خطبة عيد الأضحى (مسيرة الكمال والتمام)
راكان المغربي
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر الله أكبرُ كبيرًا، والحمدُ لله كثيرًا، وسبحانَ الله بُكرةً وأصيلاً.
أما بعد:
ها هو ينزل من الجبل وحيدا، قد أقلقته الوحشة، وأطبقت عليه الهموم، وتكالبت عليه الأثقال..
يقول واصفا ذلك الموقف: (جَاوَرْتُ في حِرَاءٍ، فَلَمَّا قَضَيْتُ جِوَارِي هَبَطْتُ، فَاسْتَبْطَنْتُ الوَادِيَ فَنُودِيتُ فَنَظَرْتُ أمَامِي وخَلْفِي، وعَنْ يَمِينِي وعَنْ شِمَالِي، فَإِذَا الملَكُ الذي جاءني بحراءٍ جَالِسٌ علَى كُرْسِيٍّ بيْنَ السَّمَاءِ والأرْضِ، فجُئِثت منه رُعبا، حتى هويتُ إلى الأرضِ، فأتَيْتُ خَدِيجَةَ فَقُلتُ: دَثِّرُونِي، وصُبُّوا عَلَيَّ مَاءً بَارِدًا، وأُنْزِلَ عَلَيَّ: (یَـٰۤأَیُّهَا ٱلۡمُدَّثِّرُ ١ قُمۡ فَأَنذِرۡ ٢ وَرَبَّكَ فَكَبِّرۡ ٣ وَثِیَابَكَ فَطَهِّرۡ ٤ وَٱلرُّجۡزَ فَٱهۡجُرۡ ٥)..
وما إن سمع النبي صلى الله عليه وسلم ذلك النداء، حتى وثب وثبة الأبطال، وقام يبلغ دين ربه، وينشر نورَ الله في الأرجاء..
بدأ صلى الله عليه وسلم من الصفر، لم يكن له أرضٌ ولا دولةٌ، ولا جندٌ ولا مالٌ، ولا منبرٌ ولا نادٍ..
لكنه تسلح بالحقِّ الذي يحمله، والنورِ الذي هداه الله إليه، وضع له ربُّه المنهج، ورسم له الغاية (الۤرۚ كِتَـٰبٌ أَنزَلۡنَـٰهُ إِلَیۡكَ لِتُخۡرِجَ ٱلنَّاسَ مِنَ ٱلظُّلُمَـٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذۡنِ رَبِّهِمۡ إِلَىٰ صِرَ ٰطِ ٱلۡعَزِیزِ ٱلۡحَمِیدِ)، فقام صلى الله عليه وسلم يسلك لها كل سبيل، ويذلل من أجل الوصول إليها كل صعب وعسير..
يبدأ الناس في الالتحاق بركب النور، على اختلاف مراتبهم وأجناسهم، هذا النسيب الحسيب أبوبكر، وهذا العبد الحبشي بلال، هذه المرأة خديجة، وهذا الغلام علي.. إنهم يجدون في الإسلام ما يوافق فطرتهم، وما يحقق سعادتَهم وطُمأنينتَهم..
ها هو النور يبدد ظلمات الجهل، ويمحو بسطوعه الباطل شيئا فشيئا..
ولكنَّ الطريقَ لم يكن بالورد مفروشا، ولا بالزينة محفوفا..
كان في بدء دعوته مضطهدا ومغلوبا، توصد في وجهه الأبوابُ والسبل، يُعذّب أصحابُه، ويُهجَّر أحبابُه.. كانوا يقولون عنه: (شَاعِرࣱ نَّتَرَبَّصُ بِهِۦ رَیۡبَ ٱلۡمَنُونِ)، أي: ما هو إلا "شاعر ننتظر به أن يتخطفه الموت، فنستريح منه"، فيأمره ربه بالرد عليهم بكل ثقة (قُلۡ تَرَبَّصُوا۟ فَإِنِّی مَعَكُم مِّنَ ٱلۡمُتَرَبِّصِینَ)..
كانوا يكيدون له كل كيد، ويمكرون لدينه كل مكر، ولكن اللهَ كان يطمئِنُه بأنه حاضرٌ في المعركة (إِنَّهُمۡ یَكِیدُونَ كَیۡدࣰا ١٥ وَأَكِیدُ كَیۡدࣰا ١٦ فَمَهِّلِ ٱلۡكَـٰفِرِینَ أَمۡهِلۡهُمۡ رُوَیۡدَۢا)..
كانوا يبذلون كلَّ حيلة لإطفاء نور دينه، وإيقاف مد الحق الذي جاء به، لكن الربَّ كان يعدُه بوعد الصدق رغم كل محاولات الكيد (یُرِیدُونَ أَن یُطۡفِـُٔوا۟ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفۡوَ ٰهِهِمۡ وَیَأۡبَى ٱللَّهُ إِلَّاۤ أَن یُتِمَّ نُورَهُۥ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡكَـٰفِرُونَ ٣٢ هُوَ ٱلَّذِیۤ أَرۡسَلَ رَسُولَهُۥ بِٱلۡهُدَىٰ وَدِینِ ٱلۡحَقِّ لِیُظۡهِرَهُۥ عَلَى ٱلدِّینِ كُلِّهِۦ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡمُشۡرِكُونَ)
ولم يزل قائما بأمر الله، داعيا إليه بإذنه، صابرا صامدا، ما عرف الكسل يوما، ولا ركن إلى الدنيا ساعة..
وفي مثل هذه الأيام من السنة العاشرة من الهجرة، بعد ثلاث وعشرين سنة من البذل والعطاء، والصبر والمصابرة، وفي يوم الجمعة الموافق التاسع من ذي الحجة ينزل عليه الوحي، ليبشره بالتمام والكمال..
جاء رجلٌ مِنَ اليَهُودِ إلى عمرَ رضي الله عنه فقالَ له: يا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ، آيَةٌ في كِتَابِكُمْ تَقْرَؤُونَهَا، لو عَلَيْنَا مَعْشَرَ اليَهُودِ نَزَلَتْ، لَاتَّخَذْنَا ذلكَ اليومَ عِيدًا. قالَ: أيُّ آيَةٍ؟ قالَ: {اليومَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وأَتْمَمْتُ علَيْكُم نِعْمَتي ورَضِيتُ لَكُمُ الإسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3] قالَ عُمَرُ: قدْ عَرَفْنَا ذلكَ اليَومَ، والمَكانَ الذي نَزَلَتْ فيه علَى النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وهو قَائِمٌ بعَرَفَةَ يَومَ جُمُعَةٍ.
نزلت تلك الآية لتكون إعلانا لإكمال الدين، وتمام النعمة، وثبوت الإسلام في الأرض (الۡیَوۡمَ یَىِٕسَ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ مِن دِینِكُمۡ فَلَا تَخۡشَوۡهُمۡ وَٱخۡشَوۡنِۚ ٱلۡیَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِینَكُمۡ وَأَتۡمَمۡتُ عَلَیۡكُمۡ نِعۡمَتِی وَرَضِیتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَـٰمَ دِینࣰاۚ)
وفي تلك الحجة التي سميت بحجة الوداع، ودع النبيُّ صلى الله عليه وسلم أصحابَه، ولكنه لم يودعْهم حتى أشهدهم على أنه قد بلغ رسالة ربه، تامةً كاملةً، ولم ينقصْ منها شيئا، وكان في خطبته في تلك الحجة يقول لهم: (وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّي، فَما أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟ فيقولون: نَشْهَدُ أنَّكَ قدْ بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ، فيقول:بإصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ، يَرْفَعُهَا إلى السَّمَاءِ وَيَنْكُتُهَا إلى النَّاسِ، اللَّهُمَّ اشْهَدْ، اللَّهُمَّ اشْهَدْ، اللَّهُمَّ اشْهَدْ)
وبعد ثلاثة أشهر من تلك الحجة قبضه ربه وتوفاه، ولكن بعد أن أقام مصنعا للأبطال، علمهم ورباهم، صقلهم ونماهم، ليحملوا بعده الراية، ويكملوا على إثره المسير.. وليكونوا خير أمة أخرجت للناس، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله.. ليستمر النورُ جيلا بعد جيل، وقرنا بعد قرن، لا يتَقَادمُ بتَصَرُّمِ السنين، ولا يبهتُ بمرِّ الأزمنة..
وبعد أربعةَ عشرَ قرنا لا يزال هذا الدين محفوظا، شعائره قائمة، وآياته باقية، ونوره ظاهر..
لا زال إلى اليوم بذات الوهج، يلحق بركبه العربي والأعجمي، والفقير والغني، والعالم والعامي..
لا تزال أسهمه في ارتفاع وصعود، حتى يتم وعد الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: (ليبلغنَّ هذا الأمرُ ما بلغَ اللَّيلُ والنَّهارُ، ولا يتركُ اللهُ بيتَ مدَرٍ ولا وبَرٍ إلَّا أدخلَهُ اللهُ هذا الدِّينَ، بعِزِّ عزيزٍ ، أو بذلِّ ذليلٍ ، عزًّا يعزُّ اللهُ به الإسلامَ ، وذلًّا يذِلُّ اللهُ به الكفرَ)..
فيا من يحملون هم الدين..
أبشروا فإنه لا خوفَ على نور الله أن يُطفأ، ولكنَّ الخوفَ على القلوب أن يُجعل عليها الأكنةُ فلا تبصرُه، ولا تهتدي به (مَثَلُهُمۡ كَمَثَلِ ٱلَّذِی ٱسۡتَوۡقَدَ نَارࣰا فَلَمَّاۤ أَضَاۤءَتۡ مَا حَوۡلَهُۥ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمۡ وَتَرَكَهُمۡ فِی ظُلُمَـٰتࣲ لَّا یُبۡصِرُونَ)
فالتمسوا نور الله، واعتصموا بحبله المتين، واثبتوا يا عباد الله، لتكونوا من طائفة الحق التي لا تزال موجودة في الأمة، ولم ولن تنقطع في زمن من الأزمنة، حتى تأتيَ تلك الريحُ الطيبةُ قبل قيام الساعة فتقبضَ روحَ كلِّ مؤمن ومؤمنة، قال صلى الله عليه وسلم: (لا تَزالُ طائِفَةٌ مِن أُمَّتي ظاهِرِينَ علَى الحَقِّ، لا يَضُرُّهُمْ مَن خَذَلَهُمْ، ولا مَن خَالَفَهم، حتَّى يَأْتِيَ أمْرُ اللهِ وهُمْ كَذلكَ)
اللهم ثبتنا على الحق حتى نلقاك..
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم..
الخطبة الثانية:
أما بعد:
فيا معاشر النساء
اعلموا أن الحربَ عليكُنَّ مستعرة، وجنودَ الباطلِ عليكنَّ مجتمعة..
إنهم يعرفون عِظَمَ أدوارِكُن، وأهميةَ الثغرِ الذي تقِفْن عليه..
سهامٌ كثيرةٌ تتوجه إلى إفسادِ المرأةِ المسلمة، وسلخِها من هُويتِها ومصدرِ عزتها..
ولا والله لا ما رفع المرأةَ ولا كرمها مثلُ الإسلام، وكفى بذلك شاهدا أن كان موضوع التوصية بالنساء من ضمن الخطبة التي خطب بها النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع في أعظم محفل شهده المسلمون في عهد النبوة، فقال صلى الله عليه وسلم: (ألا واستَوصوا بالنِّساءِ خيرًا ، فإنَّما هُنَّ عوانٍ عندَكم)
فتمسّكنَ بالإسلام، واعضُضْنَ عليه بالنواجذ، واصبِرنَ على أذى المنافقين والكفار، واثبُتْن على الحق، والله لا يضيع عمل العاملين لا في الدنيا ولا في الآخرة (مَنۡ عَمِلَ صَـٰلِحࣰا مِّن ذَكَرٍ أَوۡ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤۡمِنࣱ فَلَنُحۡیِیَنَّهُۥ حَیَوٰةࣰ طَیِّبَةࣰۖ وَلَنَجۡزِیَنَّهُمۡ أَجۡرَهُم بِأَحۡسَنِ مَا كَانُوا۟ یَعۡمَلُونَ)
اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك..
اللهم يا مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك..
اللهم احفظنا بالإسلام قائمين، واحفظنا بالإسلام قاعدين، واحفظنا بالإسلام راقدين، ولا تشمت بنا عدوا ولا حاسدا.
اللهم إنا نسألك من كل خير خزائنه بيدك، ونعوذ بك من كل شر خزائنه بيدك
المرفقات
1626699030_خطبة عيد الأضحى (مسيرة الكمال والتمام).docx
1626699064_خطبة عيد الأضحى (مسيرة الكمال والتمام).pdf