(خطبة) قصة إسلام الصحابي الجليل ذي البجادين وعبرها
خالد الشايع
الخطبة الأولى ( قصة إسلام ذي البجادين وموته) 23/5/1442
أما بعد فيا أيها الناس : لقد اصطفى الله لنبيه صلى الله عليه وسلم صحابة كراما ، قاموا بحقوق الصحبة خير قيام ، ونقلوا لنا الدين كما أنزل ، وجاهدوا في الله حق جهاده ، ونشروا الدين والعلم ، ولقد عاشوا كما عاش نبيهم صلى الله عليه وسلم على الزهد والتقشف والرضا بالقليل من الدنيا ، حتى رحلوا عنها ، كما وصفهم الله بقوله ( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه ، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا )
ومنهم صاحبي جليل عاش في الإسلام قليلا ، ولكنه بلغ منزلة رفيعة عن الله ورسوله ، وتوفي في زمن النبوة ، كان يعيش في الجاهلية عيشة المترفين ، فلما أسلم كان مع فقراء الصحابة ، باع الدنيا بالآخرة ، إنه عبد الله ذو البجادين ، واسمه عبد الله بن عبد نَهْم المزني. قدِم على النبي صَلَّى الله عليه وسلم، وكان اسمه عبدَ العزَّى، فسمَّاه رسولُ اللّهِ صَلَّى الله عليه وسلم عبد اللّه وهو عم عبد اللّه بن مُغَفَّل بن عبد نُهْم، ولقبه رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم "ذو البجادين"، لأَنه لما أَسلم عند قومه جَرّدوه من كل ما عليه وأَلبسوه بجادًا ـــ وهو الكساءُ الغليظ الجافي ـــ فهرب منهم إِلى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فلمّا كان قريبًا منه شق بجاده باثنين، فاتزر بأَحدهما وارتدى بالآخر، ثم أَتى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فقيل: له ذو البجادين. وقيل: إِن أُمه أَعطته بجادًا فقطعته قطعتين، فأَتى فيهما رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، والله أَعلم
((قال محمد بن كعب القُرَظِيّ أن عبد الله ذا البِجَادَيْنِ كان امْرَأً من مُزَينة فوقع في قلبهِ حبُّ رسولِ الله صَلَّى الله عليه وسلم وحب الإيمان، وكان يتلقى الصحابة المهاجرين للمدينة ويتعلم منهم القرآن ، ويماشيهم على قدميه يتعلم منهم عدة كيلوات ، ثم يتلقى الذين بعدهم ،وأسلم وأخفى إسلامه ،وكان يحب أن يسلم عمه الذي كفله وأنعم عليه ، حيث إنه نشأ يتيمًا لا مالَ له، ماتَ أبوه ولم يُورّثه، وكان عمُّه مَيِّلًا، فأخذه وكفلَهُ حتى أَيْسَر، فكانت له إِبلٌ وغنمٌ ورقيقٌ، فلما قَدِم رسولُ الله صَلَّى الله عليه وسلم، المدينةَ جعلت نَفْسُه تَتوق إلى الإسلام، ولا يقدر عليه مِنْ عَمِّه، حتى مضت السنُون والمشَاهِدُ، فقال عبد الله لعمّه: يَا عَمِّ إِني قد انتظرتُ إسْلاَمَك فلا أراك تُرِيدُ محمدًا، فَأْذَنْ لِي في الإسلام! فقال: والله لئن اتبعتَ محمدًا لاَ أَتركُ بيدك شيئًا كنتُ أعطيتكه هو إلاَّ نَزَعتهُ منك حتى ثَوْبيك. فقال عَبدُ العُزَّى ـ وهو يومئذ اسمه: فَأَنَا والله مُتّبعٌ محمدًا ومُسلِمٌ وتارِكٌ عبادةَ الحَجَر والوَثَن، وهذا ما بِيَدِي فَخُذْه! فأخذ كُلَّ ما أعطاه، حتى جَرَّدة من إزاره، فأتى أُمَّهُ فقطعت بجادًا لها باثنين، فَأْتَزَر بواحدٍ وارتَدَى الآخَر. ثم أقبل إلى المدينة وكان بِوَرِقَان، فاضطجع في المسجد في السَّحَر، ثم صلّى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم الصبح، وكان رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، يَتَصَفَّح الناسَ إذا انصرفَ من الصبح، فنظر إليه فأنكره، فقال: "مَنْ أنت؟" فانتسب له، وكان اسمه عبد العُزّى، فقال: "أنت عَبْدُ الله ذو البِجَادَيْن!" ثم قال: "انزل منِّي قريبًا"، فكان يكون في أَضيافه ويعلِّمهُ القرآن، حتى قرأ قرآنًا كثيرًا))
وقال عقبة بن عامر ــــ إنّ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم قال لرجل يقال له ذو البِجَادين: "إِنَّهُ أَوَّاهٌ"؛ وذلك أنه كان يكثِرُ ذِكْرَ اللهِ بالقرآن والدعاءِ، ويرفع صوته.
اللهم ارض عن صحابة نبيك واجمعنا بهم في جنات النعيم
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية
أما بعد فيا أيها الناس : لا زلنا نتحدث عن الصحابي الجليل ذي البجادين ، فلقد عاش ذو البجادين في زمن النبوة يتعلم العلم ويجاهد في سبيل الله ، حتى أدركته المنية في غزوة تبوك .
حيث مات وتولى دفنه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر ليلا .
قال ابن مسعود: وأصابنا جوعٌ شديدٌ في تبوك فخرجت ذات ليلة فرأيت نُوَيْرَةً تَبِصُّ فقلتُ: لَأَدْنُوَنّ منها لعلي أصيب عندها طعامّا، قال: فدنوت فإذا رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، في القَبْر يَحْفر يناولُ أبا بَكر وعُمَرَ الترابَ، وإذا عبد الله مُسَجًّى عليه ورسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، يحفرُ ويناوِلُهُما الترابَ، فلما دفنوه قال: "اللهم إنّي راضٍ عنهُ فارض عنه" ـ مرتين أو ثلاثًا.
وقيل: لم ينزلْ رسولُ الله صَلَّى الله عليه وسلم في قَبْرِ أحدٍ إلا خمسة، منهم عبد الله المزني ذو البجَادين
فلما نزلوا تَبُوكًا أقاموا بها أيامًا ثم تُوفي عبد الله ذو البِجَادِين. وكان بلال بن الحارث يقول: حضرتُ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، ومع بِلالٍ المؤذِّن شُعْلَةٌ من نارٍ عند القبر واقفًا بها، وإذا رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم في القبر، وإذا أبو بكر وعمر يُدَلِّيَانه إلى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وهو يقول: "أَدنِيا إليّ أخاكم!" فلما هَيَّآهُ لِشِقِّه في اللحد، قال: "اللهم إنّي قد أمسيت عنه راضيًا فارضَ عنه"، قال: فقال ابن مسعود: ياليتني كنت صاحِبَ اللَّحْدِ!
معاشر المسلمين : لقد احتوت سيرة ذي البجادين اليسيرة عبرا ، منها حلاوة القرآن التي تأسر القلوب ، سواء قلوب الكفار أو المسلمين ، فلقد أسلم ذو البجادين لما سمع القرآن من الصحابة المهاجرين وأخذ في حفظه ، ومنها صفاء هذا الدين فلا يعرفه أحد وينظر فيه إلا أحبه ، فالدين ينشر نفسه بنفسه ، وكلما حورب الإسلام كلما ازداد انتشاره ، حكمة من رب العالمين ، ومنها رغبة الصحابة في الدنيا ، والإقبال على الآخرة ، فهذا ذو البجادين ، ما إن ذاق حلاوة الإسلام إلا وترك الدنيا كلها حتى جردوه من ماله وثيابه ، ولبس بجادا يستر عورته .
ومنها الأخوة الصادقة بين الصحابة ، اسمع قول النبي صلى الله عليه وسلم يقول لأبي بكر وعمر أدنيا إلي أخاكما وهما ينزلانه قبره ، ومنها محبة النبي لأصحابه ، فهو يدفن ذي البجادين وعيناه تهملان رحمة به .
وغيرها من العبر
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات ....