خطبة : ( كلوا مما في الأرض حلالاً طيبًا )
عبدالله البصري
كلوا مما في الأرض حلالاً طيبًا 4/ 8/ 1444
الخطبة الأولى :
أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم أَيُّهَا النَّاسُ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ " وَاتَّقُوا يَومًا تُرجَعُونَ فِيهِ إِلى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفسٍ مَا كَسَبَت وَهُم لا يُظلَمُونَ "
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، مِن رَحمَةِ اللهِ بِعِبَادِهِ وَإِرَادَتِهِ بِهِمُ اليُسرَ ، أَنْ بَيَّنَ لَهُم في كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ الحَلالَ وَالحَرَامَ ، قَالَ سُبحَانَهُ في وَصفِ رَسُولِهِ : " وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيهِمُ الخَبَائِثَ " وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ في الحَدِيثِ المُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ : " الحَلالُ بَيِّنٌ وَالحَرَامُ بَيِّنٌ " فَلَيسَ مِن طَيِّبٍ فِيهِ لِلنَّاسِ نَفعٌ وَفَائِدَةٌ في دُنيَاهُم وَأُخرَاهُم ، إِلاَّ وَهُوَ حَلالٌ مَسمُوحٌ بِهِ ، وَلا مِن خَبِيثٍ فِيهِ ضَرَرٌ عَلَيهِم أَفرَادًا أَو جَمَاعَةً ، إِلاَّ وَهُوَ حَرَامٌ مَمنُوعٌ لا يَجُوزُ إِتيَانُهُ . وَإِنَّ مِمَّا أَحَلَّهُ اللهُ لِلنَّاسِ لِحَاجَتِهِم إِلَيهِ الأَكلَ مِمَّا في الأَرضِ ، وَالاستِمتَاعَ بِهِ أَخذًا وَعَطَاءً وَبَيعًا وَشِرَاءً ، قَالَ تَعَالى : " يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا في الأَرضِ حَلالاً طَيِّبًا وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيطَانِ إِنَّهُ لَكُم عَدُوٌّ مُبِينٌ " وَلَمَّا كَانَ سُبحَانَهُ يَعلَمُ أَنَّ نُفُوسَ البَشَرِ تَطمَعُ في المَزِيدِ حَتَّى إِنَّهَا لَتَتَجَاوَزُ المُشتَبَهَ فِيهِ إِلى الحَرَامِ ، نَهَى سُبحَانَهُ عِبَادَهُ عَن أَكلِ أَموَالِهِم بَينَهُم بِالبَاطِلِ ، قَالَ عَزَّ وَجَلَّ : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأكُلُوا أَموَالَكُم بَينَكُم بِالبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِنكُم " وَلِضَعفِ نُفُوسِ البَشَرِ وَسُرعَةِ سُقُوطِهِم في مُستَنقَعَاتِ المُشتَبَهَاتِ وَالمُحَرَّمَاتِ ، وَتَعَجُّلِهِم حُظُوظَهُمُ الدُّنيَوِيَّةَ وَغَفلَتِهِم عَنِ اليَومِ الآخِرِ وَمَا فِيهِ مِنَ العَدلِ بِإِعطَاءِ كُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ ، فَقَد جَاءَتِ النُّصُوصُ مُرَغِّبَةً وَمُرَهِّبَةً ، وَمُبَشِّرَةً وَمُنذِرَةً ، ، وَمُبَيِّنَةً جَزَاءَ الصِّدقِ وَالسَّمَاحَةِ وَالقَنَاعَةِ وَالتَّيسِيرِ وَإِنظَارِ المُعسِرِينَ ، وَخَطَرَ التَّخَوُّضِ في مَالِ اللهِ ، وَكَثرَةِ الحَلِفِ وَالتَّدلِيسِ ، والغِشِّ وَالاحتِكَارِ وَالتَّطفِيفِ في المَوَازِينِ وَنَقصِ المَكَايِيلِ ، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ : " البَيِّعَانِ بِالخِيَارِ مَا لم يَتَفَرَّقَا ، فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا في بَيعِهِمَا ، وَإِنْ كَتَمَا وَكَذَبَا مُحِقَت بَرَكَةُ بَيعِهِمَا " مُتَّفَقٌ عَلَيهِ . وَقَالَ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ : " رَحِمَ اللهُ رَجُلًا سَمْحًا إِذَا بَاعَ وَإِذَا اشتَرَى وَإِذَا اقتَضَى " رَوَاهُ البُخَارِيُّ . وَقَالَ تَعَالَى : " وَإِنْ كَانَ ذُو عُسرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيرٌ لَكُم إِنْ كُنتُم تَعلَمُونَ " وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ : " مَن أَنظَرَ مُعسِرًا أَو وَضَعَ عَنهُ ، أَظَلَّهُ اللَّهُ في ظِلِّهِ " رَوَاهُ مُسلِمٌ . وَعَن حُذَيفَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّ رَجُلاً كَانَ فِيمَن قَبلَكُم أَتَاهُ المَلَكُ لِيَقبِضَ رُوحَهُ ، فَقِيلَ لَهُ : هَل عَمِلتَ مَن خَيرٍ ؟ قَالَ : مَا أَعلَمُ . قِيلَ لَهُ انظُرْ . قَالَ : مَا أَعلَمُ شَيئًا غَيرَ أَنِّي كُنتُ أُبَايِعُ النَّاسَ في الدُّنيَا وَأُجَازِيهِم ، فَأُنظِرُ المُوسِرَ وَأَتَجَاوَزُ عَنِ المُعسِرِ ، فَأَدخَلَهُ اللَّهُ الجَنَّةَ " مُتَّفَقٌ عَلَيهِ . وَقَالَ جَلَّ وَعَلا : " وَيلٌ لِلمُطَفِّفِينَ . الَّذِينَ إِذَا اكتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَستَوفُونَ . وَإِذَا كَالُوهُم أَو وَزَنُوهُم يُخسِرُونَ . أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَبعُوثُونَ . لِيَومٍ عَظِيمٍ . يَومَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ العَالمِينَ " وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ : " مَنِ احتَكَرَ فَهُوَ خَاطِئٌ " أي عَاصٍ آثِمٌ ، رَوَاهُ مُسلِمٌ . وَعَن أَبي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ مَرَّ عَلَى صُبرَةِ طَعَامٍ فَأَدخَلَ يَدَهُ فِيهَا ، فَنَالَت أَصَابِعُهُ بَلَلاً فَقَالَ : " مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ ؟! " قَالَ : أَصَابَتهُ السَّمَاءُ يَا رَسُولَ اللهِ ، قَالَ : أَفَلا جَعَلتَهُ فَوقَ الطَّعَامِ كَي يَرَاهُ النَّاسُ ، مَن غَشَّ فَلَيسَ مِنِّي " رَوَاهُ مُسلِمٌ . وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ : " الحَلِفُ مَنفَقَةٌ لِلسِّلعَةِ مَمْحَقَةٌ لِلبَرَكَةِ " مُتَّفَقٌ عَلَيهِ . وَعَن أَبي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ عَنِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " ثَلاثَةٌ لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَومَ القِيَامَةِ وَلا يَنظُرُ إِلَيهِم وَلا يُزَكِّيهِم وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ " قَالَ أَبُو ذَرٍّ : خَابُوا وَخَسِرُوا ، مَن هُم يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : " المُسبِلُ وَالمَنَّانُ وَالمُنَفِّقُ سِلعَتَهُ بِالحَلِفِ الكَاذِب " رَوَاهُ مُسلِمٌ . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّ رِجَالاً يَتَخَوَّضُونَ في مَالِ اللهِ بِغَيرِ حَقٍّ لَهُمُ النَّارُ يَومَ القِيَامَةِ " رَوَاهُ البُخَارِيُّ .
إِنَّهَا نُصُوصٌ وَاضِحَةٌ عَظِيمَةٌ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، تُبَشِّرُ وَتُنذِرُ ، وَتُنِيرُ لِلمُسلِمِ طَرِيقَهُ وَتَضبِطُ لَهُ طَرِيقَتَهُ ، فَيَا لَعِظَمِ حَظِّ مَن كَانَ صَادِقًا في بَيعِهِ وَشِرَائِهِ ، سَمحًا في أَخذِهِ وَعَطَائِهِ ، مُيَسِّرًا عَلَى مَن يَتَعَامَلُ مَعَهُ غَيرَ مُعَسِّرٍ ، قَنُوعًا في أَخذِ الرِّبحِ غَيرَ طَمَّاعٍ وَلا مُتَجَاوِزٍ ، سَهلاً هَينًا لَينًا ، وَوَيلٌ لِمَنِ احتَكَرَ شَيئًا وَصَارَ لا يَبِيعُهُ إِلاَّ بِمَا يَشتَهِي وَعَسَّرَ فِيهِ عَلَى النَّاسِ ، وَيَا خَيبَةَ مَن غَشَّ وَدَلَّسَ وَرَاوَغَ وَطَفَّفَ ، ظَانًّا أَنَّ ذَلِكَ مِنهُ ذَكَاءٌ وَفِطنَةٌ ، أَو أَنَّهُ أَقرَبُ لاكتِسَابِ الرِّزقِ وَتَكثِيرِ الرِّبحِ ، أَلا فَلْيَتَّقِ اللهَ كُلُّ مُسلِمٍ في بَيعِهِ وَشِرَائِهِ وَتَعَامُلِهِ مَعَ إِخوَانِهِ ، وَلْيَعلَمْ أَنَّ عَلَيهِ أَن يُظهِرَ مَا في البِضَاعَةِ وَالمَبِيع ِمِن حَسَنٍ وَقَبِيحٍ وَمَزِيَّةٍ وَعَيبٍ ، وَلْيَحذَرِ الغِشَّ وَالكَذِبَ والخِدَاعَ بِجَمِيعِ صُوَرِهَا ، وَلْيَعلَمْ أَصحَابُ الدِّعَايَاتِ المَدفُوعَةِ وَالإِعلانَاتِ مَقرُوءَةً أَو مُشَاهَدَةً مَسمُوعَةً ، وَالمُرَوِّجُونَ لِعُرُوضِ التَّخفِيضَاتِ الوَهمِيَّةِ ، أَنَّهُ لا يَجُوزُ لَهُم أَن يُثنُوا عَلَى السِّلعَةِ بِمَا لَيسَ فِيهَا ، وَلا أَن يَخدَعُوا النَّاسَ بِاسمِ التَّسوِيقِ وَالتَّروِيجِ ، وَإِلاَّ كَانُوا مُشَارِكِينَ في الغِشِّ وَالظُّلمِ ، وَقَد قَالَ سُبحَانَهُ : " وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثمِ وَالعُدوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ " " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبتُم وَمِمَّا أَخرَجنَا لَكُم مِنَ الأَرضِ وَلا تَيَمَّمُوا الخَبِيثَ مِنهُ تُنفِقُونَ وَلَستُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغمِضُوا فِيهِ وَاعلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ . الشَّيطَانُ يَعِدُكُمُ الفَقرَ وَيَأمُرُكُم بِالفَحشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَغفِرَةً مِنهُ وَفَضلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ "
الخطبة الثانية :
أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالى وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ ، وَاشكُرُوهُ وَلا تَكفُرُوهُ ، وَاعلَمُوا أَنَّ الدُّنيَا مَتَاعٌ قَلِيلٌ زَائِلٌ ، لا تَستَحِقُّ أَن يَشتَغِلَ العَاقِلُ بها اشتِغَالاً فَوقَ المَعقُولِ ، أَو يُضِيعَ عُمرَهُ فِيهَا في صَفقَاتٍ خَاسِرَةٍ ، غَافِلاً عَن يَومِ مَعَادِهِ إلى رَبِّهِ ، مُغترًّا بِمَن حَولَهُ مِمَّن لا يُبَالُونَ أَمِن حَلالٍ أَم مِن حرامٍ كَسِبُوا ، فَفي صَحِيحِ البُخَارِيِّ أّنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " لَيَأتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لا يُبَالي المَرءُ بِمَا أَخَذَ المَالَ ، أَمِن حَلالٍ أَم مِن حَرَامٍ " فَاللهَ اللهَ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، اِلزَمُوا الحَلالَ وَإِن قَلَّ فَإِنَّ فِيهِ بَرَكَةً ، وَاحذَرُوا الحَرَامَ وَإِن كَثُرَ أَو تَزَيَّنَ فَإِنَّهُ مَمحُوقٌ وَعَاقِبَتُهُ الخُسرُ وَالنَّارُ ، وَتَصَدَّقُوا وَأَنفِقُوا وَأَحسِنُوا ؛ فَإِنَّ الصَّدَقَاتِ وَالإِنفَاقَ وَالإِحسَانَ بَابٌ عَظِيمٌ مِن أَبوَابِ تَنمِيَةِ المَالِ وَمُضَاعَفَةِ الكَسبِ وَحُلُولِ البَرَكَةِ ، وَسَبَبٌ في إِزَالَةِ الهُمُومِ وَالغُمُومِ وَإِذَهَابِ الخَوفِ وَالحَزَنِ ، قَالَ سُبحَانَهُ : " مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَموَالَهُم في سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَت سَبعَ سَنَابِلَ في كُلِّ سُنبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ . الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَموَالَهُم في سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى لَهُم أَجرُهُم عِندَ رَبِّهِم وَلا خَوفٌ عَلَيهِم وَلا هُم يَحزَنُونَ . قَولٌ مَعرُوفٌ وَمَغفِرَةٌ خَيرٌ مِن صَدَقَةٍ يَتبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنيٌّ حَلِيمٌ "