خطبة فاستبقوا الخيرات 6 رمضان 1438هجرية
عبدالوهاب بن محمد المعبأ
1438/09/06 - 2017/06/01 18:51PM
خطبة الجمعة
(فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ)
إعدادوترتيب عبدالوهاب المعبأ
الخطبة الاولى
الحمد لله الذي وصف المؤمنين بعمل الصالحات، وأمرهم باستباق الخيرات، والمسارعة إلى مغفرة منه وجنة عرضها الأرض والسماوات، أحمده سبحانه، يهدي من استهداه، ويجيب من دعاه، ويوفق لفعل الخير من تحراه، ويضاعف المثوبة لمن فعله يبتغي رضاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رب العالمين، وإله المؤمنين، هو الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين، وما يفعلوا من خير فلن يكفروه، والله عليم بالمتقين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خاتم النبيين وسيد المرسلين، المخصوص بالقرآن المبين، المعجزة الباهرة المستمرة على تكرر السنين، صاحب الشفاعة العظمى ولواء الحمد والمقام المحمود، يوم يقوم الناس لرب العالمين، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأزواجه وأصحابه الطيبين الطاهرين؛ الذين كانوا يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون.
أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا الله تعالى تفلحوا، وبادروا بالأعمال الصالحة قبل أن تُشغلوا، بادروا بالأعمال الصالحة فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا؛ فهل تنتظرون إلا فقراً منسيًّا، أو غنى مطغياً، أو مرضاً مفسداً، أو هرماً مفنداً، أو موتاً مجهزاً، أو الدجال، فشر غائب ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر؟
والله عزوجل دعا عباده بدعوة عظيمة رحيمه
فقال الكريم الرحمن (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ)[البقرة: 148].
قال السَّعْدِي: "فَمَنْ سَبَقَ في الدُّنْيا إلى الخيرات فَهُوُ السابقُ في الآخرةِ إلى الجنات، فالسابقون أعلى الْخَلْقِ دَرَجَة".
عباد الله المسارعةُ في الخيراتِ والمسابقةُ إلى الأعمالِ الصَّالحةِ للفوزِ برِضا اللهِ - عزَّ وجلَّ - نراها في سلوكِ كلِّ مسلمٍ فَطنٍ، وفي تصرُّفاتِه كلَّ وقتٍ وحينٍ؛ امتثالاً لأمرِ الخالقِ - عزَّ وجلَّ - إذ يقـولُ: ﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [آل عمران: 133]، ويقولُ: ﴿ سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ﴾ [الحديد: 21]،
والمعنى: بادروا يا مؤمنونَ إلى عملِ الصالحاتِ، وتنافسوا في تقديمِ الخيراتِ، ولا تُضيِّعوا الأوقاتَ في غير فائدةٍ، ولا تُؤثِروا الحياةَ العاجلةَ على الآجِلةِ، لا تَرْكَنوا إلى الحياةِ الفانيةِ، وتتركوا الباقيةَ؛ فإنَّ الآخرةَ خيرٌ وأبقَى، ولو كانتِ الدنيا مِن ذَهبٍ يفنَى، والآخرةُ مِن خَزَفٍ يبقَى، لكان الواجبُ على المسلمِ العاقلِ أن يُؤثِرَ خزفًا يبقَى على ذهبٍ يفنى، فكيف والآخرةُ مِن ذَهَبٍ يبقَى، والدنيا من خَزَفٍ يفنَى؟!
لاَ تَرْكَنَنَّ إِلَى الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا
فَالْمَوْتُ لاَ شَكَّ يُفْنِينَا وَيُفْنِيهَا
وَاعْمَلْ لِدَارٍ غَدًا رِضْوَانُ خَازِنُهَا
وَالجَارُ أَحْمَدُ وَالرَّحْمَنُ نَاشِيهَا
قُصُورُهَا ذَهَبٌ وَالمِسْكُ طِينَتُهَا
وَالزَّعْفَرَانُ حَشِيشٌ نَابِتٌ فِيهَا
أَنْهَارُهَا لَبَنٌ مُصْفَى وَمِنْ عَسَلٍ
وَالخَمْرُ تَجْرِي رَحِيقًا فِي مَجَارِيهَا
وَالطَّيْرُ تَجْرِي عَلَى الْأَغْصَانِ عَاكِفَةً
تُسبِّحُ اللهَ جَهْرًا فِي مَغَانِيهَا
مَنْ يَشْتَرِي الدَّارَ فِي الفِرْدَوْسِ يَعْمُرُهَا
بِرَكْعَةٍ فِي ظَلاَمِ اللَّيْلِ يُحْيِيهَا
وأَمَر المعصومُ - صلَّى الله عليه وسلَّم - الأُمَّةَ المسلمةَ في كلِّ زَمانٍ ومكانٍ بالمبادرةِ إلى كلِّ ما يُقرِّبُ مِن اللهِ - عزَّ وجلَّ - حين قال: ((بادِروا بالأعمالِ الصَّالِحة، فستكونُ فِتنٌ كقِطَعِ اللَّيلِ المُظلِمِ، يُصبح الرجلُ مؤمنًا ويُمسِي كافرًا، أو يُمسي مؤمنًا ويُصبِح كافرًا، يَبيع دِينَه بعَرَضٍ مِن الدُّنيا))؛ رواه مسلم.
في مُجتمعنا هذا كَثيرٌ مِن الناسِ أنفسُهم خَيِّرَةٌ، وقلوبُهم طاهرةٌ، يُحبُّون عملَ الخيرِ، وأفعالَ البرِّ، ولكنَّهم مُبتَلَون بالتسويفِ، وتأجيلِ الأعمالِ مِن يومٍ إلى يومٍ، لا يَنتهزون الفُرَصَ، وليس عندَهم خُلُقُ المبادرةِ والمسارعةِ والمسابقةِ.
تَستمعُ إلى أحدِهم وهو يُحدِّثُكَ عن أعمالٍ صالحةٍ يُريدها، ومشروعاتٍ خيريَّةٍ يرسمها، فيُعجبك حديثُهُ، وتحسُّ فيه الصدقَ والرغبةَ، ولكنَّ الأيَّامَ تمرُّ، وتتوالَى الشهورُ، وتَنقَضِي الأعوامُ، وأعمالُهُ ومشروعاتُهُ ما زالتْ أحلامًا لم تتحقَّق!
لمثل هذا يقولُ المعصومُ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((بادِروا بالأعمالِ الصَّالحةِ))، وانتهِزوا الفُرصَ قبلَ أن تفوتَكم، واحذروا الفِتنَ قبلَ أن تشغلَكم وتَصرفَكم عن هذه الأَعمال.
وليستِ الأعمالُ الصالحةُ هي: الصلاةَ، والزكاةَ، والصيامَ، والحجَّ، فقط، وإنَّما هي كثيرة متعدِّدة:
• زيارةُ المريضِ عملٌ صالحٌ، فسارِعْ إليه وبادِرْ قَبلَ أنْ يَفوتَك.
• إحسانُكَ إلى جارِك عملٌ صالحٌ، فسارِعْ إليه وبادِرْ قَبلَ أنْ يَفوتَك.
• قراءتُك القرآنَ الكريمَ عملٌ صالحٌ، فسارِعْ إليه وبادِرْ قَبلَ أنْ يَفوتَك.
• إعطاؤك الفقراءَ والمساكينَ عملٌ صالحٌ، فسارِعْ إليه وبادِرْ قَبلَ أنْ يَفوتَك.
• إغاثتُك الملهوفَ عملٌ صالحٌ، فسارِعْ إليه وبادِرْ قَبلَ أنْ يَفوتَك.
• إنصافُك المظلومَ عملٌ صالحٌ، فسارِعْ إليه وبادِرْ قَبلَ أنْ يَفوتَك.
• تربيتُك لأبنائِكَ وبناتِكَ على منهجِ الله عملٌ صالحٌ، فسارِعْ إليه وبادِرْ قَبلَ أنْ يَفوتَك.
• إعمارُ المساجدِ عملٌ صالحٌ، فسارِعْ إليه وبادِرْ قَبلَ أنْ يَفوتَك.
• طلبُ العلمِ عملٌ صالحٌ، فسارِعْ إليه وبادِرْ قَبلَ أنْ يَفوتَك.
• إنجازُك لعملِك إنْ كنتَ موظَّفًا عملٌ صالحٌ، فسارِعْ إليه وبادِرْ قَبلَ أنْ يَفوتَك.
• فَصلُكَ في الشكاوى المقدَّمةِ إليك إنْ كنت مديرًا في مؤسَّسةٍ أو رئيسًا في مصلحةٍ عملٌ صالحٌ، فسارِعْ إليه وبادِرْ قَبلَ أنْ يَفوتَك.
• قيامُك بالواجبِ عليك في كلِّ جانبٍ مِن جوانبِ الحياةِ عملٌ صالحٌ، فسارِعْ إليه وبادِرْ قَبلَ أنْ يَفوتَك.
فيا أيُّها المسوِّفُون، ويا أيُّها المتردِّدون، استبقوا الخيراتِ؛ فإنَّ الإنسانَ لا يَدري ماذا يَعرِضُ له؟ الإنسانُ لا يَدري مايكتب له ؟
هُناك مَن يُصابُ بالفقرِ بعدَ الغِنى، وهناك مَن يُغنى غنًى يصِل به إلى دَرجةِ الطغيان، وهناك مَن يَعرِضُ له المرضُ، وهناك مَن يُصيبه الهَرَمُ، حتى يصلَ به إلى درجةِ الخَرفِ، وهناك مَن يأتيه الموتُ سريعًا؛ ولذلك قال المعصوم - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((بَادِروا بالأعمالِ سبعًا؛ هلْ تَنتظِرونَ إلاَّ فقرًا مُنسِيًا، أو غِنىً مُطغِيًا، أو مرَضًا مُفسِدًا، أو هَرَمًا مُفنِّدًا، أو موتًا مُجهِزًا، أو الدجالَ فشرُّ غائِبٍ يُنتظَر، أو الساعةَ فالساعةُ أدْهى وأمَرُّ))؛ رواه الترمذيُّ، وقال: حديث حسن.
عباد الله التأنِّي والتمهُّلُ والرزانةُ مطلوبةٌ في كلِّ شيءٍ إلاَّ في عَمَل الآخرة؛ لماذا؟ لأنَّ عملَ الآخرةِ مطلوبٌ فيه المسارعةُ والمبادرةُ والمسابقةُ، كما جاءَ في القرآنِ الكريمِ والسُّنَّة النَّبويَّة؛ ولذلك عندما أوشكتِ الصفحةُ الأخيرةُ مِن حياةِ الإمامِ الجُنيدِ أن تُطوى، كان يقرأُ القرآنَ، ويَجتهدُ في القراءةِ وَقْتَ خروجِ رُوحِهِ، فقيل له: أتقرأُ في هذا الوقت؟! فقال: أُبادرُ طيَّ صحيفتي.
المؤمنُ الفَطِنُ يعلمُ أنَّ أنفاسَهُ معدودةٌ، وساعاتِ إقامتِهِ في الدنيا محدودةٌ، ويُدركُ أنَّ الحياةَ فُرصٌ، مَن اغتنم هذه الفرصَ وعمِل الصالحاتِ، فازَ وسعِد في الدنيا والآخِرة، ومَن ضيَّعها خابَ وخسِر، وقد حدَّثَ ابنُ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قائلاً: قالَ رَسولُ اللهِ - صلَّى الله عليه وسلَّم - لرجلٍ وهو يَعِظه: ((اغتنمْ خمسًا قبلَ خمس: شبابَك قبلَ هرَمِك، وصِحَّتَك قبل سَقمِك، وغِناك قبلَ فَقْرِك، وفراغَك قبلَ شُغلِك، وحياتَك قبلَ موتِك))؛ أخرجه الحاكم، وقال: هذا حديثٌ صحيحٌ على شرْط الشيخين
وانظرْ إلى الصحابيِّ الجليلِ عمرِو بن الجموحِ الأنصاريِّ - رضي الله عنه - حينما رأى أبناءَه ذاهبين إلى الجِهادِ في سبيلِ الله، أصَرَّ على مصاحبتِهم والخروجِ معهم، فحاولوا منْعَه مِن الذَّهابِ معهم قائلين له: نحن نَكفيك، وإنَّ اللهَ يَعذِرك؛ لعرجتِك وكِبر سِنِّك، ولكنَّه يصيحُ فيهم قائلاً: ما لكم تمنعونني مِن دُخولِ الجنَّةِ، ثم يذهَب إلى رسولِ اللهِ شاكيًا أبناءَه، فيُخَلِّي رسولُ اللهِ بينه وبينهم، ويتركُونه وما يُريدُ، فيقول: يا رسولَ الله، أَإِذا استشهدتُ في سبيلِ الله أدخلُ الجنةَ بعَرْجَتي هذه؟ فيُطمِئنه رسولُ اللهِ ويقولُ له: ((كلاَّ، بل تدخُلها صحيحًا))، فيَرفعُ يديه إلى السماءِ ويقول: اللهمَّ إنْ أرجعتني، فأرْجِعني منصورًا، وإنْ قبضتني، فاقبضني شَهيدًا، ثم يخرجُ مِن ساعته إلى ساحةِ القِتالِ مبتغيًا الشهادةَ فينالها، وحينما يَسمعُ النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - نبأَ استشهادِهِ يقول: ((واللهِ لكأنِّي أرَى عمرَو بن الجموح يَمضي بعَرجتِه هذه سليمًا في الجنَّة)).
تاجَر عَمرٌو مع اللهِ تعالى بنفسِهِ ومالِهِ، فكان حقًّا على اللهِ أن يُدخِله الجنَّة؛ ﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [التوبة: 111].
فسارِعْ في الخيراتِ كما سارَع أسلافُكَ، وبادرْ إلى الطاعاتِ كما بادَروا، وقدِّمْ لنفسِك كما قدَّموا؛ ﴿ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [المزمل: 20].
طرقُ الخيرِ والنفعِ كثيرةٌ متاحةٌ للجميع، ولكن أين السالِكون؟ وأينَ السائِرون؟
أبوابُ البِرِّ متعدِّدةٌ، ولكن أينَ المسارِعون إليها؟ وأينَ الطارِقون لها؟
إذا كان الرَّجلُ الغنيُّ يتصدَّقُ بما أنعم اللهُ عليه مِن نِعمةِ المالِ، فإنَّ اللهَ قد جعَل للفقراءِ أيضًا أعمالاً تُضاهي الصَّدقاتِ؛ حدث أبو ذَرٍّ - رضي الله عنه - أنَّ ناسًا مِن أصحابِ النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - الفُقراءِ قالوا للنبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: يا رسولَ الله، ذَهَب أهلُ الدُّثور بالأجـور؛ يُصلُّون كما نُصلِّي، ويَصومون كما نَصوم، ويَتصدَّقون بفُضولِ أموالِهم ولا نَتصدَّق، قال: ((أوَلَيس قدْ جعَلَ اللهُ لكم ما تَصدَّقون به؟ إنَّ بكلِّ تسبيحةٍ صدَقةً، وكلِّ تكبيرةٍ صَدَقة، وكلِّ تحميدةٍ صدقةٌ، وكلِّ تهليلةٍ صدقةٌ، وأمرٌ بالمعروفِ صدقةٌ، ونهيٌ عن مُنكَر صدقةٌ، وفي بُضعِ أحدِكم صدَقةٌ)) قالوا: يا رسولَ الله، أيأتي أحدُنا شهوتَه ويكون له فيها أجْر؟ قال: ((أرأيتُم لو وضَعَها في حرامٍ، أكان عليه فيها وِزرٌ؟ فكذلك إذا وضعَها في الحلالِ كان له أجْرٌ))؛ رواه مسلم.
قال الحسن : رحمه الله : من نافسك في دينك فنافسه ومن نافسك في دنياك فألقها في نحره.
وقال وهيب بن الورد : إن استطعت ألا يسبقك إلى الله أحد فافعل.
والمسابقة إلى مغفرة الله ورضوانه وجنته، تكون بفعل أسباب المغفرة، من التوبة النصوح، والاستغفار النافع، والبعد عن الذنوب ومظانها، والمسابقة إلى رضوان الله بالعمل الصالح، والحرص على ما يُرضي الله على الدوام، من الإحسان في عبادة الخالق، والإحسان إلى الخلق بجميع وجوه النفع.. اللهم وفقنا للمسارعة إلى الخيرات واجعلنا من السابقين إليها يا كريم
يقول الله -تبارك وتعالى-: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ، سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [الحديد:20-21].
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات...
الخطبة الثانية
معاشر المسلمين، إنكم لتلاحظون سراعَ كثير من الناس في أمور الدنيا، وتلاحظون حبهم لزهراتها وألوانها، وإنكم لتعجبون من ركضهم وراء مصالحهم ومنافعهم، في حين غفلتهم عن المنافع الباقية والكنوز النفيسة.
عباد الله نحن في هذه الأيام، أيام مباركات، وذخائر نفيسات، وساعات فاضلات، أيام تضاعف فيها الأعمال وتزداد فيها الدرجات ويعظم فيها الثواب، إنها أيام
موسم الخيرات نعيش بفضل الله
هذا الموسم وقد ابقانا الله وأخذ غيرنا وهذا من فضل الله علينا ان ادركنا صيام رمضان
إن هذه الأيام الفاضلة تستدعينا للجدِّ والاجتهاد، فاحرصوا - يا مسلمون - على استغلالها وعمارتها بالأعمال الصالحة، وإنه لمن المؤسف أن يمر هذاالشهر ، والناس في غفلة فاكهون، لا في الخيرات يسارعون، ولا عن المعاصي يقلعون، قد أهمتهم الدنيا، واجتاحتهم الغفلة، واحتواهم الطمع.
إن الإنسان منا لينمِّي ماله ولا ينمي عمله، يزيد في غفلته ولا يزيد في درجته، يسارع في الفاني ويبطئ في الباقي!
وَالنَّاسُ هَمُّهُمُ الْحَيَاةُ وَلَمْ أرَ طُولَ الْحَيَاةِ يَزِيدُ غَيْرَ خَبَالِ
وَإِذَا افْتَقَرْتَ إِلَى الذَّخَائِرِ لَمْ تَجِد ذُخْرًا يَكُونُ كَصَالِحِ الْأَعْمَالِ
إن هذه الأوقات - يا مسلمون - جزء من أعماركم، وضياعها ضياع لكم وزيادة في حسراتكم
لذا لا عجب أن يحرص السلف الصالح على اغتنام
هذا الشهر المبارك
فيا مسلمون ..هيا لنجعل من شهر رمضان شهر لذة وحلاوة المناجاة.هيا لنتلذذ بمناجاة الحبيب الأعظم ربنا جل في علاه هيا لنحقق قوله تعالى:{..وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ..}(البقرة:165).
عباد الله العبادة سهلة ميسرة لمن يسرها الله عليه،ولا تحتاج من المرء إلا أن يضع أقدامه على الطريق الصحيح بجد وعزم وإخلاص وسوف يعينه الله كيف لا وهو قد وعد وربنا لا يخلف الميعاد بقوله :
{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}(العنكبوت:69).
قال بكر بن عبدالله المزني - رحمه الله -: "ما من يوم أخرجه الله إلى أهل الدنيا إلا ينادي: ابن آدم، اغتنمني لعله لا يوم لك بعدي، ولا ليلة إلا تنادي: ابن آدم، اغتنمني لعله لا ليلة لك بعدي".
يا مسلمون، إن وراءنا يومًا ثقيلاً عسيرًا، فتزودوا لذلك اليوم وخذوا له أهبته، فليس هناك إلا فريقان: فريق السعادة، وفريق الشقاء، يسعد أناس ويشقى آخرون، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر: 18]..
أخوكم عبدالوهاب المعبأ773027648
(فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ)
إعدادوترتيب عبدالوهاب المعبأ
الخطبة الاولى
الحمد لله الذي وصف المؤمنين بعمل الصالحات، وأمرهم باستباق الخيرات، والمسارعة إلى مغفرة منه وجنة عرضها الأرض والسماوات، أحمده سبحانه، يهدي من استهداه، ويجيب من دعاه، ويوفق لفعل الخير من تحراه، ويضاعف المثوبة لمن فعله يبتغي رضاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رب العالمين، وإله المؤمنين، هو الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين، وما يفعلوا من خير فلن يكفروه، والله عليم بالمتقين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خاتم النبيين وسيد المرسلين، المخصوص بالقرآن المبين، المعجزة الباهرة المستمرة على تكرر السنين، صاحب الشفاعة العظمى ولواء الحمد والمقام المحمود، يوم يقوم الناس لرب العالمين، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأزواجه وأصحابه الطيبين الطاهرين؛ الذين كانوا يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون.
أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا الله تعالى تفلحوا، وبادروا بالأعمال الصالحة قبل أن تُشغلوا، بادروا بالأعمال الصالحة فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا؛ فهل تنتظرون إلا فقراً منسيًّا، أو غنى مطغياً، أو مرضاً مفسداً، أو هرماً مفنداً، أو موتاً مجهزاً، أو الدجال، فشر غائب ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر؟
والله عزوجل دعا عباده بدعوة عظيمة رحيمه
فقال الكريم الرحمن (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ)[البقرة: 148].
قال السَّعْدِي: "فَمَنْ سَبَقَ في الدُّنْيا إلى الخيرات فَهُوُ السابقُ في الآخرةِ إلى الجنات، فالسابقون أعلى الْخَلْقِ دَرَجَة".
عباد الله المسارعةُ في الخيراتِ والمسابقةُ إلى الأعمالِ الصَّالحةِ للفوزِ برِضا اللهِ - عزَّ وجلَّ - نراها في سلوكِ كلِّ مسلمٍ فَطنٍ، وفي تصرُّفاتِه كلَّ وقتٍ وحينٍ؛ امتثالاً لأمرِ الخالقِ - عزَّ وجلَّ - إذ يقـولُ: ﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [آل عمران: 133]، ويقولُ: ﴿ سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ﴾ [الحديد: 21]،
والمعنى: بادروا يا مؤمنونَ إلى عملِ الصالحاتِ، وتنافسوا في تقديمِ الخيراتِ، ولا تُضيِّعوا الأوقاتَ في غير فائدةٍ، ولا تُؤثِروا الحياةَ العاجلةَ على الآجِلةِ، لا تَرْكَنوا إلى الحياةِ الفانيةِ، وتتركوا الباقيةَ؛ فإنَّ الآخرةَ خيرٌ وأبقَى، ولو كانتِ الدنيا مِن ذَهبٍ يفنَى، والآخرةُ مِن خَزَفٍ يبقَى، لكان الواجبُ على المسلمِ العاقلِ أن يُؤثِرَ خزفًا يبقَى على ذهبٍ يفنى، فكيف والآخرةُ مِن ذَهَبٍ يبقَى، والدنيا من خَزَفٍ يفنَى؟!
لاَ تَرْكَنَنَّ إِلَى الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا
فَالْمَوْتُ لاَ شَكَّ يُفْنِينَا وَيُفْنِيهَا
وَاعْمَلْ لِدَارٍ غَدًا رِضْوَانُ خَازِنُهَا
وَالجَارُ أَحْمَدُ وَالرَّحْمَنُ نَاشِيهَا
قُصُورُهَا ذَهَبٌ وَالمِسْكُ طِينَتُهَا
وَالزَّعْفَرَانُ حَشِيشٌ نَابِتٌ فِيهَا
أَنْهَارُهَا لَبَنٌ مُصْفَى وَمِنْ عَسَلٍ
وَالخَمْرُ تَجْرِي رَحِيقًا فِي مَجَارِيهَا
وَالطَّيْرُ تَجْرِي عَلَى الْأَغْصَانِ عَاكِفَةً
تُسبِّحُ اللهَ جَهْرًا فِي مَغَانِيهَا
مَنْ يَشْتَرِي الدَّارَ فِي الفِرْدَوْسِ يَعْمُرُهَا
بِرَكْعَةٍ فِي ظَلاَمِ اللَّيْلِ يُحْيِيهَا
وأَمَر المعصومُ - صلَّى الله عليه وسلَّم - الأُمَّةَ المسلمةَ في كلِّ زَمانٍ ومكانٍ بالمبادرةِ إلى كلِّ ما يُقرِّبُ مِن اللهِ - عزَّ وجلَّ - حين قال: ((بادِروا بالأعمالِ الصَّالِحة، فستكونُ فِتنٌ كقِطَعِ اللَّيلِ المُظلِمِ، يُصبح الرجلُ مؤمنًا ويُمسِي كافرًا، أو يُمسي مؤمنًا ويُصبِح كافرًا، يَبيع دِينَه بعَرَضٍ مِن الدُّنيا))؛ رواه مسلم.
في مُجتمعنا هذا كَثيرٌ مِن الناسِ أنفسُهم خَيِّرَةٌ، وقلوبُهم طاهرةٌ، يُحبُّون عملَ الخيرِ، وأفعالَ البرِّ، ولكنَّهم مُبتَلَون بالتسويفِ، وتأجيلِ الأعمالِ مِن يومٍ إلى يومٍ، لا يَنتهزون الفُرَصَ، وليس عندَهم خُلُقُ المبادرةِ والمسارعةِ والمسابقةِ.
تَستمعُ إلى أحدِهم وهو يُحدِّثُكَ عن أعمالٍ صالحةٍ يُريدها، ومشروعاتٍ خيريَّةٍ يرسمها، فيُعجبك حديثُهُ، وتحسُّ فيه الصدقَ والرغبةَ، ولكنَّ الأيَّامَ تمرُّ، وتتوالَى الشهورُ، وتَنقَضِي الأعوامُ، وأعمالُهُ ومشروعاتُهُ ما زالتْ أحلامًا لم تتحقَّق!
لمثل هذا يقولُ المعصومُ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((بادِروا بالأعمالِ الصَّالحةِ))، وانتهِزوا الفُرصَ قبلَ أن تفوتَكم، واحذروا الفِتنَ قبلَ أن تشغلَكم وتَصرفَكم عن هذه الأَعمال.
وليستِ الأعمالُ الصالحةُ هي: الصلاةَ، والزكاةَ، والصيامَ، والحجَّ، فقط، وإنَّما هي كثيرة متعدِّدة:
• زيارةُ المريضِ عملٌ صالحٌ، فسارِعْ إليه وبادِرْ قَبلَ أنْ يَفوتَك.
• إحسانُكَ إلى جارِك عملٌ صالحٌ، فسارِعْ إليه وبادِرْ قَبلَ أنْ يَفوتَك.
• قراءتُك القرآنَ الكريمَ عملٌ صالحٌ، فسارِعْ إليه وبادِرْ قَبلَ أنْ يَفوتَك.
• إعطاؤك الفقراءَ والمساكينَ عملٌ صالحٌ، فسارِعْ إليه وبادِرْ قَبلَ أنْ يَفوتَك.
• إغاثتُك الملهوفَ عملٌ صالحٌ، فسارِعْ إليه وبادِرْ قَبلَ أنْ يَفوتَك.
• إنصافُك المظلومَ عملٌ صالحٌ، فسارِعْ إليه وبادِرْ قَبلَ أنْ يَفوتَك.
• تربيتُك لأبنائِكَ وبناتِكَ على منهجِ الله عملٌ صالحٌ، فسارِعْ إليه وبادِرْ قَبلَ أنْ يَفوتَك.
• إعمارُ المساجدِ عملٌ صالحٌ، فسارِعْ إليه وبادِرْ قَبلَ أنْ يَفوتَك.
• طلبُ العلمِ عملٌ صالحٌ، فسارِعْ إليه وبادِرْ قَبلَ أنْ يَفوتَك.
• إنجازُك لعملِك إنْ كنتَ موظَّفًا عملٌ صالحٌ، فسارِعْ إليه وبادِرْ قَبلَ أنْ يَفوتَك.
• فَصلُكَ في الشكاوى المقدَّمةِ إليك إنْ كنت مديرًا في مؤسَّسةٍ أو رئيسًا في مصلحةٍ عملٌ صالحٌ، فسارِعْ إليه وبادِرْ قَبلَ أنْ يَفوتَك.
• قيامُك بالواجبِ عليك في كلِّ جانبٍ مِن جوانبِ الحياةِ عملٌ صالحٌ، فسارِعْ إليه وبادِرْ قَبلَ أنْ يَفوتَك.
فيا أيُّها المسوِّفُون، ويا أيُّها المتردِّدون، استبقوا الخيراتِ؛ فإنَّ الإنسانَ لا يَدري ماذا يَعرِضُ له؟ الإنسانُ لا يَدري مايكتب له ؟
هُناك مَن يُصابُ بالفقرِ بعدَ الغِنى، وهناك مَن يُغنى غنًى يصِل به إلى دَرجةِ الطغيان، وهناك مَن يَعرِضُ له المرضُ، وهناك مَن يُصيبه الهَرَمُ، حتى يصلَ به إلى درجةِ الخَرفِ، وهناك مَن يأتيه الموتُ سريعًا؛ ولذلك قال المعصوم - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((بَادِروا بالأعمالِ سبعًا؛ هلْ تَنتظِرونَ إلاَّ فقرًا مُنسِيًا، أو غِنىً مُطغِيًا، أو مرَضًا مُفسِدًا، أو هَرَمًا مُفنِّدًا، أو موتًا مُجهِزًا، أو الدجالَ فشرُّ غائِبٍ يُنتظَر، أو الساعةَ فالساعةُ أدْهى وأمَرُّ))؛ رواه الترمذيُّ، وقال: حديث حسن.
عباد الله التأنِّي والتمهُّلُ والرزانةُ مطلوبةٌ في كلِّ شيءٍ إلاَّ في عَمَل الآخرة؛ لماذا؟ لأنَّ عملَ الآخرةِ مطلوبٌ فيه المسارعةُ والمبادرةُ والمسابقةُ، كما جاءَ في القرآنِ الكريمِ والسُّنَّة النَّبويَّة؛ ولذلك عندما أوشكتِ الصفحةُ الأخيرةُ مِن حياةِ الإمامِ الجُنيدِ أن تُطوى، كان يقرأُ القرآنَ، ويَجتهدُ في القراءةِ وَقْتَ خروجِ رُوحِهِ، فقيل له: أتقرأُ في هذا الوقت؟! فقال: أُبادرُ طيَّ صحيفتي.
المؤمنُ الفَطِنُ يعلمُ أنَّ أنفاسَهُ معدودةٌ، وساعاتِ إقامتِهِ في الدنيا محدودةٌ، ويُدركُ أنَّ الحياةَ فُرصٌ، مَن اغتنم هذه الفرصَ وعمِل الصالحاتِ، فازَ وسعِد في الدنيا والآخِرة، ومَن ضيَّعها خابَ وخسِر، وقد حدَّثَ ابنُ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قائلاً: قالَ رَسولُ اللهِ - صلَّى الله عليه وسلَّم - لرجلٍ وهو يَعِظه: ((اغتنمْ خمسًا قبلَ خمس: شبابَك قبلَ هرَمِك، وصِحَّتَك قبل سَقمِك، وغِناك قبلَ فَقْرِك، وفراغَك قبلَ شُغلِك، وحياتَك قبلَ موتِك))؛ أخرجه الحاكم، وقال: هذا حديثٌ صحيحٌ على شرْط الشيخين
وانظرْ إلى الصحابيِّ الجليلِ عمرِو بن الجموحِ الأنصاريِّ - رضي الله عنه - حينما رأى أبناءَه ذاهبين إلى الجِهادِ في سبيلِ الله، أصَرَّ على مصاحبتِهم والخروجِ معهم، فحاولوا منْعَه مِن الذَّهابِ معهم قائلين له: نحن نَكفيك، وإنَّ اللهَ يَعذِرك؛ لعرجتِك وكِبر سِنِّك، ولكنَّه يصيحُ فيهم قائلاً: ما لكم تمنعونني مِن دُخولِ الجنَّةِ، ثم يذهَب إلى رسولِ اللهِ شاكيًا أبناءَه، فيُخَلِّي رسولُ اللهِ بينه وبينهم، ويتركُونه وما يُريدُ، فيقول: يا رسولَ الله، أَإِذا استشهدتُ في سبيلِ الله أدخلُ الجنةَ بعَرْجَتي هذه؟ فيُطمِئنه رسولُ اللهِ ويقولُ له: ((كلاَّ، بل تدخُلها صحيحًا))، فيَرفعُ يديه إلى السماءِ ويقول: اللهمَّ إنْ أرجعتني، فأرْجِعني منصورًا، وإنْ قبضتني، فاقبضني شَهيدًا، ثم يخرجُ مِن ساعته إلى ساحةِ القِتالِ مبتغيًا الشهادةَ فينالها، وحينما يَسمعُ النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - نبأَ استشهادِهِ يقول: ((واللهِ لكأنِّي أرَى عمرَو بن الجموح يَمضي بعَرجتِه هذه سليمًا في الجنَّة)).
تاجَر عَمرٌو مع اللهِ تعالى بنفسِهِ ومالِهِ، فكان حقًّا على اللهِ أن يُدخِله الجنَّة؛ ﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [التوبة: 111].
فسارِعْ في الخيراتِ كما سارَع أسلافُكَ، وبادرْ إلى الطاعاتِ كما بادَروا، وقدِّمْ لنفسِك كما قدَّموا؛ ﴿ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [المزمل: 20].
طرقُ الخيرِ والنفعِ كثيرةٌ متاحةٌ للجميع، ولكن أين السالِكون؟ وأينَ السائِرون؟
أبوابُ البِرِّ متعدِّدةٌ، ولكن أينَ المسارِعون إليها؟ وأينَ الطارِقون لها؟
إذا كان الرَّجلُ الغنيُّ يتصدَّقُ بما أنعم اللهُ عليه مِن نِعمةِ المالِ، فإنَّ اللهَ قد جعَل للفقراءِ أيضًا أعمالاً تُضاهي الصَّدقاتِ؛ حدث أبو ذَرٍّ - رضي الله عنه - أنَّ ناسًا مِن أصحابِ النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - الفُقراءِ قالوا للنبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: يا رسولَ الله، ذَهَب أهلُ الدُّثور بالأجـور؛ يُصلُّون كما نُصلِّي، ويَصومون كما نَصوم، ويَتصدَّقون بفُضولِ أموالِهم ولا نَتصدَّق، قال: ((أوَلَيس قدْ جعَلَ اللهُ لكم ما تَصدَّقون به؟ إنَّ بكلِّ تسبيحةٍ صدَقةً، وكلِّ تكبيرةٍ صَدَقة، وكلِّ تحميدةٍ صدقةٌ، وكلِّ تهليلةٍ صدقةٌ، وأمرٌ بالمعروفِ صدقةٌ، ونهيٌ عن مُنكَر صدقةٌ، وفي بُضعِ أحدِكم صدَقةٌ)) قالوا: يا رسولَ الله، أيأتي أحدُنا شهوتَه ويكون له فيها أجْر؟ قال: ((أرأيتُم لو وضَعَها في حرامٍ، أكان عليه فيها وِزرٌ؟ فكذلك إذا وضعَها في الحلالِ كان له أجْرٌ))؛ رواه مسلم.
قال الحسن : رحمه الله : من نافسك في دينك فنافسه ومن نافسك في دنياك فألقها في نحره.
وقال وهيب بن الورد : إن استطعت ألا يسبقك إلى الله أحد فافعل.
والمسابقة إلى مغفرة الله ورضوانه وجنته، تكون بفعل أسباب المغفرة، من التوبة النصوح، والاستغفار النافع، والبعد عن الذنوب ومظانها، والمسابقة إلى رضوان الله بالعمل الصالح، والحرص على ما يُرضي الله على الدوام، من الإحسان في عبادة الخالق، والإحسان إلى الخلق بجميع وجوه النفع.. اللهم وفقنا للمسارعة إلى الخيرات واجعلنا من السابقين إليها يا كريم
يقول الله -تبارك وتعالى-: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ، سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [الحديد:20-21].
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات...
الخطبة الثانية
معاشر المسلمين، إنكم لتلاحظون سراعَ كثير من الناس في أمور الدنيا، وتلاحظون حبهم لزهراتها وألوانها، وإنكم لتعجبون من ركضهم وراء مصالحهم ومنافعهم، في حين غفلتهم عن المنافع الباقية والكنوز النفيسة.
عباد الله نحن في هذه الأيام، أيام مباركات، وذخائر نفيسات، وساعات فاضلات، أيام تضاعف فيها الأعمال وتزداد فيها الدرجات ويعظم فيها الثواب، إنها أيام
موسم الخيرات نعيش بفضل الله
هذا الموسم وقد ابقانا الله وأخذ غيرنا وهذا من فضل الله علينا ان ادركنا صيام رمضان
إن هذه الأيام الفاضلة تستدعينا للجدِّ والاجتهاد، فاحرصوا - يا مسلمون - على استغلالها وعمارتها بالأعمال الصالحة، وإنه لمن المؤسف أن يمر هذاالشهر ، والناس في غفلة فاكهون، لا في الخيرات يسارعون، ولا عن المعاصي يقلعون، قد أهمتهم الدنيا، واجتاحتهم الغفلة، واحتواهم الطمع.
إن الإنسان منا لينمِّي ماله ولا ينمي عمله، يزيد في غفلته ولا يزيد في درجته، يسارع في الفاني ويبطئ في الباقي!
وَالنَّاسُ هَمُّهُمُ الْحَيَاةُ وَلَمْ أرَ طُولَ الْحَيَاةِ يَزِيدُ غَيْرَ خَبَالِ
وَإِذَا افْتَقَرْتَ إِلَى الذَّخَائِرِ لَمْ تَجِد ذُخْرًا يَكُونُ كَصَالِحِ الْأَعْمَالِ
إن هذه الأوقات - يا مسلمون - جزء من أعماركم، وضياعها ضياع لكم وزيادة في حسراتكم
لذا لا عجب أن يحرص السلف الصالح على اغتنام
هذا الشهر المبارك
فيا مسلمون ..هيا لنجعل من شهر رمضان شهر لذة وحلاوة المناجاة.هيا لنتلذذ بمناجاة الحبيب الأعظم ربنا جل في علاه هيا لنحقق قوله تعالى:{..وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ..}(البقرة:165).
عباد الله العبادة سهلة ميسرة لمن يسرها الله عليه،ولا تحتاج من المرء إلا أن يضع أقدامه على الطريق الصحيح بجد وعزم وإخلاص وسوف يعينه الله كيف لا وهو قد وعد وربنا لا يخلف الميعاد بقوله :
{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}(العنكبوت:69).
قال بكر بن عبدالله المزني - رحمه الله -: "ما من يوم أخرجه الله إلى أهل الدنيا إلا ينادي: ابن آدم، اغتنمني لعله لا يوم لك بعدي، ولا ليلة إلا تنادي: ابن آدم، اغتنمني لعله لا ليلة لك بعدي".
يا مسلمون، إن وراءنا يومًا ثقيلاً عسيرًا، فتزودوا لذلك اليوم وخذوا له أهبته، فليس هناك إلا فريقان: فريق السعادة، وفريق الشقاء، يسعد أناس ويشقى آخرون، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر: 18]..
أخوكم عبدالوهاب المعبأ773027648