عيد الأضحى 1435
الخطبة الأولى :
اللهُ أَكبرُ اللهُ أَكبرُ ، لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَاللهُ أَكبرُ ، اللهُ أَكبرُ وَللهِ الحَمدُ . اللهُ أَكبرُ كَبِيرًا ، وَالحَمدُ للهِ كَثِيرًا ، وَسُبحَانَ اللهِ بُكرَةً وَأَصِيلاً . الحَمدُ للهِ الَّذِي هَدَانَا لِلإِسلامِ ، وَجَعَلَنَا مِن خَيرِ أُمَّةٍ أُخرِجَت لِلأَنَامِ ، وَالصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى مَن بَعَثَهُ اللهُ رَحمَةً لِلعَالَمِينَ ، وَحُجَّةً عَلَى الخَلقِ أَجمَعِينَ ، نَبِيِّنَا مُحمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحبِهِ الغُرِّ المَيَامِينَ .
أَمَّا بَعدُ ، فَإِنَّ خَيرَ الوَصِيَّةِ لِلمُؤمِنِينَ ، مَا أَوصى اللهُ بِهِ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ " وَلَقَد وَصَّينَا الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبلِكُم وَإِيَّاكُم أَنِ اتَّقُوا اللهَ وَإِنْ تَكفُرُوا فَإِنَّ للهِ مَا في السَّمَاوَاتِ وَمَا في الأَرضِ وَكَانَ اللهُ غَنِيًّا حَمِيدًا " اللهُ أَكبرُ اللهُ أَكبرُ ، لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَاللهُ أَكبرُ ، اللهُ أَكبرُ وَللهِ الحَمدُ .
أَيُّهَا المُسلِمُونَ المُجتَمِعُونَ في هَذَا العِيدِ السَّعِيدِ ، هَنِيئًا لَكُم مَا أَصبَحتُم فِيهِ مِن تَوحِيدٍ وَطَاعَةٍ وَغِنى ، وَأَمنٍ وَمَحَبَّةٍ وَاجتِمَاعٍ ، مِمَّا أَصبَحَ النَّاسُ فِيهِ مِن كُفرٍ وَإلحَادٍ وَفَقرٍ ، وَخَوفٍ وَبَغضَاءَ وَفُرقَةٍ ، فَاحمَدُوا اللهَ عَلَى هَذِهِ النِّعمَةِ ، وَاشكُرُوهُ عَلَى عَظِيمِ المِنَّةِ ، فَإِنَّ مِن أَعظَمِ المَقَاصِدِ وَالغَايَاتِ في شَرِيعَةِ الإِسلامِ ، اجتِمَاعَ كَلِمَةِ المُسلِمِينَ وَاتِّفَاقَ رَأيِهِم ، وَائتِلافَ قُلُوبِهِم وَاكتِمَالَ مَحَبَّةِ بَعضِهِم لِبَعضٍ ، بِذَلِكَ يَتَحَقَّقُ التَّنَاصُرُ بَينَهُم وَيَحصُلُ التَّعَاوُنُ ، وَبِهِ يَعلُو دِينُهُم وَتَصلُحُ دُنيَاهُم ، وَعَلَيهِ تَقُومُ مَصَالِحُهُم في العَاجِلِ وَالآجِلِ ، وَذَلِكُم هُوَ حَبلُ اللهِ المَتِينُ وَصِرَاطُهُ المُستَقِيمُ ، وَمُقتَضَى الإِيمَانِ بِهِ وَلازِمُ تَقوَاهُ ، قَالَ ـ تَعَالى ـ : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنُّ إِلاَّ وَأَنتُم مُسلِمُونَ . وَاعتَصِمُوا بِحَبلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا " وَقَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُستَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُم عَن سَبِيلِهِ " وَقَالَ ـ جَلَّ وَعَلا ـ : " وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثمِ وَالعُدوَانِ " وَقَالَ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ : " إِنَّمَا المُؤمِنُونَ إِخوَةٌ " وَقَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصلِحُوا ذَاتَ بِينِكُم وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُؤمِنِينَ " وَعِندَ البُخَارِيِّ وَمُسلِمٍ عَنهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ أَنَّهُ قَالَ : " مَثَلُ المُؤمِنِينَ في تَوَادِّهِم وَتَرَاحُمِهِم وَتَعَاطُفِهِم كَمَثَلِ الجَسَدِ الوَاحِدِ ، إِذَا اشتَكَى مِنهُ عُضوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالحُمَّى " وَفِيهِمَا أَيضًا : " المُؤمِنُ لِلمُؤمِنِ كَالبُنيَانِ يَشُدُّ بَعضُهُ بَعضًا "
وَلأَنَّهُ لا اجتِمَاعَ لِكَلِمَةٍ وَلا اتِّفَاقَ في رَأيٍ ، وَلا أُلفَةَ لِقُلُوبٍ وَلا رَاحَةَ لِنُفُوسٍ ، وَلا سَعَادَةَ لِمُجتَمَعٍ وَلا قُوَّةَ لِشَوكَةٍ ، دُونَ نَبذِ الفُرقَةِ وَتَقلِيلِ الاختِلافِ ، فَقَد نَهَى اللهُ وَرَسُولُهُ عَنِ التَّفَرُّقِ وَالاختِلافِ أَشَدَّ النَّهيِ ، قَال ـ تَعَالى ـ : " وَلا تَنازَعُوا فَتَفشَلُوا وَتَذهَبَ رِيحُكُم وَاصبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّـابِرِينَ " وَقَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاختَلَفُوا مِن بَعدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَـاتُ وَأُولَـئِكَ لَهُم عَذَابٌ عَظِيمٌ " وَقَالَ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ : " إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُم وَكَانُوا شِيَعًا لَستَ مِنهُم في شَيءٍ إِنَّمَا أَمرُهُم إِلى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بما كَانُوا يَفعَلُونَ " وَفي صَحِيحِ مُسلِمٍ أَنَّه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ كَانَ يَمسَحُ مَنَاكِبَهُم في الصَّلاةِ وَيَقُولُ : " اِستَوُوا وَلا تَختَلِفُوا فَتَختَلِفَ قُلُوبُكُم " اللهُ أَكبرُ اللهُ أَكبرُ ، لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَاللهُ أَكبرُ ، اللهُ أَكبرُ وَللهِ الحَمدُ .
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِنَّهُ وَإِن كَانَ اجتِمَاعُ الكَلَمَةِ وَنَبذُ التَّفَرُّقِ وَاجِبًا عَلَى المُسلِمِينَ في كُلِّ وَقتٍ وَحِينٍ ، لأَنَّهُ لا قُوَّةَ لَهُم وَلا غَلَبَةَ ، وَلا عِزَّةَ وَلا سَعَادَةَ إِلاَّ بِذَلِكَ ، وَلَيسَ سِوَاهُ إِلاَّ الضَّعفُ وَالذِّلَّةُ وَالشَّقَاءُ وَالمَهَانَةُ ، فَإِنَّهُ لم يَكُنْ آكَدَ وَلا أَوجَبَ كَمِثلِهِ في هَذَا الوَقتِ العَصِيبِ ، الَّذِي أَحَاطَت فِيهِ بِالمُسلِمِينَ الشَّدَائِدُ مِن كُلِّ جَانِبٍ ، وَبَرَزَت لَهُمُ الفِتَنُ مِن كُلِّ جِهَةٍ ، وَصَارَ مِنَ المُتَعَيِّنِ عَلَيهِم أَن يَستَجمِعُوا قُوَاهُم وَيَستَكمِلُوا عُدَّتَهُم ، لِيَحفَظُوا حَوزَةَ الدِّينِ وَالمِلَّةِ ، وَلِيَحرُسُوا سُورَ الأَخلاقِ وَالفَضِيلَةِ ، وَلِيُنقِذُوا أَنفُسَهُم مِن كُلِّ عَدُوٍّ شَامِتٍ وَمُنَافِقٍ مُتَرَبِّصٍ .
أَلا وَإِنَّ مِمَّا أُمِرَ بِهِ المُسلِمُونَ لاجتِمَاعِ كَلِمَتِهِم ، وَشَهِدَ بِأَهَمِّيَّتِهِ تَارِيخُ الأُمَّةِ المَاضِي ، وَأَيَّدَهُ الحَاضِرُ المُشَاهَدُ ، لُزُومَ الجَمَاعَةِ وَاتِّبَاعَ سَبِيلِ المُؤمِنِينَ ، وَعَدَمَ مُشَاقَّتِهِم وَلا مُنَازَعَتِهِم وَلا الشُّذُوذِ عَنهُم ، إِذْ مَا اجتَمَعَتِ الأُمَّةُ في زَمَنٍ عَلَى إِمَامٍ وَاحِدٍ ، وَسَمِعَت لأُولي الأَمرِ مِنهَا وَعَقَلَت وَأَطَاعَت ، إِلاَّ أَمِنَت سُبُلُهَا ، وَاطمَأَنَّت في دِيَارِهَا ، وَنَالَتِ الرَّخَاءَ وَالسَّعَةَ ، وَعَزَّ جَانِبُهَا وتَقَدَّمَت ، وَصَارَت يَدًا وَاحِدَةً عَلَى مَن نَاوَأَهَا ، وَهَابَهَا أَعدَاؤُهَا وَخَافُوهَا ، وَلا هِيَ خَرَجَت عَلَى أَئِمَّتِهَا وَنَازَعَت وُلاتَهَا ، إِلاَّ صَارَ بَأسُهُم بَينَهُم شَدِيدًا ، وَاستَحَرَّ فِيهِم القَتلُ وَفَسَدَت مِنهُمُ القُلُوبُ ، وَتَشَتَّتُوا وَتَفَرَّقُوا ، وَعَدَا عَلَيهِمُ العَدُوُّ وَغَزَاهُم ، فَأَخَذَ بَعضَ مَا في أَيدِيهِم وَاستَضعَفَهُم . اللهُ أَكبرُ اللهُ أَكبرُ ، لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَاللهُ أَكبرُ ، اللهُ أَكبرُ وَللهِ الحَمدُ .
عِبَادَ اللهِ ، لَئِن كَانَ الشَّيطَانُ قَد أَيِسَ أَن يَعبُدَهُ المُصَلُّونَ في جَزِيرَةِ العَرَبِ ، لأَنَّ اللهَ أَرَادَ لها أَن تَكُونَ مَعقِلاً لِلإِسلامِ وَعَاصِمَةً لِلإِيمَانِ ، إِلاَّ أَنَّ عَدُوَّ اللهِ مَا زَالَ وَلَن يَزَالَ سَاعِيًا في التَّحرِيشِ بَينَهُم وَالإِفسَادِ ، وَتَفرِيقِ الصُّفُوفِ وَتَقطِيعِ الأَوَاصِرِ ، فَمَا أَحرَى المُسلِمِينَ أَن يَقطَعُوا عَلَيهِ الطَّرِيقَ ، فَيَدخُلُوا في السِّلمِ كَافَّةً وَلا يَتَّبِعُوا خُطُوَاتِهِ ، وَأَن يُطِيعُوا مَن وَلاَّهُ اللهُ أَمرَهُم ، وَيُوَقِّرُوا عُلَمَاءَهُم وَدُعَاتَهُم ، وَيَنقَادُوا لِلنَّاصِحِينَ مِنهُم وَيَسمَعُوا لَهُم ، وَأَلاَّ يَكُونَ اختِلافُ الأَسَالِيبِ وَتَنَوُّعُ الوَسَائِلِ ، أَو تَعَدُّدُ الأَهدَافِ القَرِيبَةِ وَتَغَايُرُ المَشَارِبِ الصَّغِيرَةِ ، حَائِلاً دُونَ بَعِيدِ الغَايَاتِ ، أَو صَارِفًا عَن تَحدِيدِ الأَولَوِيَّاتِ ، أَو مُؤَدِّيًا إِلى تَبَايُنِ المُعتَقَدَاتِ ، أَو مُوقِعًا في تَركِ الثَّوَابِتِ وَإِهمَالِ الأُصُولِ ، أَو مُوجِبًا لِرُكُوبِ الهَوَى وَإِعجَابِ كُلِّ ذِي رَأيٍ بِرَأيِهِ . وَمَن كَانَ ذَا نِيَّةٍ صَادِقَةٍ في الإِصلاحِ ، وَلَدَيهِ رَغبَةٌ جَازِمَةٌ في التَّغيِيرِ لِلأَحسَنِ ، وَيَحمِلُ بَينَ جَنبَيهِ إِرَادَةً لِلخَيرِ وَيَطمَعُ في رَدِّ هَيبَةِ الأُمَّةِ ، فَإِنَّهُ لا يَبحَثُ عَن مَوَاطِنِ الخِلافِ فَيَدُلَّ عَلَيهَا ، وَلا يَنزِعُ إِلى العِنَادِ وَالجَدَلِ فَيُصِرَّ عَلَيهِ ، وَلا مَكَانَ لَدَيهِ لاتِّبَاعِ الهَوَى وَإِبرَازِ الذَّاتِ ، أَو تَغلِيبِ مُشتَهَيَاتِهِ الخَاصَّةِ عَلَى المَصَالِحِ العَامَّةِ ، ذَلِكَ أَنَّهُ يَعلَمُ أَنَّ التَّنَازُعَ وَالصِّدَامَ ، وَعَدَمَ التَّوَاضُعِ وَتَركَ التَّطَامُنِ ، وَحُبَّ الجَدَلِ وَرُكُوبَ الهَوَى ، لا تَردِمُ حُفرَةً وَلا تُزِيلُ نُفرَةً ، وَلا تَجلِبُ وُدًّا وَلا تَبنِي حُبًّا ، وَلا تُصلِحُ عِلاقَةً وَلا تُذهِبُ جَفَاءً ، وَلَكِنَّهَا مُذهِبَةٌ لِلصَّفَاءِ وَالنَّقَاءِ ، مُقَوِّيَةٌ لِشَوكَةِ الأَعدَاءِ ، مُضعِفَةٌ لِجَانِبِ الأَولِيَاءِ ، وَحِينَ يُدرِكُ الجَمِيعُ كِبَارًا وَصِغارًا وَرِجَالاً وَنِسَاءً ، أَنَّ الخَطَرَ مُحدِقٌ بهم مِن كُلِّ جِهَةٍ ، وَأَنَّهُم هَدَفٌ لِكُلِّ ضَالٍّ وَغَرَضٌ لِكُلِّ مُنحَرِفٍ ، وَأَنَّ صَلاحَ دِينِهِم وَأَمنَ بِلادِهِم ، وَسَعَةَ أَرزَاقِهِم وَرَخَاءَ عَيشِهِم ، مَطمَعٌ لِكُلِّ عَدُوٍ وَحَاسِدٍ ، وَأَنَّ الشِّقَاقَ المُفتَعَلَ بَينَ الوُلاةِ وَالدُّعَاةِ ، وَالأُمرَاءِ وَالعُلَمَاءِ ، وَالوُجَهَاءِ وَالضُّعَفَاءِ ، لا يُثمِرُ إِلاَّ استِنزَافَ القُوَى وَتَبدِيدَ الجُهُودِ ، وَإِضَاعَةَ الأَوقَاتِ وَفَسَادَ الحَيَاةِ ، وَحَملَ كُلٍّ مِنهُم عَلَى الشَّكِّ في الآخَرِ ، وَجَعلِهِم في حَيرَةٍ مِنَ الأَمرِ حَتى يَأتِيَهُم العَدُوُّ وَهُم غَافِلُونَ ، إِنَّهُم حِينَ يُدرِكُونَ ذَلِكَ ، لَيَحرِصُونَ جَمِيعًا عَلَى جَمعِ الكَلِمَةِ وَتَوحِيدِ الصَّفِّ وَرَأبِ الصَّدعِ ، وَلَن تَرَاهُم إِلاَّ عَامِلِينَ عَلَى إِزَالَةِ كُلِّ أَسبَابِ الفُرقَةِ ، مُحسِنِينَ الظَّنَّ بِبَعضِهِم ، مُتَقَارِبِينَ في رُؤيَتِهِم ، مُتَعَاوِنِينَ لِتَحقِيقِ غَايَتِهِم ، قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " عَلَيكُم بِالجَمَاعَةِ وَإِيَّاكُم وَالفُرقَةَ ؛ فَإِنَّ الشَّيطَانَ مَعَ الوَاحِدِ ، وَهُوَ مِنَ الِاثنَينِ أَبعَدُ ، مَن أَرَادَ بُحبُوحَةَ الجَنَّةِ فَليَلْزَمِ الجَمَاعَةَ ... " رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ . اللهُ أَكبرُ اللهُ أَكبرُ ، لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَاللهُ أَكبرُ ، اللهُ أَكبرُ وَللهِ الحَمدُ .
عِبَادَ اللهِ ، لَقَد بُلِيَ النَّاسُ في زَمَانِنَا بِالبَحثِ عَنِ الزَّعَامَةِ وَحُبِّ الصَّدَارَةِ ، وَشَغَلَهُم طَردُ الجَاهِ وَالتَّعَلُّقُ بِالمَنَاصِبِ ، فَصَارَ كُلٌّ مِنهُم يَسعَى إِلى أَن يَكُونَ آمِرًا مُطَاعًا وَقَائِدًا مَتبُوعًا ، وَجَعَلَ يَبحَثُ عَنِ الشُّهرَةِ أَينَمَا حَلَّ وَارتَحَلَ ، وَيَطرُدُهَا يَمِينًا وَشِمَالاً وَشَرقًا وَغَربًا ، حَتى غَيَّبَ هَذَا الشُّعُورُ كَثِيرِينَ عَمَّا يَجِبُ عَلَيهِم مِن مُجَاهَدَةِ أَنفُسِهِم وَاتِّهَامِهَا ، وَالتَّفتَيشِ عَن عُيُوبِهَا وَمَعرِفَةِ خَلَلِهَا ، وَالعَمَلِ عَلَى تَنقِيَتِهَا وَتَصفِيَتِهَا مِمَّا قَد يُهلِكُهَا وَيُردِيهَا ، وَبَدَلاً مِن أَن يَبدَأَ أَحَدُهُم مَسِيرَةَ الإِصلاحِ بِإِصلاحِ نَفسِهِ ، بَدَأَ بِالآخَرِينَ يَتَتَبَّعُ عُيُوبَهُم وَزَلاَّتِهِم ، وَيَبحَثُ عَن سَقَطَاتِهِم وَهَفَوَاتِهِم ، مُغرِقًا في نَقدِهِم وَذَمِّهِم ، مُسنِدًا كُلَّ نَقصٍ إِلَيهِم ، حَامِلاً عَلَيهِم كُلَّ مَا يَحصُلُ مِن خَلَلٍ ، وَأَمَّا هُوَ فَلا هَمَّ لَهُ إِلاَّ أَن يُجَادِلَ وَيُخَاصِمَ وَيُنَازِعَ ، لِيُسَوِّغَ أَعمَالَهُ وَمَوَاقِفَهُ ، وَيُؤَيِّدَ تَصَرُّفَاتِهِ وَفَلَتَاتِهِ ، حَتى لَكَأَنَّمَا هُوَ مَعصُومٌ لا تَزِلُّ قَدَمُهُ وَلا يُخطِئُ لِسَانُهُ ، وَتَاللهِ لَقَد تَمَزَّقَ بِذَلِكَ صَفُّ الإِسلامِ ، وَتَأَخَّرَ سَيرُ الأُمَّةِ وَتَخَلَّفَت ، إِذ أَصبَحَ الانصِيَاعُ لِلحَقِّ مَفقُودًا ، وَصَارَت شَهوَةُ العَظَمَةِ هِيَ الطَّاغِيَةَ عَلَى المُبتَلَى بها ، تُعمِيهِ عَنِ الحَقِّ وَتَصرِفُهُ عَنِ اتِّبَاعِهِ .
وَأَمرٌ آخَرُ ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ أَدَّى إِلى اختِلافِ الكَلِمَةِ وَضَعفِ الهَيبَةِ ، ذَلِكُم هُوَ خَلطُ كَثِيرِينَ بَينَ الثَّوَابِتِ القَطعِيَّةِ وَالمَبَادِئِ الأَصِيلَةِ الَّتِي يَجِبُ الاتِّفَاقُ عَلَيهَا ، وَبَينَ القَضَايَا الفَرعِيَّةِ الجُزئِيَّةِ الَّتِي يَسُوغُ الاختِلافُ فِيهَا ، وَتَقدِيمُ آخَرِينَ نَصِيبَهُم مِنَ الدُّنيَا عَلَى حَظِّهِم مِنَ الدِّينِ ، فَأُقِيمَ الحُبُّ وَالوَلاءُ عَلَى أُسُسٍ هَشَّةٍ ، وَصَارَ مُنطَلَقُ البُغضِ وَالتَّبَرُّؤِ مُجَرَّدَ الهَوَى وَالشَّهوَةِ ، وَتَفَاصَلَ الإِخوَةُ فِيمَا لَيسَ مَجَالاً لِلمُفَاصَلَةِ ، وَأَغرَقُوا في الجُزئِيَّاتِ وَطَالَبُوا بِالتَّكمِيلِيَّاتِ ، غَافِلِينَ عَن وُجُوبِ تَحصِيلِ الضَّرُورَاتِ وَالحَاجَاتِ أَوَّلاً ، وَأَنَّهُ لا يُبتَنَى جِدَارٌ عَلَى غَيرِ أَسَاسٍ ، وَأَنَّ لِكُلِّ مُجتَهِدٍ نَصِيبًا مِنَ الأَجرِ . أَلا فَاتَّقُوا اللهَ ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ وَاعلَمُوا أَنَّ مِن لازِمِ الصِّدقِ مَعَ اللهِ وَمَحَبَّةِ المُسلِمِينَ ، أَن يَقِفَ المُسلِمُ عِندَ حُدُودِ العَدلِ وَالحَقِّ ، وَأَن يَقُولَ لِلصَّوَابِ : هَذَا صَوَابٌ ، وَلِلخَطَأِ : هَذَا خَطَأٌ ، وَأَلاَّ يُقِرَّ بَاطِلاً وَلا يَنتَصِرَ لَهُ وَلا يَدعُوَ إِلَيهِ ، فَالمَفهُومُ الجَاهِلِيُّ لِلنَّصرِ ، القَائِمُ عَلَى التَّعَصُّبِ الأَعمَى ، قَد أَزَالَهُ الإِسلامُ وَطَرَحَهُ ، قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " اُنصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَو مَظلُومًا " فَقَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللهِ ، أَنصُرُهُ إِذَا كَانَ مَظلُومًا ، أَفَرَأَيتَ إِذَا كَانَ ظَالِمًا كَيفَ أَنصُرُهُ ؟ قَالَ : " تَحجُزُهُ أَو تَمنَعُهُ مِن الظُّلمِ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ نَصرُهُ " رَوَاهُ البُخَارِيُّ . اللهُ أَكبرُ اللهُ أَكبرُ ، لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَاللهُ أَكبرُ ، اللهُ أَكبرُ وَللهِ الحَمدُ .
الخطبة الثانية :
اللهُ أَكبرُ اللهُ أَكبرُ ، لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَاللهُ أَكبرُ ، اللهُ أَكبرُ وَللهِ الحَمدُ . اللهُ أَكبرُ كَبِيرًا ، وَالحَمدُ للهِ كَثِيرًا ، وَسُبحَانَ اللهِ بُكرَةً وَأَصِيلاً . الحَمدُ للهِ مُعِيدِ الجُمَعِ وَالأَعيَادِ ، رَفَعَ السَّمَاءَ بِلا عِمَادٍ ، وَأَرسَى الأَرضَ بِالأَوتَادِ ، وَتَعَالى عَنِ الصَّاحِبَةِ وَالوَلَدِ وَالأَندَادِ ، وَالصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى خَيرِ خَلقِ اللهِ ، نَبِيِّهِ الَّذِي خَصَّهُ وَاصطَفَاهُ ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحبِهِ وَمَن وَالاهُ .
أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ، وَسَارِعُوا إِلى مَغفِرَتِهِ وَمَرضَاتِهِ ، وَاعلَمُوا أَنَّهُ لا يُمكِنُ لِقَومٍ أَن يُظهِرُوا دِينًا أَو يَنصُرُوا حَقًّا ، أَو يَقهَرُوا عَدُوًّا أَو يَدحَرُوا بَاطِلاً ، أَو يُصلِحُوا مُجتَمَعًا أَو يُعِزُّوا وَطَنًا ، وَهُم شَرَاذِمُ مُتَفَرِّقُونَ ، كُلُّ حِزبٍ بما لَدَيهِم فَرِحُونَ . لَقَد كَانَ العَرَبُ قَبلَ مَبعَثِ محمدٍ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ أَعدَاءً فَأَلَّفَ اللهُ بَينَ قُلُوبِهِم فَأَصبَحُوا بِنِعمَتِهِ إِخوَانًا ، وَبِتِلكَ الأُخُوَّةِ الصَّادِقَةِ وَالقُلُوبِ المُؤتَلِفَةِ ، استَطَاعُوا أَن يَقُودُوا العَالَمَ وَيُحَرِّرُوهُ ، وَقَدِ امتَنَّ اللهُ بِذَلِكَ عَلَى نَبِيِّهِ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ فَقَالَ : " هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصرِهِ وَبِالمُؤمِنِينَ . وَأَلَّفَ بَينَ قُلُوبِهِم لَو أَنفَقتَ مَا في الأَرضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفتَ بَينَ قُلُوبِهِم وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَينَهُم إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ " أَجَلْ ـ أَيُّهَا الإِخوَةُ ـ مَا كَانَ لِلمُؤمِنِينَ الَّذِينَ نَصَرَ اللهُ بِهِم رَسُولَهُ وَأَعَزَّ بِهِم دِينَهُ وَأَعلَى بِهِم كَلِمَتَهُ ، مَا كَانَ لَهُم أَن يَكُونُوا لِذَلِكَ أَهلاً ، لَو بَقُوا عَلَى مَا كَانُوا عَلَيهِ في الجَاهِلِيَّةِ مِن التَّنَاحُرِ وَالعَدَاوَاتِ وَالعَصَبِيَّاتِ ، وَالتَّبَاغُضِ وَالفُرقَةِ وَالشَّتَاتِ ، أَلا فَاتَّقُوا اللهَ وَارتَفِعُوا عَن دَنَايَا الدُّنيَا وَسَفَاسِفِ الأُمُورِ ، وَانبُذُوا التَّكَاثُرَ وَدَعُوا التَّفَاخُرَ ، فَإِنَّ كُلاًّ مِنكُم مَبعُوثٌ وَحدَهُ ، مُحَاسَبٌ عَلَى عَملِهِ ، وَاحذَرُوا أَكبَرَ أَسبَابِ الافتِرَاقِ وَالاختِلافِ ، وَأَقوَى مُورِثٍ لِلعَدَاوَةِ وَضَيَاعِ القُوَّةِ ، ذَلِكُم هُوَ الوُقُوعُ في المَعَاصِي وَالمُخَالَفَاتِ ، وَالتَّهَاوُنُ بِالكَبَائِرِ وَالمُوبِقَاتِ ، وَتَجَاوُزُ حُدُودِ الشَّرعِ في الأَمرِ وَالنَّهيِ ، مَعَ اعتِيَادِ السُّكُوتِ وَالمُدَاهَنَةِ ، وَعَدَمِ إِحيَاءِ فَرِيضَةِ الأَمرِ بِالمَعرُوفِ وَالنَّهيِ عَنِ المُنكَرِ ، فَإِنَّهُ مَتى شَاعَتِ المَعَاصِي وَالمُنكَرَاتُ ، وَأُضِيعَ الأَمرُ بِالمَعرُوفِ وَالنَّهيُ عَنِ المُنكَرِ ، وَعُودِيَ المُحتَسِبُونَ وَأُسقِطُوا ، فَلَم تُحفَظْ لَهُم مَكَانَةٌ ، وَلَم تُقبَلْ مِنهُم نَصِيحَةٌ ، وَلَم تَبقَ لَهُم هَيبَةٌ وَلَم تُسمَعْ مِنهُم كَلِمَةٌ ، كَانَتِ العَاقِبَةُ الحَتمِيَّةُ هِيَ انحِرَافَ القُلُوبِ عَن بَعضِهَا ، وَفُقدَانَ المَحَبَّةِ الإِيمَانِيَّةِ ، وَحُلُولَ القَطِيعَةِ وَالبَغضَاءِ وَالعَدَاوَةِ وَالشَّحنَاءِ ، وَمِن ثَمَّ ذَهَابُ الرِّيحِ وَسُقُوطُ القُوَّةِ ، وَتَغَلُّبُ الأَعدَاءِ وَهَزِيمَةُ الأُمَّةِ ، قَالَ ـ تَعَالى ـ : " وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذنَا مِيثَاقَهُم فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغرَينَا بَينَهُمُ العَدَاوَةَ وَالبَغضَاءَ إِلى يَومِ القِيَامَةِ " اللهُ أَكبرُ اللهُ أَكبرُ ، لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَاللهُ أَكبرُ ، اللهُ أَكبرُ وَللهِ الحَمدُ .
عِبَادَ اللهِ ، ضَحُّوا تَقَبَّلَ اللهُ ضَحَايَاكُم ، وَاذكُرُوهُ عَلَى مَا رَزَقَكُم وَكَبِّرُوهُ عَلَى مَا هَدَاكُم ، إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لا يَقبَلُ إِلاَّ طَيِّبًا ، فَاختَارُوا مِنَ الضَّحَايَا أَحسَنَهَا وَأَسمَنَهَا وَأَثمَنَهَا ، وَتَهَادَوا وَتَصَدَّقُوا ، وَكُلُوا وَادَّخِرُوا ، تَوَاصَلُوا وَتَزَاوَرُوا ، وَتَصَافَحُوا وَتَصَالَحُوا ، وَأَفشُوا السَّلامَ بَينَكُم تُفلِحُوا ، إِنَّكُم في أَيَّامِ عِيدٍ وَأَكلٍ وَشُربٍ وَذِكرٍ للهِ ، يَحرُمُ صَومُهَا ، وَتُعَظَّمُ الشَّعَائِرُ فِيهَا ، فَعَظِّمُوا كُلَّ مَا عَظَّمَ رَبُّكُم " ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِن تَقوَى القُلُوبِ " اللهُ أَكبرُ اللهُ أَكبرُ ، لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَاللهُ أَكبرُ ، اللهُ أَكبرُ وَللهِ الحَمدُ .
يَا نِسَاءَ المُسلِمِينَ ، اِحفَظْنَ حَقَّ اللهِ وَحَقَّ الأَزوَاجِ ، وَالْزَمْنَ البُيُوتَ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأُولى ، كُنَّ حُصُونًا لِلصَّلاحِ والفَضِيلَةِ ، وَلا تَكُنَّ جُسُورًا لِلفَسَادِ وَالرَّذِيلَةِ ، أَطِلْنَ الثِّيَابَ وَقَصِّرْنَ الأَلسِنَةَ ، وَاحفَظْنَ الوُدَّ وَلا تَنسَينَ الفَضلَ ، فَنِعمَ المَرأَةُ الوَدُودُ الوَلُودُ ، الحَصَانُ الرَّزَانُ ، الكَثِيرَةُ الحَيَاءِ الحَسَنَةُ الثَّنَاءِ ، إِنْ أُعطِيَت شَكَرَت ، وَإِن مُنِعَت صَبَرَت ، تَسُرُّ زَوجَهَا إِذَا نَظَرَ ، وَتُطِيعُهُ إِذَا أَمَرَ ، وَتَحفَظَهُ إِن غَابَ وَتُبهِجُهُ إِذَا حَضَرَ ! وَبِئسَ لِلمَرأَةِ أَن تَكُونَ كَفُورَةً غَيرَ شَكُورَةٍ ، تَدفِنُ الحَسَنَاتِ وَتُفشِي السَّيِّئَاتِ ، خَرَّاجَةٌ وَلاجَةٌ ، أَنَّانَةٌ مَنَّانَةٌ ، تَخلَعُ الحِجَابَ وَتَضَعُ الجِلبَابَ ، صَبِيُّهَا مَهزُولٌ ، وَبَيتُهَا مَزبُولٌ ، وَكَلامُهَا وَعِيدٌ وَصَوتُهَا شَدِيدٌ ، اللهُ أَكبرُ اللهُ أَكبرُ ، لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَاللهُ أَكبرُ ، اللهُ أَكبرُ وَللهِ الحَمدُ .
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
تعديل التعليق