خطبة: غزوةُ بدرٍ وانتصافُ الشّهر

وليد بن محمد العباد
1444/09/15 - 2023/04/06 22:07PM

بسم الله الرحمن الرحيم

خطبة: غزوةُ بدرٍ وانتصافُ الشّهر

الخطبة الأولى

الحمدُ للهِ وليِّ الصّالحين، والعاقبةُ للمتّقين، ولا عدوانَ إلا على الظّالمين، وأُصلي وأُسلمُ على أشرفِ الأنبياءِ والمرسلين، نبيِّنا محمّدٍ وعلى آلِه وصحبِه أجمعين، أمّا بعدُ عبادَ الله

لقد وصلَ الإسلامُ إلينا بتضحِياتٍ فاضَتْ لأجلِه أرواح، وأُصيبَتْ أجساد، ويُتِّمَ أطفال، ورُمِّلتْ نساء، وقاتلَ لإعلائِه وبقائِه رسولٌ كريمٌ أمينٌ وصِدِّيقونَ وشُهداءُ، ليَصِلَنا غَضًّا طَرِيًّا كما أُنْزِل. ففي مثلِ هذه الأيّامِ مِن شهرِ رمضانَ مِن السّنَةِ الثّانيةِ للهجرةِ وقعتْ غزوةُ بدر، حينَ خرجَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ ومعه ثلاثُمائةٍ وبضعةَ عشرَ رجلاً، لا يُريدونَ غزوًا، إنّما يريدونَ عِيرًا لقريش، ولمّا علِمَ أبو سُفيانَ بخروجِهم استصرخَ قُريشًا بالنّفيرِ إليه، وسلكَ طريقَ السّاحلِ ونجا، وأخبرَهم بنجاتِه. ولكنّ قُريشًا خرجَتْ عن بَكرةِ أبيها بأشرافِها وساداتِها (بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) فجمعَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ مَنْ معه من الصّحابةِ فاستشارَهم فقامَ مِن المهاجرينَ المِقدادُ رضيَ اللهُ عنه بينَ يديْ رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ وقال: يا رسولُ الله، امْضِ لمَا أمرَكَ اللهُ عَزِّ وجلَّ، فوَاللهِ لا نَقُولُ كمَا قالتْ بنو إسْرائيلَ لمُوسى (فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) ولكِنْ نقاتلُ عن يمينِك وعن شمالِك ومِن بَيْنِ يَدَيْكَ ومِن خَلْفِك. وقامَ مِن الأنصارِ سعدُ بنُ معاذٍ سيّدُ الأوسِ فقال: يا رسولَ اللهِ لعلّك تَخشى أنْ تكونَ الأنصارُ ترى حقًّا عليها أن لا تَنصرَك إلّا في ديارِهم، وإنّي أقولُ عن الأنصارِ وأجيبُ عنهم، فاظعنْ حيثُ شئتَ وصِلْ حَبْلَ مَن شئتَ واقطعْ حبلَ مَن شئتَ، وخُذْ مِن أموالِنا ما شئتَ وأعطنا منها ما شئتَ، وما أَخذتَ منّا كانَ أَحَبَّ إلينا ممّا تَرَكْتَ، وما أمرتَ فيه مِن أمرٍ فأمرُنا فيه تبعٌ لأمرِك، فواللهِ لئن سِرْتَ بنا حتى تَبْلُغَ البَرْكَ مِن غِمْدانَ لنَسيرَنَّ معك، ولئن استعرضتَ بنا هذا البحرَ فخضتَه لنخوضنَّه معك، وما نَكرهُ أنْ تكونَ تلقى العدوَّ بنا غدًا، إنّا لصُبُرٌ عندَ الحرب، صُدُقٌ عندَ الّلقاءِ، ولعلَّ اللهَ يُريك مِنّا ما تَقَرُّ به عينُك. فسُرَّ النّبيُّ صلى اللهُ عليه وسلمَ لِمَا سمعَ من كلامِ المهاجرينَ والأنصارِ رضيَ اللهُ عنهم وقال: سيروا وأبشروا فواللهِ لكأنّي أنظرُ إلى مصارعِ القوم. ودنَتْ قُريشٌ وعددُهم بقدرِ عددِ المُسلمينَ ثلاثَ مَرَّات، وفي ليلةِ القتال، والتي توافقُ ليلةَ السّابعَ عشرَ مِن رمضان، وفي مساءِ مثلِ يومِكم هذا، لم يبِتْ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ ليلةَ القتال؛ بل كانَ يَجْأرُ إلى اللهِ عزّ وجلّ ويُثني عليه ويُناشدُه. ويَدعُوه ويَستغيثُه ويَسألُه النّصر، قالَ عليٌّ رضيَ اللهُ عنه: ولقد رأيتُنا وما فِينا إلا نائِم، إلا رسولُ الله صلى اللهُ عليه وسلمَ تحتَ الشّجرةِ يُصلِّي ويَبكِي حتى أصبَح. وكانَ رِداؤُه يَسقُطُ عن مَنكِبَيْه مِن شدّةِ ابتهالِه، وأبو بكرٍ رضيَ اللهُ عنه يُصلِحُه ويَرُدُّه على كتفيه وهو يقول: يا رسولَ الله: بعضَ مُناشَدتِك ربَّك؛ فإنّه سيُنجِزُ لك ما وعدَك. فاستجابَ اللهُ دعاءَ نبيِّه صلى اللهُ عليه وسلم، وبَشَّرَ صحابتَه بالنّصر، وأخبرَهم بمواضِعِ مصارِعِ المُشركين. والتقَى الجمعانِ وحَمِيَ الوَطيسُ، ونَزَلَ جبريلُ عليه السّلامُ يُقاتِلُ في المعركةِ مع المؤمنين، وأخبرَ النّبيُّ صلى اللهُ عليه وسلّمَ صحابتَه بذلك، وقالَ لهم: هذا جبريلُ آخِذٌ برأسِ فرسِه عليه أداةُ الحرب. وانتهتِ الغزوةُ وانتصرَ المسلمونَ، قَتلوا يومَئذٍ سبعينَ وأسَرُوا سبعين. واسْتُشْهِدَ أربعةَ عشرَ صحابيًّا أصابُوا أعلى الجِنان. فاتّقوا اللهَ رحمَكم الله، وتَمسّكوا بدينِكم تُنْصروا، فقد انتصرتِ الفئةُ المؤمنةُ القليلةُ بإيمانِها وتَمسُّكِها بدينِها، فالنّصرُ مِن عندِ اللهِ العزيزِ الحكيم، وسوف يَنْصُرُ عبادَه المؤمنينَ في كلِّ حين، ويُظهرُ دينَه ويُعلي كلمتَه ولو كرهَ المشركون (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)

باركَ اللهُ لي ولكم بالقرآنِ العظيم، وبهديِ سيّدِ المرسلين، أقولُ قولي هذا، وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم ولسائرِ المسلمينَ مِن كلِّ ذنبٍ فاستغفروه، إنّه هو الغفورُ الرحيم

 

الخطبة الثانية

الحمدُ للهِ وحدَه والصّلاةُ والسّلامُ على مَن لا نبيَّ بعدَه وعلى آلِه وصحبِه أمّا بعدُ عبادَ الله

هذا شهرُكم قد مضى صدرُه، وانقضى منه شطرُه، واكتملَ فيه بدرُه، فاغتنموا فرصةً تَمُرُّ عليكم مَرَّ السّحاب، ولِجُوا ميدانَه قبلَ أنْ يُغلقَ الباب، وبادروا أوقاتَه مهما أمكنَكم، واشكروا اللهَ على أنْ أخّرَكم إليه ومكّنَكم، واجتهدوا في الطّاعةِ قبلَ انقضائِه، وأسرعوا بالمثابِ قبلَ انتهائِه، فساعاتُه تَذهبُ مُسرعة، وحسرةُ فواتِه عندَ انقضائِه موجعة، ويُوشكُ الضّيفُ أنْ يَرتحِل، وشهرُ الصّومِ أنْ يَنتقِل، ألا إنَّ شهرَكم قد أخذَ في النّقصِ فزيدوا أنتم في العمل، فكأنّكم به و قد انصرف، فكلُّ شهرٍ فعسى أنْ يكونَ منه خَلَف، وأمّا شهرُ رمضانَ فمِنْ أينَ لكم منه خَلَف؟ فبادروا إلى التّوبةِ والإنابةِ والعملِ الصّالح، فمَن لم يَتُبْ في رمضانَ فمتى يتوب؟ مَن لم يَتزوّدْ مِن التّقوى في رمضانَ فمتى يَتزوّد؟ وهذه قوافلُ التّائبينَ ودموعُ القانتينَ وأنينُ المشفقين، أترضى أنْ تكونَ رفيقَ قومٍ لهم زادٌ وأنت بغيرِ زاد؟ فاتّقوا اللهَ رحمَكم اللهُ واستدركوا بقيَّةَ شهرِكم بالمسارعةِ إلى الخيراتِ واغتنامِ الفضائلِ والقرُبات، وأنتم على أبوابِ العشرِ الأواخرِ وختامِ الشّهر، وفيها ليلةُ القدرِ التي هي خيرٌ مِن ألفِ شهر، فأَرُوا اللهَ مِن أنفسِكم خيرًا، فما أسعدَ مَن عَزَمَ وجَدَّ واستعدّ، واستعانَ باللهِ وأخلصَ العملَ للهِ واجتهد، فكتبَه اللهُ في تلك الليالي مِن السّعداءِ والعتقاء، وذلك فضلُ اللهِ يؤتيه مَن يشاء، واللهُ ذو الفضلِ العظيم. اللهمّ تقبّلْ منّا صيامَنا وقيامَنا ودعاءَنا وصالحَ أعمالِنا، اللهمّ أتمّ علينا شهرَ رمضانَ بالعفوِ والعافيةِ والقبولِ، والمغفرةِ والرّحمةِ والعتقِ من النّار، يا عزيزُ يا غفّار. اللهمّ أعزَّ الإسلامَ والمسلمين، وأذلَّ الشركَ والمشركين، ودمّرْ أعداءَ الدّين، وانصرْ عبادَك المجاهدينَ وجنودَنا المرابطين، وأنجِ إخوانَنا المستضعفينَ في كلِّ مكانٍ يا ربَّ العالمين، اللهمّ آمِنّا في أوطانِنا ودورِنا، وأصلحْ أئمّتَنا وولاةَ أمورِنا، وهيّءْ لهم البطانةَ الصالحةَ الناصحةَ يا ربَّ العالمين، اللهمَّ أبرمْ لأمّةِ الإسلامِ أمرًا رشدًا يُعزُّ فيه أولياؤُك ويُذلُّ فيه أعداؤُك ويُعملُ فيه بطاعتِك ويُنهى فيه عن معصيتِك يا سميعَ الدعاء. اللهمّ ادفعْ عنّا الغَلا والوَبا والرّبا والزّنا والزلازلَ والمحنَ وسوءَ الفتنِ ما ظهرَ منها وما بطن، اللهمّ فرّجْ همَّ المهمومينَ ونفّسْ كرْبَ المكروبينَ واقضِ الدّينَ عن المدينينَ واشفِ مرضانا ومرضى المسلمين، اللهمّ اغفرْ لنا ولوالدِينا وأزواجِنا وذريّاتِنا ولجميعِ المسلمينَ برحمتِك يا أرحمَ الرّاحمين. عبادَ الله، إنّ اللهَ وملائكتَه يصلّونَ على النبيّ، يا أيّها الذينَ آمنوا صلّوا عليه وسلّموا تسليمًا، ويقولُ عليه الصلاةُ والسلام: من صلّى عليّ صلاةً صلى اللهُ عليه بها عشْرًا. اللهمّ صلِّ وسلمْ وباركْ على عبدِك ورسولِك نبيِّنا محمدٍ وعلى آلِه وأصحابِه وأتباعِه أبدًا إلى يومِ الدّين. وأقمِ الصلاةَ إنّ الصلاةَ تَنهى عن الفحشاءِ والمنكر، ولذكرُ اللهِ أكبرُ واللهُ يعلمُ ما تصنعون.

إعداد/ وليد بن محمد العباد غفر الله له ولوالديه وأهله وذريته والمسلمين

جامع السعيد بحي المصيف شمال الرياض 16/ 9/ 1444هـ

المشاهدات 1265 | التعليقات 0