خطبة فإن الله أمرني أن ابني هاهنا بيتا
الشيخ نواف بن معيض الحارثي
الخطبة الأولى: فَإِنَّ اللَّـهَ أَمَرَنِي أَنْ أَبْنِيَ هَا هُنَا بَيْتًا
الحمدُ للهِ جَعَلَ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ ربطَ فيها أعظمَ الأركانِ وَجَعَلَها مَصدَراً للأمنِ والأمانِ، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ المَلِكُ الدَّيَّانُ. وأشهدُ أنَّ مُحمَّداً عبدُ اللهِ ورسولُهُ بعثهُ اللهُ رحمَةً وأماناً للإنسِ والجآنّ rوعلى جميعِ الآلِ والصَّحبِ والتَّابِعينَ لهم بإحسانٍ أمَّا بعدُ: فأصيكم ....
عباد الله: تَستقبِلُ مَكَّةُ هذهِ الأيامَ وُفُودَ الحَجِيجِ، في مَوكِبٍ مَهِيبٍ، جَاؤوا مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ يُلبُّونَ نِدَاءَ رَبِّهم ويُجِيُبونَ أَذَانَ خَلِيلهِ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ) جَاءوا لِيؤدُّوا خَامِسَ الأركانِ, طَامِعِينَ في تَكفيرِ الخَطَايَا وَبُلُوغِ الجِنَانِ، فَمَا هَذا البَيتُ العَتِيقُ يا تُرى ؟ وكيفَ تَمَّ بِناؤهُ ؟ ومَنِ الذي بنَاهُ؟ وما سِرُّ تَعَلُّقِ المُسلِمِينَ بِهِ ؟ عباد الله:
لِبناءِ البيتِ تاريخٌ لا يُنسى وقِصَّةٌ لا تُمَلُّ! تبدأُ القِصَّةُ بِرحلَةٍ شاقَّةٍ لإبراهيمَ الخليلِ عليهِ السَّلامُ حينَ قَرَّرَ أنْ يُهاجِرَ بِهَاجَرَ وابنَها إِسمَاعِيلَ إلى البُقعَةِ المُبَارَكَةِ ! وذَلِكَ بِوحيٍ من اللهِ تَعالَى وَأَمْرٍ! ففي الحديثِ الصحيح ، وفيه: (...ثُمَّ جَاءَ بِهَا إِبْرَاهِيمُ وَبِابْنِهَا إِسْمَاعِيلَ وَهِيَ تُرْضِعُهُ، حَتَّى وَضَعَهُمَا عِنْدَ البَيْتِ، عِنْدَ دَوْحَةٍ، فَوْقَ زَمْزَمَ، فِي أَعْلَى المَسْجِدِ، وَلَيْسَ بِمَكَّةَ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ، وَلَيْسَ بِهَا مَاءٌ، فَوَضَعَهُمَا هُنَالِكَ، وَوَضَعَ عِنْدَهُمَا جِرَاباً فِيهِ تَمْـرٌ، وَسِقَاءً فِيهِ مَاءٌ، ثُمَّ قَفَّى إِبْرَاهِيمُ مُنْطَلِقاً، فَتَبِعَتْهُ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ، فَقَالَتْ: يَا إِبْرَاهِيمُ، أَيْنَ تَذْهَبُ وَتَتْرُكُنَا بِهَذَا الوَادِي -الَّذِي لَيْسَ فِيهِ إِنْسٌ وَلاَ شَيْءٌ؟! فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ مِرَاراً، وَجَعَلَ لاَ يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا، فَقَالَتْ لَهُ: آللَّـهُ الَّذِي أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ نَعَمْ، قَالَتْ: إِذَن لَّا يُضَيِّعُنَا، ثُمَّ رَجَعَتْ.
فَانْطَلَقَ إِبْرَاهِيمُ حَتَّى إِذَا كَانَ عِنْدَ الثَّنِيَّةِ، حَيْثُ لاَ يَرَوْنَهُ، اسْتَقْبَلَ بِوَجْهِهِ البَيْتَ، ثُمَّ دَعَا بِهَؤُلاَءِ الكَلِمَاتِ، وَرَفَعَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: ﴿رَبِّ إِنِّي أَسۡكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيۡرِ ذِي زَرۡعٍ عِندَ بَيۡتِكَ ٱلمُحَرَّمِ﴾، حَتَّى بَلَغَ: ﴿يَشۡكُرُونَ﴾.
وَجَعَلَتْ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ تُرْضِعُ إِسْمَاعِيلَ، وَتَشْرَبُ مِنْ ذَلِكَ المَاءِ، حَتَّى إِذَا نَفِدَ مَا فِي السِّقَاءِ عَطِشَتْ، وَعَطِشَ ابْنُهَا، وَجَعَلَتْ تَنْظُرُ إِلَيْهِ يَتَلَوَّى -أَوْ قَالَ: يَتَلَبَّطُ-، فَانْطَلَقَتْ كَرَاهِيَةَ أَنْ تَنْظُرَ إِلَيْهِ، فَوَجَدَتِ الصَّفَا أَقْرَبَ جَبَلٍ فِي الأَرْضِ يَلِيهَا، فَقَامَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَتِ الوَادِيَ تَنْظُرُ هَلْ تَرَى أَحَداً، فَلَمْ تَرَ أَحَداً، فَهَبَطَتْ مِنَ الصَّفَا حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الوَادِيَ رَفَعَت طَّرَفَ دِرْعِهَا، ثُمَّ سَعَتْ سَعْيَ الإِنْسَانِ المَجْهُودِ، حَتَّى جَاوَزَتِ الوَادِيَ، ثُمَّ أَتَتِ المَرْوَةَ فَقَامَتْ عَلَيْهَا، وَنَظَرَتْ هَلْ تَرَى أَحَداً، فَلَمْ تَرَ أَحَداً، فَفَعَلَتْ ذَلِكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «فَذَلِكَ سَعْيُ النَّاسِ بَيْنَهُمَا»، فَلَمَّا أَشْرَفَتْ عَلَى المَرْوَةِ سَمِعَتْ صَوْتاً، فَقَالَتْ: صَهٍ -تُرِيدُ نَفْسَهَا-، ثُمَّ تَسَمَّعَتْ، فَسَمِعَتْ أَيْضاً، فَقَالَتْ: قَدْ أَسْمَعْتَ إِنْ كَانَ عِنْدَكَ غِوَاثٌ، فَإِذَا هِيَ بِالْمَـلَكِ عِنْدَ مَوْضِعِ زَمْزَمَ، فَبَحَثَ بِعَقِبِهِ -أَوْ قَالَ بِجَنَاحِهِ-؛ حَتَّى ظَهَرَ المَاءُ، فَجَعَلَتْ تُحَوِّضُهُ وَتَقُولُ بِيَدِهَا هَكَذَا، وَجَعَلَتْ تَغْرِفُ مِنَ المَاءِ فِي سِقَائِهَا، وَهُوَ يَفُورُ بَعْدَ مَا تَغْرِفُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «يَرْحَمُ اللَّـهُ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ، لَوْ تَرَكَتْ زَمْزَمَ -أَوْ قَالَ: لَوْ لَمْ تَغْرِفْ مِنَ المَاءِ- لَكَانَتْ زَمْزَمُ عَيْناً مَّعِيناً» قَالَ: فَشَرِبَتْ وَأَرْضَعَتْ وَلَدَهَا.
فَقَالَ لَهَا المَلَكُ: لاَ تَخَافُوا الضَّيْعَةَ، فَإِنَّ هَا هُنَا بَيْتَ اللَّـهِ، يَبْنِي هَذَا الغُلاَمُ وَأَبُوهُ، وَإِنَّ اللَّـهَ لاَ يُضَيِّعُ أَهْلَهُ، وَكَانَ البَيْتُ مُرْتَفِعًا مِنَ الأَرْضِ كَالرَّابِيَةِ، تَأْتِيهِ السُّيُولُ، فَتَأْخُذُ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ، فَكَانَتْ كَذَلِكَ حَتَّى مَرَّتْ بِهِمْ رُفْقَةٌ مِنْ جُرْهُمَ، أَوْ أَهْلُ بَيْتٍ مِنْ جُرْهُمَ، مُقْبِلِينَ مِنْ طَرِيقِ كَدَاءٍ، فَنَزَلُوا فِي أَسْفَلِ مَكَّةَ فَرَأَوْا طَائِرًا عَائِفًا، فَقَالُوا: إِنَّ هَذَا الطَّائِرَ لَيَدُورُ عَلَى مَاءٍ، لَعَهْدُنَا بِهَذَا الوَادِي وَمَا فِيهِ مَاءٌ، فَأَرْسَلُوا جَرِيًّا أَوْ جَرِيَّيْنِ فَإِذَا هُمْ بِالْـمَاءِ، فَرَجَعُوا فَأَخْبَرُوهُمْ بِالْـمَاءِ فَأَقْبَلُوا، قَالَ: وَأُمُّ إِسْمَاعِيلَ عِنْدَ المَاءِ، فَقَالُوا: أَتَأْذَنِينَ لَنَا أَنْ نَنْزِلَ عِنْدَكِ؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ، وَلَكِنْ لاَ حَقَّ لَكُمْ فِي المَاءِ، قَالُوا: نَعَمْ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ النَّبِيُّ e: «فَأَلْفَى ذَلِكَ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ وَهِيَ تُحِبُّ الإِنْسَ» فَنَزَلُوا وَأَرْسَلُوا إِلَى أَهْلِيهِمْ فَنَزَلُوا مَعَهُمْ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِهَا أَهْلُ أَبْيَاتٍ مِنْهُمْ، وَشَبَّ الغُلاَمُ وَتَعَلَّمَ العَرَبِيَّةَ مِنْهُمْ، وَأَنْفَسَهُمْ وَأَعْجَبَهُمْ حِينَ شَبَّ، فَلَمَّا أَدْرَكَ زَوَّجُوهُ امْرَأَةً مِنْهُمْ، وَمَاتَتْ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ، فَجَاءَ إِبْرَاهِيمُ بَعْدَمَا تَزَوَّجَ إِسْمَاعِيلُ يُطَالِعُ تَرِكَتَهُ، فَلَمْ يَجِدْ إِسْمَاعِيلَ، فَسَأَلَ امْرَأَتَهُ عَنْهُ فَقَالَتْ: خَرَجَ يَبْتَغِي لَنَا، ثُمَّ سَأَلَهَا عَنْ عَيْشِهِمْ وَهَيْئَتِهِمْ، فَقَالَتْ نَحْنُ بِشَرٍّ، نَحْنُ فِي ضِيقٍ وَشِدَّةٍ، فَشَكَتْ إِلَيْهِ، قَالَ: فَإِذَا جَاءَ زَوْجُكِ فَاقْرَئِي عَلَيْهِ السَّلاَمَ، وَقُولِي لَهُ يُغَيِّرْ عَتَبَةَ بَابِهِ، فَلَمَّا جَاءَ إِسْمَاعِيلُ كَأَنَّهُ آنَسَ شَيْئًا، فَقَالَ: هَلْ جَاءَكُمْ مِنْ أَحَدٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، جَاءَنَا شَيْخٌ كَذَا وَكَذَا، فَسَأَلَنَا عَنْكَ فَأَخْبَرْتُهُ، وَسَأَلَنِي كَيْفَ عَيْشُنَا، فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّا فِي جَهْدٍ وَشِدَّةٍ، قَالَ: فَهَلْ أَوْصَاكِ بِشَيْءٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ السَّلاَمَ، وَيَقُولُ غَيِّرْ عَتَبَةَ بَابِكَ، قَالَ: ذَاكِ أَبِي، وَقَدْ أَمَرَنِي أَنْ أُفَارِقَكِ، الحَقِي بِأَهْلِكِ، فَطَلَّقَهَا، وَتَزَوَّجَ مِنْهُمْ أُخْرَى، فَلَبِثَ عَنْهُمْ إِبْرَاهِيمُ مَا شَاءَ اللَّـهُ، ثُمَّ أَتَاهُمْ بَعْدُ فَلَمْ يَجِدْهُ، فَدَخَلَ عَلَى امْرَأَتِهِ فَسَأَلَهَا عَنْهُ، فَقَالَتْ: خَرَجَ يَبْتَغِي لَنَا، قَالَ: كَيْفَ أَنْتُمْ؟ وَسَأَلَهَا عَنْ عَيْشِهِمْ وَهَيْئَتِهِمْ، فَقَالَتْ: نَحْنُ بِخَيْرٍ وَسَعَةٍ، وَأَثْنَتْ عَلَى اللَّـهِ، فَقَالَ: مَا طَعَامُكُمْ؟ قَالَتِ اللَّحْمُ، قَالَ فَمَا شَرَابُكُمْ؟ قَالَتِ المَاءُ. قَالَ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي اللَّحْمِ وَالمَاءِ، قَالَ النَّبِيُّe: «وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ يَوْمَئِذٍ حَبٌّ، وَلَوْ كَانَ لَهُمْ دَعَا لَهُمْ فِيهِ». قَالَ: فَهُمَا لاَ يَخْلُو عَلَيْهِمَا أَحَدٌ بِغَيْرِ مَكَّةَ إِلَّا لَمْ يُوَافِقَاهُ، قَالَ: فَإِذَا جَاءَ زَوْجُكِ فَاقْرَئِي عَلَيْهِ السَّلاَمَ، وَمُرِيهِ يُثْبِتُ عَتَبَةَ بَابِهِ، فَلَمَّا جَاءَ إِسْمَاعِيلُ قَالَ: هَلْ أَتَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، أَتَانَا شَيْخٌ حَسَنُ الهَيْئَةِ، وَأَثْنَتْ عَلَيْهِ، فَسَأَلَنِي عَنْكَ فَأَخْبَرْتُهُ، فَسَأَلَنِي كَيْفَ عَيْشُنَا فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّا بِخَيْرٍ، قَالَ: فَأَوْصَاكِ بِشَيْءٍ، قَالَتْ: نَعَمْ، هُوَ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلاَمَ، وَيَأْمُرُكَ أَنْ تُثْبِتَ عَتَبَةَ بَابِكَ، قَالَ: ذَاكِ أَبِي وَأَنْتِ العَتَبَةُ، أَمَرَنِي أَنْ أُمْسِكَكِ، ثُمَّ لَبِثَ عَنْهُمْ مَا شَاءَ اللَّـهُ، ثُمَّ جَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِسْمَاعِيلُ يَبْرِي نَبْلًا لَهُ تَحْتَ دَوْحَةٍ قَرِيبًا مِنْ زَمْزَمَ، فَلَمَّا رَآهُ قَامَ إِلَيْهِ، فَصَنَعَا كَمَا يَصْنَعُ الوَالِدُ بِالوَلَدِ وَالوَلَدُ بِالوَالِدِ، ثُمَّ قَالَ يَا إِسْمَاعِيلُ، إِنَّ اللَّـهَ أَمَرَنِي بِأَمْرٍ، قَالَ: فَاصْنَعْ مَا أَمَرَكَ رَبُّكَ، قَالَ: وَتُعِينُنِي؟ قَالَ: وَأُعِينُكَ.
قَالَ: فَإِنَّ اللَّـهَ أَمَرَنِي أَنْ أَبْنِيَ هَا هُنَا بَيْتًا، وَأَشَارَ إِلَى أَكَمَةٍ مُرْتَفِعَةٍ عَلَى مَا حَوْلَهَا، قَالَ: فَعِنْدَ ذَلِكَ رَفَعَا القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ، فَجَعَلَ إِسْمَاعِيلُ يَأْتِي بِالحِجَارَةِ وَإِبْرَاهِيمُ يَبْنِي، حَتَّى إِذَا ارْتَفَعَ البِنَاءُ، جَاءَ بِهَذَا الحَجَرِ فَوَضَعَهُ لَهُ فَقَامَ عَلَيْهِ، وَهُوَ يَبْنِي وَإِسْمَاعِيلُ يُنَاوِلُهُ الحِجَارَةَ، وَهُمَا يَقُولاَنِ: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ} ، قَالَ: فَجَعَلاَ يَبْنِيَانِ حَتَّى يَدُورَا حَوْلَ البَيْتِ وَهُمَا يَقُولاَنِ: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ}.
وفي رواية : وأقامَا البِنَاءَ وَرَفَعَاهُ إلاَّ مَوضِعَ الحَجَرِ الأَسوَدِ، ففي رواية: (ذَهَبَ إِسْمَاعِيلُ إِلَى الْوَادِي يَطْلُبُ حَجَرًا ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ بِالْحَجَرِ الْأَسْوَد وَقَدْ كَانَ رُفِعَ إِلَى السَّمَاء حِين غَرِقَتْ الْأَرْض...).
فلَمَّا فَرَغَ إبراهيمُ من البِنَاءِ –عباد الله- جَاءَهُ جِبريلُ فَأَراهُ المَنَاسِكَ كُلَّها ثُمَّ قَالَ أَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالحَجِّ قَال ومَا يُبلِّغُ صَوتِي؟ قالَ أذِّن وَعَلَينَا البَلاغُ! فقال: يَا أَيّهَا النَّاس أَجِيبُوا رَبَّكُمْ، وكتِبَ عَلَيْكُمْ الْحَجُّ فحجوا , فَأَسْمَعَ مَنْ فِي أَصْلَابِ الرِّجَالِ وَأَرْحَامِ النِّسَاء، فَأَجَابَهُ مَنْ آمَنَ وَمَنْ كَانَ سَبَقَ فِي عِلْم الله أَنَّهُ يَحُجُّ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة: لَبَّيْكَ اللهمَّ لَبَّيْكَ...)...وهكذا تَمَّ البناءُ وقامَ الصَّرحُ الشامخُ وكانَ قِبلَةً وَوِجهَةً لِلمسلمينَ ( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ ).
عبادَ اللَّـهِ: فيما أوردنا من قِصَّةِ إبراهيمَ الآنفةِ عِبَرٌ عظيمةٌ، نقتصرُ على ما تيسَّر منها.
فمن تلكمُ العِبَرِ: أَنَّ العَجَبَ لا ينقضي من استسلامِ إبراهيمَ ﷺ لأوامرِ اللَّـهِ -جلَّ وعلا-، فها هو يستجيبُ لأمرِ اللَّـهِ -سبحانه- أن يضعَ زوجَه وولدَه الرَّضِيعَ في مكَّةَ، وهي -آنذاك- مكانٌ مُّوحِشٌ، لا أنيسَ فيها، ولا طعامَ ولا شرابَ، ثمَّ أمره اللَّـهُ -بعدَ ذلك- بذَبْحِ ابنِه ذلك فلم يتردَّدْ في الاستجابة؛ بل عجَّل بالإجابة، فكان مسلماً حقيقةَ الإسلامِ؛ فإنَّ قَدَمَ الْإِسْلَامِ؛ لا تثبتُ إِلَّا على ظَهْرِ التسليمِ والِاستسلامِ، وعلى المُسلمين أن يُسْلِمُوا للَّـهِ في جميعِ أوامرِه؛ استجابةً لأمرِه بذلك في قولِه: ﴿يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱدۡخُلُواْ فِي ٱلسِّلۡمِ كَآفَّةً﴾.
معاشرَ المُسلمين: ومن عِبَرِ هذه القصَّةِ: إنَّ إبراهيمَ لمَّا أخلص للَّـهِ المَحبَّةَ -فلم يُقدِّم عليها محبَّةَ الولدِ والزوجِ، أو حُظُوظَ النَّفْسِ- كافأه اللَّـهُ فحفظَ ولدَه وزوجَه؛ بل كافأه بما هو أعظمُ: فأخلص له المَحبَّةَ؛ كما قال تعالى: ﴿وَٱتَّخَذَ ٱللَّهُ إِبۡرَٰهِيمَ خَلِيلاً﴾، والخُلَّةُ هي أعلى درجاتِ المَحبَّةِ، فلمَّا أخلص إبراهيمُ ﷺ للَّـهِ المَحبَّةَ، أخلص اللَّـهُ له حـُبَّهُ.
ويُعْلَمُ منه: أنَّ محبَّةَ اللَّـهِ للعبدِ تكونُ على قدرِ محبَّةِ العبدِ للَّـهِ، فانظرْ -يا عبدَ اللَّـهِ- قَدْرَ محبَّةِ اللَّـهِ في قلبِك، واعلم أنَّ مَحبَّةَ اللَّـهِ ليست بالتحلِّي ولا بالتَّمَنِّي، وإنَّما هي شيءٌ وَقَرَ في القلبِ، وصدَّقه العملُ، فإبراهيمُ إنَّما نال خُلَّةَ اللَّـهِ لأنه وفَّى ما أمره اللَّـهُ به؛ كما قال تعالى: ﴿وَإِبۡرَٰهِيمَ ٱلَّذِي وَفَّى﴾، وقام بما ابتلاه اللَّـهُ به تمامَ القيامِ؛ كما قال جلَّ وعَلا: ﴿وَإِذِ ٱبۡتَلَى إِبۡرَٰهِـۧمَ رَبُّهُو بِكَلِمَٰتٍ فَأَتَمَّهُنَّ﴾.
فاتقوا الله عباد الله وعظموا ما عظم الله ( وإذ جعلنا البيتَ مثابةً للناسِ وأمنا واتخذوا من مقامِ إبراهيمَ مصلى وعهدنا إلى إبراهيمَ وإسماعيلَ أن طهرا بيتيَ للطائفينَ والعاكفينَ والركعِ السجود ) بارك الله لي ولكم ....
الخطبةُ الثانيةُ فَإِنَّ اللَّـهَ أَمَرَنِي أَنْ أَبْنِيَ هَا هُنَا بَيْتًا
الحمدُ للـهِ ...أما بعد
فيا عبادَ الله: من عظيمِ العِبَرِ في هذه القِصَّةِ: عدمُ التفاتِ إبراهيمَ ﷺ لمَّا نادته زوجُه هاجَرُ -مِرَاراً- تسألُه: لمَن يتركُهم في وادٍ ليس فيه أنيسٌ ولا شيءٌ، ويُسْتَنْبَطُ من هذا أنَّ المُلْهِيَاتِ إذا صاحَتْ بالعبدِ في طريقِه إلى اللَّـهِ فلا يَلتفتُ إليها فإنها قد تَّصُدُّه عن طاعةِ اللَّـهِ، وإن لم تَصُدَّه فإنها تُؤَخِّرُه عنِ اللَّحَاقِ بالصِّدِّيقين، ومتى التفتَّ إلى ما يُلْهِيك عن طاعةِ اللَّهِ فإنك قد تَهْلَكُ ...
ومن جليلِ عِبَرِ هذه القِصَّةِ: تَوَكُّلُ هاجَرَ -رضي اللَّـهُ عنها-، فهي لمَّا سألت إبراهيمَ ﷺ قائلةً: «آللَّـهُ الَّذِي أَمَرَكَ بِهَذَا»؟ قَالَ «نَعَمْ»، قَالَتْ: «إِذَن لَّا يُضَيِّعُنَا»، فللَّهِ دَرُّها ما أعظمَ توكُّلِها، ومَن تَوَكَّلَ على اللَّهِ كفاه ما أهمَّه؛ كما قال تعالى: ﴿وَمَن يَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِ فَهُوَ حَسۡبُهُو﴾، وقد كفى اللَّـهُ هاجَرَ ما أهمَّها؛ بل خلَّد ذِكْرَها، فجعل السعيَ بين الصَّفَا والمَرْوَةِ عبادةً له إكراماً لها. وكم من مسلمٍ إذا أُمِرَ بما أَمَر اللَّـهُ تخوَّفَ من عواقبِه، ورُبَّما دفعه هذا إلى تركِ امتثالِ ذلك الأَمْرِ، فأين هذا من قولِ هاجَرَ -رضي اللَّـهُ عنها-: «إِذَن لَّا يُضَيِّعُنَا؟!»، ولو أنه قال: إذا كان هذا أمرُ اللَّـهِ فإنه لن يُضَيِّعَني لأَنْجَحَ وأَفلح.
معاشرَ المُسلمين: ومن بديعِ عِبَرِ هذه القِصَّةِ: دعاءُ إبراهيمَ لمَّا ولَّى عن زوجِه وولدِه، حين قال: ﴿ رَبِّ إِنِّي أَسۡكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيۡرِ ذِي زَرۡعٍ عِندَ بَيۡتِكَ ٱلمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ﴾ فجعل إقامةَ الصلاةِ هي سببَ إسكانِه لذُرِّيَّتِه عندَ البيتِ المُحرَّمِ، ثمَّ قال ﷺ: ﴿فَٱجۡعَلۡ أَفۡـِٔدَةً مِّنَ ٱلنَّاسِ تَهۡوِي إِلَيۡهِمۡ وَٱرۡزُقۡهُم مِّنَ الثمراتِ لَعَلَّهُمۡ يَشۡكُرُونَ﴾، ويُستفادُ منه أنَّ من أقام الصلاةَ -كما أمر اللَّـهُ- أقبل اللَّـهُ بقلوبِ المُؤمنين إليه، ورزقه منه رزقاً حَسَناً... فاللَّهُمَّ اجعلنا من مُّقِيمي الصلاةِ، ومن ذُرِّيَّاتِنا ..ربَّنَا وتقبل دعاء ...
ثم صلوا ....
المرفقات
1656435860_خطبة فإن الله أمرني أن ابني هاهنا بيتا.pdf
1656435863_خطبة فإن الله أمرني أن ابني هاهنا بيتا.doc