خطبة عيد الفطر المبارك لعام 1446هـ

د. منصور الصقعوب
1446/09/25 - 2025/03/25 13:56PM

الخطبة الأولى:

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْأَعْلَى، خَلَقَ فَسَوَّى، وَقَدَّرَ فَهَدَى، وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمَّى، أَحمَدُهُ حَمدًا لا انتِهَاءَ لأَمَدِهِ، وَأَشكرُهُ شُكرًا لا إِحصَاءَ لِعَدَدِهِ، وَأَشهَدُ أَنَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَردٌ صَمَدٌ، لا شَرِيكَ لَهُ وَلا صَاحِبَةَ وَلا وَلَدَ.

 

وَأَشهَدُ أَنَّ محمدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، وَصَفِيُّهُ وَخَلِيلُهُ، اختَصَّهُ بِرِسَالَتِهِ وَحَبَاهُ، وَأَولاهُ مِنَ الكَرَامَةِ مَا حَازَ بِهِ الفَضلَ وَحَوَاهُ، بَعَثَهُ عَلَى حِينِ فَترَةٍ مِنَ الرُّسُلِ، فَبَلَغَ في الإِرشَادِ غَايَتَهُ وَمُنتَهَاهُ، وجَاهَدَ بمن أَطَاعَهُ مَن عَصَاهُ؛ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بهداه.

 

الله أكبر عدد ما ذكره الذاكرون، الله أكبر عدد ما تلا القرآنَ التالون، وركع الراكعون.

اللهُ أَكبَرُ مِلءَ السَّمعِ رَدَّدَهَا  *** في مَسمَعِ البِيدِ ذَاكَ الذَّرُّ وَالحَجَرُ

اللهُ أَكبَرُ مَا أَحلَى النِّدَاءَ بها  ***  كَأَنَّهُ الرِّيُّ في الأَروَاحِ يَنتَشِرُ

 

الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد، الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا وسبحان الله بكرة وأصيلًا.

 

أما بعد فاتقوا الله ربكم؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ)[محمد: ٣٣].

 

يَا أَهْلَ الْعِيدِ: تقبَّل الله منا ومنكم صالح الأعمال.

وها قَدِ انْتَهَى رَمَضَانُ بِمَا فِيهِ، مَضَى بِطَاعَتِهِ وَأَعْمَالِهِ، وَطُوِيَتْ صَحَائِفُهُ، وَقُوِّضَتْ خِيَامُهُ، مَضَتِ اللَّذَّةُ وَالْعَنَاءُ، وَبَقِيَ الْأَجْرُ أَوِ الشَّقَاءُ، فَهَنِيئًا لِعَبْدٍ عَبَدَ رَبَّهُ وَادَّكَرَ، وَتَابَ مِنْ ذَنْبِهِ وَاسْتَغْفَرَ، وَأَعْتَقَ اللَّهُ مِنَ النَّارِ رَقَبَتَهُ وَلَهُ غَفَرَ.

 

وَأَمَّا مَنْ تَأَخَّرَ عَنِ الرَّكْبِ لتفريطٍ أَوْ غَفْلَةٍ، فَبِإِمْكَانِهِ أَنْ يَلْحَقَ، فَمَصَارِيعُ التَّوْبَةِ مَفْتُوحَةٌ آنَاءَ اللَّيْلِ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ، وَمَادَامَ النَّفَسُ يَتَرَدَّدُ فَالْمَجَالُ مُتَاحٌ، وَالرَّبُّ كَرِيمٌ تَوَّابٌ.

 

عباد الله: إن أعظم قضية أُوجدت لأجلها الخليقة، وقامت لها الرسالات، وأُنزلت الكتب: أن نكون عبيدًا لله -عز وجل-، ولعمري إنها لَلعبوديةُ التي تزيدك رفعةً وشرفًا وتهبك رضًا وأُنسًا، وتغمر قلبك علوًّا وعزًّا، وكل ما سوى التعبُّد لربك فهو تبعٌ وشغل عن الهدف الأصيل.

 

لأجل هذا فالموفقون هم مَن حققوا العبودية في سائر حياتهم، فإذا جاءت أوقات العبادة تعبدوا، وإذا فرغوا من شغل دنياهم نصبوا؛ قلوبهم تتعبَّد لمولاهم توكلا وحُبًّا، وخوفًا ورجاءً، ويقينًا ورضًا، وتلك أشرف العبادات؛ وجوارحهم تتقلب بين طاعةٍ يفعلونها ومعصية يتركونها ارضاءً لمن لذلك أوجدهم.

 

ويبقى السؤال الكبير: ما قدرُ العبادة في قلوبنا، وكم تستغرق من حياتنا ويومنا؟، إنها المقصد فلا تفرط، والغايةُ فلا تَضِلَّ عنها، والراحةُ فلا تُغبَن.

 

ومن رحمة ربك أن أوسع لك أبواب التعبد، فكما فِعلُك الطاعاتِ تعبّدٌ، فتركُك للذنبِ إجلالًا له هو تعبدٌ كذلك. وعاداتك اليومية من نوم وأكل، وعمل وإجمام، تكون عباداتٍ إن نويت بها النيّةَ الحسنة، بل ونفقاتُك على أهلك وولدك تكفيهم وعن المسألة تكفّهم، هو تعبدٌ. فطوبى لمن جعل كل يومه عبادة، وذاك يسيرٌ على أصحاب النوايا الحسنة، وتلكم هي التجارة الميسرة.

 

يا كرام: وحين يكون الحديثُ عن العبادة، فقد أذاقنا شهر رمضان شيئًا من لذَّة العبادة، تلكم الطِلبةُ المنشودة؛ شهرٌ كامل نتقلب فيه بين رياض العبادات، ورمضانُ ليس كغيره؛ إذ البيئة تساعد ومنسوب التقوى يزداد، وداعي الشيطان يضعُف، والنفس تنشط، وإنك لن تطالب أن تكون بعده كما أنت فيه، ولكن! ولكنَّ امرًا أمدَّ في عمره، وبلّغه خَتمَ شهرِه، لحقيقٌ به أن يشكره، بأن يدوم على العهد، ولا يعود إلى سالف العصيان والغفلة.

 

لا تقل إني عاجز، فرمضان أراك من نفسك أن قادرٌ إن عزمت وأُعِنت.

وأعظمُ عبادتين -يا موفق- ينبغي أن تخرج بهما من رمضان، هما العيشُ مع الصلاة، والقربُ من القرآن.

فأما الصلاة فهي عمود دينك، وراحة قلبك، والصلة إلى ربك، والباب بينك وبين مولاك، تشكو له وتناجيه، وتتضرع وتدعوه، فتخرج منها وقد غَسلت درنك، ونفضت همك.

 

فالقرارُ الذي ينبغي أن نتخذه الآن: فرضُ الصلاةِ حتمٌ لازمٌ بلا تهاون، في وقتها، ومكانها وهي المساجد.

ثم نَفلُها زِدْ ما شئت، ولا تُغبن عن ركعاتِ وترٍ تختم بها يومك، وركعتي ضحى صدقةٌ عن بدنك، وسنن رواتب تجبر خلل فرضك.

 

وأما القرآن: فسيحدوك له تجربتك معه في رمضان، فكيف وجدت أثره عليك وأنت بقيت شهرًا تتلوه في النهار وتُنصت إليه في الليل؟

 

ألم يطرُقْ سمعَك في الصلاة الهداياتُ، ألم تعش مع تلاوته أجملَ الأوقات، فرأيت يومك مختلفًا ببركة القرآن؟ وإن من أعظم الأمور التي تخرج بها من رمضان أن لا تهجره بعده، فهو دستورنا وحبلُ نجاتنا وطريقُ سعادتنا وكلامُ ربنا، فاخرجْ بقرارٍ أن يكون لك وردٌ منه كل يومٍ، ولو بالقليل، وسترى أثر ذلك بركةً في حياتك، وطمأنينةً في صدرك، أعانك الله وفتح عليك.

 

يا أهل العيد: إن من أعظم النعم على المسلمين أن جعل اللهُ الإسلامَ مُؤلِّفًا لهم جامعًا لقلوبهم، ولقد أرانا رمضان شاهدًا على ذلك، فكم رأى الناس في الحرمين وغيرها ألوانًا مختلفة وأَلْسُنا متباينة، كل يبسم في وجه أخيه ويخدمه، ويطعم معه ويحادثه، ويحبه لأنه على ملّته، وهنا تكمن روعة الإسلام، أنه لا فوارق بين أهله لا بلون ولا بجنس ولا بنسب الا بالتقوى.

 

وان أعظم طِلْبَة لأعداءِ الملة أن تتفرق القلوبُ وتتنافر، ولذا تُذكى العصبيات وتَروجُ سوقُ التحريشِ فيما بينهم.

 

وعقلاءُ الناس هم من يتعالون على كل هذا العبث، ويألفون ويؤلفون، لا فوارق عندهم بين المسلمين إلا بالتقوى، فلا لون ولا نسب، ولا عرق ولا لغة، هي سببٌ عندهم للتفاخر، بل الفخر والشرف بالدين والتقى، وما عدا ذلك فلا قيمة له، وربنا المولى قال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)[الحجرات: ١٣].

 

اللهم صلِّ على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله رب العباد، مُعيد الجمع والأعياد، ورادّ الناس إلى معاد، والصلاة والسلام على صفوة العباد، اللهم صلِّ وسَلِّم عليه وعلى آله وصحبه وأتباعه إلى يوم التناد.

 

أما بعد: يأتي العيد كل عام لِيُجدِّدَ الوصل بين الأقارب والأصحاب، ويُزيلَ كل كدرٍ تراكم على النفوس، ليتواصل الناسُ فيه أبدانًا وقلوبًا، والمرءُ قبل أن يَصِلَ أقاربه يُصفّي قلبه، ويتناسى كل خلافٍ وقع، وإساءة بدرت، ويجعلها خلف ظهره، ويعفو ليعفو عنه ربه، ويبادرُ ليكون أسبقَ الناس وصلاً؛ طلبًا لرضى مولاه، وتشوّفًا لنيل وصل ربه، وهو القائل كما في الحديث القدسي عن الرحم: "مَن وصلك وصلته، ومن قطعك قطعته".

 

هكذا يكون أهل الطاعة، يعفون ليُعْفَى عنهم، ويصلون ليصلهم ربهم بخيره وبرّه. ينأون بأنفسهم عن هجر قريب وأخ، خوفًا من مغبّة ذلك، وألَّا تُرفَع أعمالُهم للسماء، ونبيهم -صلى الله عليه وسلم- قال: "لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ".

 

وهنيئًا في العيد لأصحاب قلوبٍ كبيرة، لا يلومون ولا يعاتبون، وينتقون من الحديث أطيبه، ومن المشاعر أصدقها، إن قابلوا استبشروا، وإن فَقدوا عذروا.

 

هنيئًا لأقوامٍ يتحرّون إدخال السرورِ على الضعيف والغريب، ويرسمون البسمة على اليتيم والأرملة، ويُحسِنون إلى المسكين والمحتاج، وفي أعطاف الضعفة توجد السعادة والرزق، وفي الحديث: "إنما تنصرون وترزقون بضعفائكم".

 

أيتها المباركة: أنتِ لله أمةٌ، وهو -سبحانه- الربّ، رسالتك في الحياة طاعتُه، وإن خالف رغبتك، وحينها سَيعقُب طاعتَهُ راحةُ البال، وطمأنينةُ النفس، وفوزُ الدنيا ثم جنة الآخرة، هذا الأمر بحدِّ ذاتِه كفيلٌ بأن يعينك على الثبات.

 

يا مؤمنة: طريق النجاة رَسَمَه لكِ المصطفى -صلى الله عليه وسلم- في حديثٍ واضح المعنى صريح اللفظ، حيث قال: "إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وحفظت فرجها، وأطاعت زوجها؛ دخلت الجنة"؛ فاعرضيها على نفسك كل يوم، وحذاري أن تُقصِّري في أيٍّ منها، لتستنقذي نفسك من النار.

 

يا مباركة: أعظمُ حصنٍ ينبغي أن تحافظي عليه بيتُك، فللزوج حَقٌّ كفله الشرع، وللأولاد حقٌّ في التربية والرعاية، فما بالنا صرنا نسمع عن نساءٍ ضيَّعت هذا وهذا، وانشغلت بنفسها، وركضت وراء مُتَعِها هي فقط.

 

والشرعُ يقول: إنكِ عن الحقين مسؤولة. والواقع يقول: إنه لن يبقى لك إلا زوجك وأولادك، هما حصنك، فأحسني إليهما اليوم لتجنين ثمرة ذلك اليومَ وغدًا.

 

يا كرام: وقد كان مِن سُنَّةِ المصطفى -عليه السلام- أنه إذا أتى من طريق رجع من طريق آخر، فليتحرَّ المرءُ تطبيق السنّة.

 

وَبَعْدُ: مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ: فهذه شمس العيد قد أشرقت، فلتشرق معها شفاهكم بصدق البسمة، وقلوبُكم بصفاء البهجة، ونفوسُكم بالمودّة والمحبة، جدّدوا أواصر الحبّ بين الجيران والأصدقاء، والتراحمِ بين الأقرباء.

 

ولا تستجروا الأحزانَ ومُؤِلمَ الذكرياتِ، فاليومُ يومُ فرحٍ وشُكر، وامضوا لعيدكم وكُلكم أملٌ بربكم وحُسْنُ ظَنٍّ به أن قَبِلَكُم وغفر ذنبكم، فهو عِند ظنِّ عبده به.

 

أسأل الله أن يفرحكم برضوانه، وأن يكرمكم بالفوز بجنته والنجاة من ناره، وأن يُسعِدكم بلقائه.

 

اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ.

 

 

 

المرفقات

1742900138_خطبة عيد الفطر المبارك لعام 1446هـ.doc

1742900141_خطبة عيد الفطر المبارك لعام 1446هـ.pdf

المشاهدات 1210 | التعليقات 0