( خطبة ) قصة الراهب والغلام وما فيها من الوائد
خالد الشايع
1440/06/30 - 2019/03/07 17:36PM
1
الخطبة الأولى (قصة الراهب والغلام) 1/7/1440
إن الحمد لله (خطبة الحاجة)
أما بعد فياأيها المؤمنون :
لقد أنزل الله الكتاب على الناس ليبين لهم الذي يختلفون فيه وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون .
ولقد عالج القرآن اختلافات الناس بطرق متعدده ودعاهم إلى التوحيد بتفنن في الأساليب حتى لم يبق لذي شبة عذر ولا حجة .
وإن من الأساليب التي عرض فيها القرآن حلولا لما يعرض على البشرية من أوهام وشكوك ومصاد عن دين الله تعالى ، أسلوب القصص فلقد تكاثر في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وما ذاك إلا لما لهذا الأسلوب من قوة في التأثير ووضوح في الحجة وزجر عن اتباع طرق الضلال ومسالك الشيطان . قال ابن عبد البر : قال بعض السلف ( الحكايات جند من جنود الله تعالى يثبت بها قلوب أوليائه)
عباد الله : لقد أكثر الله من القصص على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم في كتابه حيث قال (نحن نقص عليك أحسن القصص) فقص عليه من أنباء الرسل ( وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك)فكانت القصص أكبر معين بأمر الله للثبات على مضايقات الدعوة .
كما قص عليه من أنباء القرى لينتفع بها وكيف أن كثيرا من القرى كذبت رسل ربها ومع ذلك صبروا
وليتعظ قومه إذا علموا كيف كان عاقبة الظالمين (تلك القرى نقص عليك من أنبائها) ( ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد ) بل قص الله على نبيه في هذا القرآن من أنباء الزمن الذي سبقه بلا تحديد (كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق وقد آتيناك من لدنا ذكرا ) ولشرف القصص وما يجنى من الثمار في سماعها أمر المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم أن يقص على الناس ما قص الله عليه (فاقصص القصص لعلهم يتفكرون ) ولم يكن القرآن يقص في كتابه على نبيه والمؤمنين فقط بل كان يقص على أهل الكتاب كذلك ويفصل بينهم فيما هم فيه مختلفون (إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون ) وفي جميع ما قص الله في كتابه عبرةٌ لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ( لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب)
معاشر المؤمنين :
لقد استجاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأمر ربه فقص على هذه الأمة القصص النافعة ليستنبطوا منها العبر والفوائد و الأحكام ومن ذلك قصة الراهب والغلام وهي ماأخرجه مسلم في صحيحه من طريق ثابت عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صهيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كان ملك فيمن كان قبلكم وكان له ساحر فلما كبر قال للملك إني قد كبرت فأبعث إلي غلاما أعلمه السحر فبعث إليه غلاما يعلمه فكان في طريقه إذا سلك راهب فقعد إليه وسمع كلامه فأعجبه فكان إذا أتى الساحر مر بالراهب وقعد إليه فإذا أتى الساحر ضربه فشكى ذلك إلى الراهب فقال إذا خشيت الساحر فقل حبسني أهلي وإذا خشيت أهلك فقل حبسني الساحر فبينما هو كذلك إذ أتى على دابة عظيمة قد حبست الناس فقال اليوم أعلم الساحر أفضل أم الراهب أفضل فأخذ حجرا فقال اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يمضى الناس فرماها فقتلها ومضى الناس فأتى الراهب فأخبره فقال له الراهب أي بني أنت اليوم أفضل مني قد بلغ من أمرك ما أرى وانك ستبتلى فإن ابتليت فلا تدل علي وكان الغلام يبرئ الاكمه والأبرص ويداوى الناس من سائر الأدواء فسمع جليس للملك كان قد عمى فأتاه بهدايا كثيرة فقال ما ههنا لك أجمع ان أنت شفيتنى فقال اني لا أشفى أحدا إنما يشفى الله فإن أنت آمنت بالله دعوت الله فشفاك فآمن بالله فشفاه الله فأتى الملك فجلس إليه كما كان يجلس فقال له الملك من رد عليك بصرك قال ربي قال ولك رب غيري قال ربي وربك الله فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام فجيء بالغلام فقال له الملك أي بني قد بلغ من سحرك ما تبرئ الأكمه والأبرص وتفعل وتفعل فقال اني لا أشفى أحدا إنما يشفى الله فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب فجيء بالراهب فقيل له ارجع عن دينك فأبى فدعا بالمئشار فوضع المئشار في مفرق رأسه فشقه حتى وقع شقاه ثم جيء بجليس الملك فقيل له ارجع عن دينك فأبى فوضع المئشار في مفرق رأسه فشقه به حتى وقع شقاه ثم جيء بالغلام فقيل له ارجع عن دينك فأبى فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا فاصعدوا به الجبل فإذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه فذهبوا به فصعدوا به الجبل فقال اللهم أكفنيهم بما شئت فرجف بهم الجبل فسقطوا وجاء يمشى إلى الملك فقال له الملك ما فعل أصحابك قال كفانيهم الله فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال اذهبوا به فاحملوه في قرقور فتوسطوا به البحر فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه فذهبوا به فقال اللهم أكفنيهم بما شئت فانكفأت بهم السفينة فغرقوا وجاء يمشى إلى الملك فقال له الملك ما فعل أصحابك قال كفانيهم الله فقال للملك إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به قال وما هو قال تجمع الناس في صعيد واحد وتصلبني على جذع ثم خذ سهما من كنانتي ثم ضع السهم في كبد القوس ثم قل باسم الله رب الغلام ثم ارمني فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني فجمع الناس في صعيد واحد وصلبه على جذع ثم أخذ سهما من كنانته ثم وضع السهم في كبد القوس ثم قال باسم الله رب الغلام ثم رماه فوقع السهم في صدغه فوضع يده في صدغه في موضع السهم فمات فقال الناس آمنا برب الغلام آمنا برب الغلام آمنا برب الغلام فأُتى الملك فقيل له أرأيت ما كنت تحذر قد والله نزل بك حذرك قد آمن الناس فأمر بالأخدود في أفواه السكك فخدت وأضرم النيران وقال من لم يرجع عن دينه فأحموه فيها أو قيل له اقتحم ففعلوا حتى جاءت امرأة ومعها صبي لها فتقاعست أن تقع فيه فقال لها الغلام يا أمه اصبري فإنك على الحق)
أيها المسلمون : إن في هذه القصة فوائد عظيمة نأتي عليها بإذن الله تبارك وتعالى اللهم وفقنا لهداك....
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين إله الأولين والآخرين وناصر المستضعفين وهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم ، وأشهد أن لا إله الله الإله الحق المبين وأشهد أن محمد عبده ورسوله ومصطفاه وخليله وخيرته من خلقه بلغ الأمانة وأدى الرسالة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده صلى الله ……)
أما بعد فيا معاشر المؤمنين :
إن الفوائد والأحكام في قصة ذلك الراهب والغلام لا يأتي عليها مقامنا هذا ولكن نستعرض بعضا منها على وجه الاختصار فمن ذلك :
وجوب أخذ العلم عن أهله العاملين به وذلك أن الغلام كان يتعلم عند الساحر وعند الراهب فلما علم صدق الراهب وعمله بعلمه واظب على التعلم منه وتحمل الأذى في ذلك .
ومنها أثر العلم الشرعي وكيف يؤثر في النفس حتى أصبح كل من تعلم العلم بعد أن دخل في الدين صابرا في سبيله حتى ولو كان ذلك في ذهاب روحه .
ومنها الاعتصام بدعاء الله تعالى في الشدائد وأن الله تعالى لايضيع عبده إذا دعاه فانظر كيف أن الله ينجي هذا الغلام من أعدائه وذلك أن الغلام كان يدعو الله أن يكفيه شرهم بما شاء سبحانه .
وفيه أن النصر من عند الله ولو كان صاحبُ الحق وحده فمن صدق الله صدقه الله تبارك وتعالى فهذا غلام أعزل مقابل أمة بأسرها ينصره الله عليهم ، حيث وقع ما يحذر منه الملك من إيمان الناس ، فبقتله آمن الناس كلهم ، وبهذا نصره الله عليهم ، كما قال تعالى ( إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم )
ومنها فضل الدعوة إلى الله وأنها من الجهاد في سبيل الله وأن الدال على الخير كفاعله فانظر كيف أن الراهب له أجر هداية الغلام وكل من أسلم على يد هذا الغلام وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم .كما أخرج الترمذي من حديث أنس قال صلى الله عليه وآله وسلم ( إن الدال على الخير كفاعله)
ومنها ثبوت قاعدة ( أن شرع من قبلنا شرع لنا مالم يخالف شرعنا ) فما قص علينا النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذه القصة إلا لنستفيد منها ونعمل بما جاء فيها مما لايخالف ديننا .
ومنها كذلك : أن أعداء الدين لايزالون يحاربون أولياء الله حتى ولو تبين لأعداء الله أنهم على الحق .
ومنها كذلك : جواز الكذب للمصلحة الظاهرة فهذا الغلام لما كاد الساحر أن يمنعه من الذهاب إلى الراهب لتأخره اعتذر بمنع أهله له مع أن ذلك خلاف الواقع ولكن كذب في ذلك للمصلحة العظيمة وهي تعلم الدين .
ومنها كذلك الإيمان بكرامات الأولياء وأن الله تبارك وتعالى يجري خوارق العادات على أيدي أوليائه وذلك نصرة لهم ألم تر كيف أن الله فتح باب الشفاء على يدي هذا الغلام ليدل الناس على الدين الصحيح بهذه الكرامة .
ومنها أن المؤمن يبتلى على قدر دينه لإن الغلام لما قتل الدابة قال له الراهب يابني إنك اليوم أفضل مني وإن ستبتلى فاصبر .
ومنها أن الإنسان ولو كان على الحق فلا ينبغي أن يعرض نفسه للبلاء وذلك في قول الراهب للغلام فلا تدلن علي .
ومنها كذلك : الصبر في سبيل الدعوة إلى الله تعالى حتى ولو كان الثمن تقديم النفس في سبيل الله .
ومنها كذلك وهي رأس الفوائد أهمية التوحيد والدعوة إليه فإن هذا الغلام نقل الناس بإذن الله من الشرك وعبادة غير الله إلى الدين الحق وقد بذل نفسه رخيصة في سبيل ذلك .
ومنها كذلك : أن الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب رخصت الدنيا في سبيله ألم تر كيف قدم جليس الوزير نفسه صابرا على الدين الحق وكذلك الراهب وكذلك الغلام الذي قدم نفسه للقتل بل دل على طريقة قتله لما رأى أن الله سيهدي الناس بسبب قتله وكذلك لما خدّ الملك الظالم الأخاديد ليفتن الناس ألقوا بأنفسهم في سبيل الله ، ثباتا على الدين وتأسيا بذلك الغلام والراهب والجليس .
أيها المسلمون فلنقدم لهذا الدين شيئا من متع الدنيا الفانية ولننصر هذا الدين بنشر العلم بين الناس والصبر على الأذى فيه والتواصي بالحق حتى يلقى العبد ربه ، ولا يكن العبد عالة على دينه لا يقدم لهذا الدين بل يصبح معول هدم وأداة فساد لهذا الدين وأعظم من ذلك كون العبد صادا عن دين الله بسوء أفعاله وأخلاقه .
اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا …
اللهم أمنا في أوطاننا ووفق بالحق إمامنا وارزقه…
اللهم فرج هم المهمومين ….