خطبة قراءة في ألفاظ التلبية و مقاصدها

الطيب بن أحمد عشاب
1433/12/17 - 2012/11/02 21:20PM
[align=justify]
بسم الله الرحمان الرحيم
أتقدم بهذه المشاركة و هي خطبة في موضوع ألفاظ التلبية ومقاصدها ألقيتها في الجمعة الأخيرة من شهر ذي الحجة 1432هـ الذي وافق25 نوفمبر 2011م.وذلك بمناسبة شروع ضيوف الرحمان في العودة إلى أوطانهم بعد الانتهاء من أداء مناسك الحج تلبية لنداء ربهم.و إن التلبية الشعار الخالد للحج تحتاج إلى إيضاح و بيان حتى لا تعد شعارا يردد على غرار الشعارات التي يرددها الناس في جموع غفيرة وفي ساحات محددة للتظاهر و التعبير عن مواقف سياسية كما شهدت ذلك عواصم عربية في اليمن ،مصر،ليبيا،تونس و غيرها
الخطبة الأولـــى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليماً.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (آل عمران:102)
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} (النساء:1)
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداًيُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً }(الأحزاب:71)
عباد الله ...
لقد بدأت مواكب الحجيج تنزل عائدة إلى مواطنها مقفلة آيبة من سفرها، بعدما استجابت لأمر ربها { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} و أجابت نداء أبيها خليل الرحمان عليه و على نبينا الصلاة والسلام {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} (الحج:27)
و في هذه الجمعة الأخيرة من شهر ذي الحجة أحببت أن أحدثكم عن شعار الحج الخالد وزينته.فما هو هذا الشعار؟ و ما هي هذه الزينة؟
عن زيد بن خالد الجهني، قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « جَاءَنِي جِبْرِيلُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، مُرْ أَصْحَابَكَ فَلْيَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّلْبِيَةِ، فَإِنَّهَا مِنْ شِعَارِ الْحَجِّ »أخرجه ابن ماجة في السنن و أحمد في مسنده و قال الشيخ الألباني: حديث صحيح. و كان ابن عباس y يقول «زِينَةُ الْحَجِّ التَّلْبِيَةُ»
نعم عباد الله..التلبية شعار الحج الخالد..التلبية زينة الحج..

إن شعار الحج هذا و زينته التي أخبر جبريلu سيدنا رسول الله r أن يأمر أصحابه برفع أصواتهم بها هي:
" لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لا شَرِيكَ لَكَ "
و قد كانت التلبية منذ عهد سيدنا إبراهيمu[ لَبَّيْكَ لا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ] حتى كان عمرو بن لحي فغيرها إذ كان يقول [لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك ] و تبعته العرب من بعده فأصبحوا يوحدونه بالتلبية، ثم يدخلون معه أصنامهم، ويجعلون ملكها بيده. يقول الله تبارك وتعالى لمحمد -صلى الله عليه وسلم:{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106]أي ما يوحدونني لمعرفة حقي إلا جعلوا معي شريكا في خلقي[1]وعمرو بن لحي هو أول من نصب الأصنام حول الكعبة و أول من أدخل الشرك في التلبية وأول من أحل أيضا أكل الميتة، إذ زعم أن الله تعالى لا يرضى تحريم أكل الميتة، قال:كيف لا تأكلون ما قتل الله وتأكلون ما قتلتم؟
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ لُحَيِّ بْنِ قَمْعَةَ بْنِ خِنْدِفَ أَبَا بَنِي كَعْبٍ هَؤُلَاءِ، يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ»[2]
و بقيت العرب تلبي كما كانت حتى جاء ر.الله r
أخرج مَالِك في الموطأ عن نافع، عن عبد الله بن عمر أن تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ» .
قال وكان عبد الله بن عمر يزيد فيها« لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ بِيَدَيْكَ لَبَّيْكَ، وَالرَّغْبَاءُ إِلَيْكَ وَالْعَمَلُ»[3]
ورُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ بَعْدَ التَّلْبِيَةِ
«لَبَّيْكَ ذَا النَّعْمَاءِ وَالْفَضْلِ الْحَسَنِ لَبَّيْكَ مَرْهُوبًا مِنْكَ وَمَرْغُوبًا إِلَيْكَ»
وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي تَلْبِيَتِهِ « لَبَّيْكَ حَقًّا حَقًّا تَعَبُّدًا وَزِقًّا»[4]
و قد أقر النبي r من سمعهم يضيفون تلك الإضافات فقال أهل العلم من زاد في التلبية ما يجمل ويحسن من الذكر فلا بأس ومن اقتصر على تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو الأفضل.

عباد الله...
إن التلبية شعار الحج والتنقل في أعمال المناسك، فالحاج كلما انتقل من ركن إلى ركن قال: (لبيك اللهم لبيك)، كما يقول المصلي في صلاته (الله أكبر) كلما انتقل من ركن إلى ركن من أركانها.فإذا حل من نسكه قطعها، كما يقطع المصلي تكبيره بسلامه [5] . ويستحب الإكثار من التلبية للحاج عند تجدد الأحوال والأزمان والأماكنوالاجتماع والافتراق والركوب والنزول والفراغ من الصلاة، وإقبال الليل والنهار،والصعود والهبوط.

فضل التلبية وشرفها:
ترديد كل ما في الكون لألفاظ التلبية حين يلبي الملبي، فقد أخرج الترمذي و ابن ماجة عن سهل بن سعد قال قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُلَبِّي إِلا لَبَّى مَنْ عَنْ يَمِينِهِ، أَوْ عَنْ شِمَالِهِ مِنْ حَجَرٍ، أَوْ شَجَرٍ، أَوْ مَدَرٍ، حَتَّى تَنْقَطِعَ الأَرْضُ مِنْ هَاهُنَا وَهَاهُنَا»[6] .فيا له من شرف و يا له من فضل لا يقل فضلا و شرفا عن فضل الأذان إذ قال r مخاطبا أبا سعيد الخدري إِنِّي أَرَاكَ تُحِبُّ الغَنَمَ وَالبَادِيَةَ، فَإِذَا كُنْتَ فِي غَنَمِكَ، أَوْ بَادِيَتِكَ، فَأَذَّنْتَ بِالصَّلاَةِ فَارْفَعْ صَوْتَكَ بِالنِّدَاءِ، فَإِنَّهُ: «لاَ يَسْمَعُ مَدَى صَوْتِ المُؤَذِّنِ، جِنٌّ وَلاَ إِنْسٌ وَلاَ شَيْءٌ، إِلَّا شَهِدَ لَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ». و ما ذلك إلا لما يقوله الملبي و المؤذن من ألفاظ يسجل بها على نفسه الاعتراف بوحدانية الله I وأحديته في الملك و السلطان،في الفضل و الإنعـام.(أشهد أن لا إلـه إلا الله...لا شريك لك...الحمد و النعمة والملك لك...)
و عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِt، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ: أَيُّ الحَجِّ أَفْضَلُ؟ و في رواية:أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «الْعَجُّ، وَالثَّجُّ»[7] . و كان ابن عباس y يقول «زِينَةُ الْحَجِّ التَّلْبِيَةُ»
معاني ألفاظ التلبية:
لقد تعددت أقوال العلماء في معنى ألفاظ التلبية،فعدها ابن القيم في تهذيب السنن ثمانية وذكر ابن حجر في فتح الباري سبعة.و أرجح معانيها ما يلي:
ـ [ لبيك اللهم لبيك]
بمعنى إجابة بعد إجابة ، وكُررت إيذانا بدوام الإجابة واستمرارها .و تتضمن معنى المحبة و التعظيم لأنه لا يقال لبيك إلا لمن تحبه و تعظمه. كما تتضمن التزام دوام العبودية لأن التكرار يقتضي استجابة بعد استجابة و طاعة بعد طاعة .وتتضمن أيضا الإقرار بسمع الله تعالى و استجابته لمن دعاه من عباده لأنه يستحيل أن يقول العبد: لبيك، لمن لا يسمع دعاءه و لا يرجو منه استجابة.

ـ [ لبيك لا شريك لك]
بمعنى كلمة الإخلاص و التوحيد ( لا إلــه إلا اللــه)لا شريك لك في الملك و السلطان. فلا يستحق العبادة مع الله غيره من ملك مقرب، أو نبي مرسل،أو عبد صالح، أو سلطان، أو نجم، أو كوكب، أو حجر، أو شريك، أو أي إنس أو جن، بل لله العبودية المطلقة، والألوهية بكل معانيها.و لا يخلق ولا يرزق ولا يحيي ولا يميت ولا ينفع ولا يضر إلا الله الواحد الأحد، فهو المستحق للشكر والثناء والملك والحمد.

ـ [ إن الحمد و النعمة لك و الملك]
إنَّ الحمد: يتضمن معنى الامتنان تجاه المولى جل و علا على كل ما أنعم به من نعم
فيذكر بأحب الأذكار إليه وهو الحمد حتى أنه بدأ به كتابه ﴿ الحَمْدُ لِلهِرَبِّ العالَمينَ ﴾.
و افتتح به سورا
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (الأنعام:1)
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا (الكهف:1)
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ
إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (فاطر:1)

والنعمة لك وهي مصداق قول الله تعالى: ﴿وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ﴾، وكلمة«والنعمة لك»مشتملة على الاعتراف لله بالنعمة كلها،ولهذا عرَّفها باللام المفيدة للاستغراق، أي النعم كلها لك،وأنت وحدك المنعم المتفضِّل بها.
والملك: الملك كله لله وحده، فلا ملك على الحقيقة لأحد من خلقه، وما الكنوز والأموال إلا عوارٍ لنا
نحن مستخلفون فيها،وهو سبحانه الملك وأنا وأنت عبيدٌ له، والعبد لا تصرف له في ماله ووقته ونفسه دون إذن سيده
الخطبة الثانية
[/align]
المشاهدات 3378 | التعليقات 0