَى الحَرَامِ وَالشُّبُهَاتِ ، وَلا تَنكَبُّوا عَلَى طَلَبِ الدُّنيَا وَتَشتَغِلُوا بِهِ عَنِ الخَالِقِ الرَّازِقِ ـ سٌبحَانَهُ ـ .
وَهَذِهِ الطُّرُقُ الَّتي لا يَشُكُّ مُسلِمٌ تَقِيٌّ نَقِيٌّ في حُرمَتِهَا ، وَإِنْ كَانَ الوَاقِعُونَ فِيهَا قِلَّةً إِذَا مَا قُورِنُوا بِالمُتَطَهِّرِينَ مِنهَا ، إِلاَّ أَنَّ ثَمَّةَ بَابًا آخَرَ شَدِيدًا عَلَى الذِّمَمِ ، ثَقِيلاً عَلَى الصُّدُورِ ، مُذهِبًا لِلسُّرُورِ وَالحُبُورِ ، جَالِبًا لِلهَمِّ وَالغَمِّ ، مُوقِعًا في حُفَرٍ عَمِيقَةٍ ، مُدخِلاً في أَنفَاقٍ مُظلِمَةٍ ، وَمَعَ هَذَا وَلَجَهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ في هَذَا الزَّمَانِ بِلا تَرَوٍّ وَلا حِسَابٍ لِمَا وَرَاءَهُ ، ذَلِكُم هُوَ بَابَ الدُّيُونِ ، فَكَم ممَّن تَرَاهُ يَتَحَرَّزُ مِن أَكلِ الحَرَامِ ، وَيَبتَعِدُ قَدرَ الطَّاقَةِ عَنِ تَنَاوُلِ المُشتَبَهِ ، وَلَكِنَّهُ لا يَألُو مَا حَمَّلَ بِهِ نَفسَهُ مِن أَموَالِ الآخَرِينَ وَأَثقَلَ ظَهرَهُ مِن حُقُوقِهِم ، وَمَا يَزَالُ بِهِ التَّهَاوُنُ بما أَخَذَ ، حَتى يَقَعَ اضطِرَارًا في مُخَالَفَاتٍ وَمَكرُوهَاتٍ ، وَقَد يَقتَرِفُ مَعَاصِيَ وَمُوبِقَاتٍ ، وَيَتَحَمَّلُ أَوزَارًا وَسَيِّئَاتٍ ، مَا كَانَ لَهُ لَولا مَا عَلَيهِ مِن دُيُونٍ أَن يَقَعَ فِيهَا وَيَتَحَمَّلَهَا ، فَمِنَ الكَذِبِ وَإِخلافِ الوَعدِ ، إِلى كَثرَةِ الحَلِفِ وَإِطلاقِ الأَيمَانِ ، مُرُورًا بِسُؤَالِ النَّاسِ وَاستِعطَائِهِم وَاستِجدَائِهِم ، وَوُقُوعًا في التَّقصِيرِ في النَّفَقَاتِ الوَاجِبَةِ ، وَعَدَمِ القُدرَةِ عَلَى الإِنفَاقِ فِيمَا يُرضِي اللهَ ، كُلُّ ذَلِكَ يُصِيبُ المُتَهَاوِنِينَ في الدُّيُونِ ، دَعْ عَنكَ مَا تَتَنَغَّصُ بِهِ حَيَاتُهُم ، وَالمُشكِلاتِ الَّتي تَنشَأُ في بُيُوتِهِم ، وَانشِغَالَهُم في صَلَوَاتِهِم ، وَعَدَمَ خُشُوعِهِم في عِبَادَاتِهِم ، وَتَقَلُّبَهُم عَلَى فُرُشِهِم وَالنَّاسُ نَائِمُونَ ، وَصَمتَهُم وَالنَّاسُ يَضحَكُونَ ، وَلَو أَنَّهُم قَنِعُوا بما آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضلِهِ وَرَتَّبُوا أُمُورَ حَيَاتِهِم عَلَى قَدرِ مَا عِندَهُم وَمَا يَملِكُونَ ، لأَرَاحُوا وَاستَرَاحُوا ، وَلَعَاشُوا حَيَاةً هَانِئَةً وَادِعَةً ، يَحُفُّهَا الرِّضَا وَتَغشَاهَا السَّعَادَةُ ، وَتَنتَهِي بهم إِلى النَّجَاحِ وَالفَلاحِ ، مِصدَاقًا لِقَولِهِ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " قَد أَفلَحَ مَن أَسلَمَ وَرُزِقَ كَفَافًا وَقَنَّعَهُ اللهُ بما آتَاهُ " رَوَاهُ مُسلِمٌ وَغَيرُهُ .
وَتَظَلُّ مِثلُ هَذِهِ الظَّوَاهِرِ تَتَفَشَّى في المُجتَمَعِ يَومًا بَعدَ آخَرَ ، وَتَزدَادُ البَلِيَّةُ بها حِينًا بَعدَ حِينٍ ، وَلا يَتَّعِظُ النَّاسُ لِسُوءِ الحَظِّ بِبَعضِهِم ، إِنَّهُ الجَهلُ بِقِيمَةِ الدُّنيَا وَحَقِيقَةِ العَيشِ فِيهَا ، إِنَّهُ الاستِسلامُ لِرَغَبَاتِ النَّفسِ وَتَتَبُّعُ شَهَوَاتِهَا ، وَلَو تَفَكَّرَ عَاقِلٌ وَتَبَصَّرَ وَتَأَمَّلَ ، وَوَعَى مَا وَرَدَ في الأَثَرِ عَمَّن غَبَرَ ، لَوَجَدَ النَّفسَ البَشَرِيَّةَ طَمَّاعَةً لا تَرضَى بِالقَلِيلِ وَلا يَكفِيهَا الكَثِيرُ ، قَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " لَو كَانَ لابنِ آدَمَ وَادٍ مِن مَالٍ لابتَغَى إِلَيهِ ثَانِيًا ، وَلَو كَانَ لَهُ وَادِيَانِ لابتَغَى لهما ثَالِثًا ، وَلا يَملأُ جَوفَ ابنِ آدَمَ إِلاَّ التُّرَابُ ، وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَن تَابَ " مُتَّفَقٌ عَلَيهِ .
وَقَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " كُنْ في الدُّنيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَو عَابِرُ سَبِيلٍ " رَوَاهُ البُخَارِيُّ .
وَقَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " اُنظُرُوا إِلى مَن هُوَ أَسفَلَ مِنكُم ، وَلا تَنظُرُوا إِلى مَن هُوَ فَوقَكُم ، فَهُوَ أَجدَرُ أَلاَّ تَزدَرُوا نِعمَةَ اللهِ عَلَيكُم " رَوَاهُ مُسلِمٌ وَغَيرُهُ .
وَقَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " مَن أَصبَحَ مِنكُم آمِنًا في سِربِهِ ، مُعَافىً في جَسَدِهِ ، عِندَهُ قُوتُ يَومِهِ ، فَكَأَنَّمَا حِيزَت لَهُ الدُّنيَا بِحَذَافِيرِهَا " رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ وَابنُ مَاجَه وَغَيرُهُمَا وَحَسَّنَهُ الأَلبَانيُّ .
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسأَلُكَ كَلِمَةَ الحَقِّ في الغَضَبِ وَالرِّضَا ، وَنَسأَلُكَ القَصدَ في الغِنى وَالفَقرِ ، وَنَسأَلُكَ نَعِيمًا لا يَنفَدُ ، وَقُرَّةَ عَينٍ لا تَنقَطِعُ ، وَنَسأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلى وَجهِكَ ، وَالشَّوقَ إِلى لِقَائِكَ ، في غَيرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ وَلا فِتنَةٍ مُضِلَّةٍ ، وَأَقُولُ هَذَا القَولَ وَأَستَغفِرُ اللهَ .
وَقَد مَدَحَ ـ سُبحَانَهُ ـ عِبَادَ الرَّحمَنِ بِقَولِهِ : " وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لم يُسرِفُوا وَلم يَقتُرُوا وَكَانَ بَينَ ذَلِكَ قَوَامًا " وَمِنَ الأَسبَابِ لِهَذِهِ الدُّيُونِ ، الانسِيَاقُ وَرَاءَ الدِّعَايَاتِ الإِعلامِيَّةِ لِشَرِكَاتِ التَّقسِيطِ ، وَالانخِدَاعُ بِالتَّسهِيلاتِ الَّتي تُقَدِّمُهَا المَصَارِفُ لِلتَّموِيلِ ، وَالَّتي أَظهَرَت أَنَّ كَثِيرِينَ يُفَكِّرُونَ بِأَعيُنِهِم لا بِعُقُولِهِم ، وَأَنَّهُم كَثِيرًا مَا يَقَعُونَ فَرَائِسَ لِهَذِهِ الدِّعَايَاتِ .
فَاتَّقُوا اللهَ ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ وَعِيشُوا حَيَاتَكُم كَمَا قُدِّرَ لَكُم ، وَأُنفِقُوا عَلَى قَدرِ مَا أُوتِيتُم ، وَلا تُخِيفُوا أَنفُسَكُم بَعدَ أَمنِهَا ، فَفِي الحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَحمَدُ وَغَيرُهُ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ ، عَن عُقبَةَ بنِ عَامِرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ يَقُولُ : " لا تُخِيفُوا أَنفُسَكُم بَعدَ أَمنِهَا " قَالُوا : وَمَا ذَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ ؟ قال : " الدَّينُ "
المشاهدات 5589 | التعليقات 10
المرفقات
https://khutabaa.com/wp-content/uploads/attachment/5/0/لا%20تخيفوا%20أنفسكم%20بعد%20أمنها.doc
https://khutabaa.com/wp-content/uploads/attachment/5/0/لا%20تخيفوا%20أنفسكم%20بعد%20أمنها.doc
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
بيض الله وجهك وجعل ما سطرت حجة لك لا عليك بل والله إن البعض يستدين دينا ثم آخر ثم ثالث وهكذا بلا قيد وفي النهاية تجده ينصب خيمته لسؤال الناس المساعدة لقضاء دينه
وأزيدك من الشعر بيت ياشيخ عبدالله ولا يهون المشاهدين......
الرهن العقاري إن طُبق سيزيد في أسعار العقار ولا يخفضها كما يظن البعض,, وسترون صحة كلامي في الأشهر القليلة القادمة...
ثم نكرر المثل القديم الجميل. ليتك يابو زيد ماغزيت!!!!!
أصبت ووضعت يدك على الجرح فبارك الله فيك ونفعنا بك
جزاك رب البريات على توعيتك وتوضيحك ،،،،،، ونفعنا جميعا بها وبكل علم نافع
كتب الله اجرك ونفع بك
جزاكم الله خيرا وأحسن إليكم.
عبدالله البصري
والظن ـ والعلم عند الله ـ أن هذا النظام لن يستفيد منه بالدرجة الأولى إلا المصارف وأصحاب رؤوس الأموال الكبيرة ، وأما مواطنونا ومتوسطو الحال والعيش ، فقد عهدنا فيهم الانخداع بمثل هذه التسهيلات (!!) والتمادي وراء هذه الدعايات (!!) ، ومن ثم فسيكون هذا النظام بمثابة فرصة ثمينة للأثرياء والمصارف للإيقاع بهم وامتصاص ما تبقى فيهم من دماء ، وإثقال كواهلهم بالديون المضاعفة ، وتجربة التسهيلات التي كانت تقدمها المصارف أيام حمى المساهمات خير شاهد .
ومن ثم فتأتي الحاجة إلى تحذير الناس من الديون ، ووعظهم بتقوى الله ـ عز وجل ـ ليجعل لهم مخرجًا .
والله المستعان .
تعديل التعليق