خطبة عيد الفطر المبارك ( وأن تعفوا أقرب للتقوى )
د. عبدالله بن حسن الحبجر
بسم الله الرحمن الرحيم
( خطبة عيد الفطر المبارك ألقيت عام 1437 " وأن تعفوا أقرب للتقوى " )
الحمد لله العفو الغفور... لا تنقضي نعمه ولا تحصى على مر الدهور... وسع الخلائق حلمُه مَهما ارتكبوا من شرور...
سبقت رحمته غضبه قبل خلق الأيام والشهور...
يتوب على من تاب ويغفر لمن أناب و يجبر المكسور...
نحمده تبارك و تعالى حمد القانع الشكور...
و نعوذ بنور وجهه الكريم من الكفر والفسق والفجور...
وأشهد أن لا إله إلا الله خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور... خلق سبع سمواتٍ طباقاً ما ترى فيها من تفاوت أو فطور...
و أشهد أن سيدنا محمداً عبده و رسوله، المرفوع ذكره في القرآن والتوراة والإنجيل والزبور...
صلّى الله وسلّم وبارَك عليه وعلى آلِه الأطهار، وأصحابِه الأئمّة الأعلام، المهاجرين منهم والأنصار والتابعين ومن تبعهم بإحسان ما تعاقب الليل والنهار .
اللهم لك الحمد كثيرا كما تنعم كثيرا ولك الشكر كثيرا كما تجزل كثيرا
الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر
الله أكبر الله أكبر الله أكبر
الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله اكبر ولله الحمد
الله أكبر من كل معبود باطل على وجه الأرض، الله أكبر من كل شهوة تخالف منهج الله تعالى، الله أكبر من كل أمنية تطيش في يوم العيد عن رسالة الله تعالى، الله أكبر كلمة نروّي بها أسماع الناس على الأرض، فيسمعها كل منافق أو كافر، فيعلم أننا مستعلون بديننا، راضون بشريعة ربنا، قائمون على منهج الله حتى نلقاه.
"الله أكبر" كلمة دوّت بالأمس على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ولسان صحابته -رضوان الله تعالى عليهم-، فنشروا بها رسالة ربهم في الأرض، وما رحلوا حتى صنعوا منها العجائب على أرض الواقع، ولا زالت إلى اليوم دول وأمم على ذكرى هذه الكلمة العظيمة، ونحن اليوم في يوم العيد ندوّي بها، نحيي بها رسالة خالدة، ونكتب بها مآثر قوم سابقين، وعلى طريقهم بإذن الله تعالى سائرون.
أيها الإخوة المؤمنون: العيد مناسبة كبرى لمراجعة النفس والعمل، وإصلاح ذات البين، وصلة الأرحام، والرأفة باليتامى والمساكين، والإحسان إليهم خاصة ممن مستهم البأساء والضراء
وعيدنا اليوم يدلف إلينا ومواجع الأمة وجراحاتها متعددة وبعض أبنائها يقاسون الويلات حين طالت عذاباتهم وغارت عن الشفاه بسماتهم
ومع ذلك فاليوم يومُ الجوائز،يوم يفرح فيه من صام فصان الصيام، وقام فأحسن القيام، وأخلص لله في أعماله،
ثلاثون يوما هي عدةُ صومكم، في شهركم الذي من الله به عليكم ، قد مضى بما فيه، رفعت الأقلام، وجفت الصحف .
فيا أيها المسلم: أرجو أن تمعن النظر قليلاً في هذه الإنجازات،فلا أريدك اليوم واجمًا حزينًا على فراق رمضان وهذه إنجازاتك تضرب على أرض الواقع،إنني أدعوك -أيها الحبيب- اليوم ومِنْ أرض العيد أن تعيش متفائلاً مبتهجًا فرحًا مسرورًا،لا بمضي أيام الطاعات،لا،وإنما بتلك الإنجازات الكبيرة التي تمت في ثلاثين يومًا
فامض متفائلاً، وأيام الله تعالى قادمة، والمهم أن تبقى محافظا على تلك المكتسبات مدة عمرك الذي كتب الله لك
ولتعلم أننا لا نطلب منك اليوم أن تكون نسخة منك في رمضان، كلا، فإن رمضان شهر واحد من العام، وقد جعله الله تعالى زمنًا للتنافس ووقتًا للسباق، وقد حشد لك فيه من الخيرات ما يسد به عجزك ويتم به تقصيرك.
ولكن أليس من الخسران يا أهل الإيمان أن يمضيَ شهرٌ قد عرفتم شأنَه؛ دون أن نستنطقه ما دام منا غيرَ بعيد؛ ليحدثَنا عن هداياته ودروسه، وإن نحن لم نفعل فأي أثر لتلكم المدرسةِ علينا عبادةً وأخلاقا وسلوكا سائر دهرنا .
فأُولى وأَولى تلكم الهدايات الرمضانية: تتمثل في التربية الحقة على استحضار جانب التقوى ومراقبة الله جلّ جلاله، فهي الغاية من تشريع الصيام، فمن لم يتقِ أنَّى يصوم؟! وأنى يحبس نفسه عما ألفه من الطيبات أو سواها؟!
أما والله لو بدأنا في تعداد الدروس والهدايات لاحتاج ذلك صفحات وساعات ،، ولكن اكتفي بواحدة منها .
نعم واحدة فقط يحتاجها الرجل كبيرا وصغيرا وكذلك المرأة .
يحتاجها كل مسلم على وجه الأرض ، ولو لم يخرج المسلم من رمضان الا بها لكفاه غنيمة وربحا .
أتسالوني ما هي ؟
خذوا وصفها قبل أن تعرفوا مسماها .
كلمة جميلة، وعبارة محببَّة، لفظ يبعث الدفء، وأحرف تنثر الحنان؛ صفة جميلة، وخلة حميدة، هي أفضل الصفات، وأجمل السمات، هي رائدة الأخلاق، وسيدة الآداب، وملكة المُثُل؛ ولذلك فإنها صفة الألوهية العظمى، وسمة الربوبية الأسمى، تَسَمَّى بها الكريم، واتصف بها العظيم،
خصلةٌ عظيمة من خصال الدين الرفيعة العليَّة وخَلَّة مباركة جاء التنويه بها والحث عليها والترغيب في فعلها وذِكر عظيم ثواب أهلها وجزيل أجورهم عند الله تبارك وتعالى في مواضع عديدة من القرآن الكريم حريٌّ بنا - أيها المؤمنون - أن نقف وقفةً صادقة، ونتأمل في واقعنا وحقيقة حالنا مع هذه الخصلة العظيمة والخلَّة المباركة .
إنها - عباد الله – صفة العفو ...
أنشدكم بالله ، لئن تنوعت الدعوات في رمضان وكثرت ، فهل يستطيع أحد أن يحصى عدد ما دعا الصائمون والصائمات :
( اللهم انك عفو تحب العفو فاعف عني )
ألا ما أعظمها من خصلة وأجلَّها من خلة لكن لا تنهض لفعلها إلا القلوب الصادقة والنفوس الكبيرة المعانة من الله تبارك وتعالى بالتسديد والتوفيق .
ألم يقل جل وعلا في الصيام ( لعلكم تتقون ) فقد قال كذلك ( وأن تعفوا أقرب للتقوى )
باب عظيم من أبواب الإحسان ؛ قال الله تعالى : ﴿ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ .
بابٌ عظيمٌ من أبواب نيل الرحمة والغفران ؛﴿ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ .
باب لنيل عظيم الأجور وجزيل الثواب ؛ ﴿ فَمَن عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ﴾ .
بابٌ رفيع للفوز بالجنان ونيل رضا الرب الرحمن؛ ﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ .
إن من فضله -جل وعلا- أن رحمته سبقت غضبه، وعفوه سبق عقوبته، وإلا ما استحق أن يظل على ظهر الأرض أحد، (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ)، ويقول تعالى ممتنّاً على عباده بتوبته عليهم وعفوه عنهم، مع علمه بكل ما يفعلون، (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) .
(وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) .
إن عفو الله تعالى أنهار متدفقة لا تنضب، وبحور زاخرة لا تنفد، وإنه -جل وعلا- لحبه للعفو فتح قنواته، ويسَّرَ سبُلَه، وسهَّل طُرُقَه، وكثَّر أسبابه، وهيأ مظانَّه، فالمتأمل في دينه -جل وعلا- يجد العجب العجاب، لدرجة أن يظن المرء أنه لن يدخل النار أحد! إنه -جل وعلا- مع سعة عفوه، وعظيم جوده، جعل لعباده مواسم متعددة، وفرصاً متنوعة، ينهلون بها من عفوه، ويستمدون من غفرانه، ويتضلعون من معينه.
ولقد تنزل القرآن الكريم يحمل في طياته عبقا من أريج العفو يسبي النفوس، وأريجا من شذى الصفح يروي القلوب، فها هو -جل وعلا- يخاطب نبي العفو والصفح والرحمة بأن يتمثل العفو، ويمضي بالغفران، يقول تعالى: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) وهذه أجمع آية لمكارم الأخلاق.
(فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْر).
العفو حتى مع ذوي الإساءة وأهل الخيانة، فما بالك به مع المسلم، (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) ، ويقول تعالى: (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) .
ثم يأتي الحث على العفو في آية عظيمة المبنى، جليلة المعنى، خلَّابة الفحوى؛
ــ لله المثل الأعلى ــ لو قال ملك من ملوك الدنيا تنازل عن كذا وأجرك علي ،،، فما موقفك ؟؟!!!
فما بالك بأمر يتكفل الله تعالى بأجره، ويجعل ذلك الأجر مفتوحاً دون حد أو قيد؛ ليترك للنفس تخيُّل عظمة هذا الأجر الذي تكفل به أكرم الأكرمين، فيقول تعالى: (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ)
بل ويأتي القرآن برائعة أخرى من روائع العفو، حيث يجعله الله تعالى صدقة من المرء على نفسه وغيره، وميدانا للإنفاق، وإقراضا للواحد الأحد، فيشبه العفو وهو أمر معنوي بأمر محسوس وهو المال، ليقرب أمره، ويعظم شأنه، (وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ) ]، يا الله! إن هذا الإنفاق يستطيعه كل أحد، ويقدر على البذل منه كل إنسان، الغني والفقير، والكبير والصغير، والضعيف والمسكين، كل هؤلاء جعل الله لهم ميداناً كبيراً للصدقة والإحسان، وهو العفو، هذا البحر الذي لا ينفد، والنهر الذي لا ينضب.
ثم تأتي الإشارة القرآنية، والتذكرة الربانية، مجلية أمراً جميلاً، ومعنى جليلاً، وهو أن نيل عفو القدير جل وعلا، والفوز بمغفرة الرحيم، طريقها العفو، فيقول تعالى: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) .
كان أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- ينفق ويتصدق على قريب له، فكانت منه إساءة بأن كان ممن وقع في فتنة اتهام عائشة -رضي الله عنها ، وقع في عرض الحصان الرزان، وصار يتكلم بكلام أهل الإفك فيها، فبلغ ذلك أبا بكر، وهو أبوها، والوقيعة في العرض أشد من الوقيعة في المال والدم.
أصون عرضي بمالي لا أدنسه**لا بارك الله بعد العرض في المال
فحلف أبو بكر أن لا ينفق عليه أبداً، فأنزل الله تعالى هذه الآية، فلما سمع الصديق قوله تعالى: (أَلَا تُحِبونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ)؟
بكى حتى أخضلت لحيته، وقال: "إني أحب أن يغفر الله لي".
ثم كفر عن يمينه، وأجرى النفقة لمسطح.
ومثل هذه الآية في التلميح بالعفو والوعد بالتجاوز عمن عفا وتجاوز قوله تعالى: (إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا) ]،
يا الله! ما أبدع ختام الآية بقوله تعالى: (قَدِيرَا)، فلم يقل رحيما أو لطيفا وما إلى ذلك، ولكنها الإشارة إلى الميزة الأعلى للعفو، وهي العفو عند المقدرة.
ومن أعظم ما يلفت النظر في العفو أن جعله الله خلقاً مفروضاً داخل الأسرة المسلمة بين الأب وأبنائه، والزوجة وزوجها، والأخ وأخيه ، وهذه من روائع هذا الدين؛ فإن البيوت إذا قامت على التسامح، وشيدت على العفو، وزينت بالصفح، وتعطَّرَت بالتجاوز والتغافر، ساد فيها الحب، وعمرها الهدوء، وخيَّمَت عليها السكينة، وداعبتها التضحية، وأضاءت فيها التقوى.
حينها ينتشر أريجها، ويفيض طيبها على الآخرين، فتقوم بيوت المسلمين ومجتمعاتهم على هذا اللطف والعطف والتراحم ، والتسامح والتصافح .
أما إذا قامت البيوت على الغضب، وبنيت على الانتقام، وأترعت بالخصام، وحاربت العفو، وطلَّقَتْ التسامح؛ لا أب يرحم، ولا أم تحنو، ولا والد يشفق، ولا والدة تترفق، ولا ابن يُبِرُّ، ولا زوجة تُغفَر، ولا أخت تعطِف، فإنه النَّكَد والشقاء، والتعب والعناء، ولذلك يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) .
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وبعد :
فإن عظم فضل العفو قد أثار في نفسي يا عباد الله حول هذا الموضوع الجميل، الذي تمثله الأنبياء، وسار به الأولياء، وتخلق به العظماء، بتوجيه رسالة من سويداء القلب ، في زمن ضغوط الحياة، وتوتُّرِ الأعصاب، وضيق النفوس، وحرج الصدور، وسرعة الغضب، وتردي الأخلاق.
الى كل قريب مع قريبه ، وجار مع جاره ، وصديق مع صديقه .
الى كل صائم وصائمة طالما دعو في شهر رمضان ( اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني )
ما قيمة العيد بدون هذه الصفة المباركة العظيمة ؟؟؟!!!
إن الإنسان نفسه ميَّالةٌ للانتقام والأخذ بالثأر ، وإذا حُدِّثت حظًّا وحثاً وترغيباً بالعفو والصفح كعَّت عن ذلك ونفرت منه ولم تقبِل عليه؛ لِما في النفوس من رعونة وكظاظة ولِما فيها من غلظةٍ وفظاظة ، لكن النفس البشرية عباد الله إذا روضت بالحق وزُمَّت بزمام الشرع فإنها تنقاد سلسةً بإذن الله إذا كان العبد مستعيناً بالله طالبا مدَّه وعونه وتوفيقه ، والله جل في علاه يقول : ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ . وإذا تذكر المؤمن في هذا المقام ثواب الله وأجره وغفرانه ورحمته وما سيناله على صفحه وعفوه من أجورٍ عظيمة وثواب جزيل هان عليه ما سوى ذلك ؛ جاء في سنن أبي داود عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال : ((مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْفِذَهُ دَعَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ اللَّهُ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ مَا شَاءَ)) .
أيها المؤمنون : ومقام العفو والصفح في رؤية كثير من الناس ذلٌّ ومهانة ؛ فتقول له نفسه الأمارة بالسوء : كيف تعفو وكيف تصفح وقد فعل بك ما فعل وأساء إليك بكيت وكيت ، أين العز ! أين القوة ! أين الشهامة ! فتحدِّثه نفسه أن العزة في الانتقام . ولا والله العز إنما هو في العفو والصفح لا كما يظنه كثير من الناس ، وفي هذا جاء الحديث في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((وَمَا زَادَ اللهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا)) أي أن العفو لا يزيد صاحبه إلا عزاً ورفعةً وسموَّ قدرٍ في الدنيا والآخرة .
أيها المؤمنون : إن الناس في هذا المقام - مقام العفو أو عدمه - أقسام ثلاثة : قسمٌ ينتقم ممن أساء إليه بأخذ حقه دون تجاوز وهذا هو المقتصد ، وقسمٌ ينتقم ممن أساء إليه بظلمٍ وتجاوزٍ وتعدٍّ وهذا هو الظالم لنفسه ولغيره ، وقسمٌ ثالث يعفو ويصفح ، وهذا هو السابق بالخيرات ، وقد جمع الله جل وعلا هذه الأقسام الثلاثة في قوله سبحانه : ﴿ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴾ . فقوله ﴿ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا ﴾ هذا في حق المقتصد وهو من يأخذ حقه دون تجاوز ، وأما قوله ﴿ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ﴾ فهذا في حق السابقين بالخيرات أهل العفو والصفح والإحسان ، وأما قوله ﴿ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴾ فهو في حق من يعتدي ويبغي ويظلم .
أيها المؤمنون عباد الله : عندما نتأمل هذه الآيات العظيمة وما فيها من هداياتٍ مباركة وعندما نرى ما فيها من أثرٍ على القلوب وتأثيرٍ في النفوس زكاءً وصلاحاً ورفعة ينبغي أن لا يكون حظنا من ذلك مجرد السماع ؛ بل علينا أن نجاهد أنفسنا وأن نطلب العون من ربنا جل في علاه ليعيننا على تحقيق ما نستمع إليه من الحق والهدى والخير ﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا ﴾
وهمسة أخيرة للأبناء والبنات أن يكونوا عونا لأهاليهم في هذا الباب ، لا عونا للشيطان ، فإن البلية أحيانا منهم . والله المستعان
وختاما : يا من فكر في الخصام والنزاع والقطيعة ، ألا تكفيكم هذه الآية الموجهة الى نبينا محمد r ولأمته من بعده ( إن الساعة لآتية ) وماذا بعدها يا ربنا ( فاصفح الصفح الجميل )
اللهم يا ربنا إنك تعلم ضعف قلوبنا وتعلم ضعف أحوالنا فنتوجه إليك أجمعين في هذه الساعة المباركة وفي هذا المقام العظيم بأسمائك الحسنى وصفاتك العليا وبأنك أنت الله لا إله إلا أنت أن تعيننا أجمعين على كظم الغيظ والعفو عن الناس والصفح عن المسيئين ، اللهم أعنا ولا تُعِن علينا يا رب العالمين ، اللهم يسِّر لنا ذلك ويسِّر لنا كل خير ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين .
(رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) .
تقبّل الله منّا ومنكم الصيامَ والقيام وسائرَ الطاعات وجعل أيامنا أعيادا ومسرات وظرف أنس وتنزل بركات .
اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا حُبَّكَ، وَحُبَّ مَنْ يُـحِبُّكَ، وَحُبَّ عَمَلٍ يُقَرِّبُ إِلَى وَجْهِكَ. الَّلهُمَّ رُدَّنَا إِلَيْكَ رَدًّا جَمِيلًا، وَلَا تَـجْعَلْ فِينَا وَلَا بَيْنَنَا شَقِيًّا وَلَا مَـحْرُومًا، الَّلهُمَّ اِجْعَلْنَا هُدَاةً مَهْدِيينَ غَيْـرَ ضَالِّينَ وَلَا مُضِلِّينَ، اللَّهُمَّ اِحْمِ بِلَادَنَا وَسَائِرَ بِلَادِ الإِسْلَامِ وَالْـمُسْلِمِينَ مِنَ مضلات الفِتَنِ وَالمِحَنِ، مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَن، اللَّهُمَّ اِحْفَظْ لِبِلَادِنَا أَمْنَهَا وَإِيمَانَهَا وَاِسْتِقْرَارَهَا، الَّلهُمَّ وَفِّقْ وَلِيَّ أَمْرِنَا لِمَا تُحِبُ وَتَرْضَى، وَخُذْ بِنَاصِيَتِهِ لِلْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَاِجْعَلْهُ هَادِيًا مَـهْدِيًّــا، وَأَصْلِحْ بِهِ الْبِلَادَ وَالْعِبَادَ، الَّلهُم ارْفَعْ رَايَةَ السُّنَّةِ، وَاِقْمَعْ رَايَةَ البِدْعَةِ، الَّلهُمَّ احْقِنْ دِمَاءَ الْـمُسْلِمِينَ فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَوَلِّ عَلَيْهِمْ خِيَارَهُمْ وَاِكْفِهِمْ شَرَّ شِرَارِهِمْ . رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ .
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلَامٌ عَلَى المُرْسَلِينَ، وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ .
اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ وَالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينْ .
المرفقات
1620515995_خطبة عيد الفطر المبارك 1437.doc