خطبة عيد الأضحى المبارك 1437 بعنوان: (أهل السنة والجماعة.. من هم؟!).
الشيخ د إبراهيم بن محمد الحقيل
1437/11/29 - 2016/09/01 16:13PM
خطبة عيد الأضحى المبارك
أهل السنة والجماعة.. من هم؟!
10/12/1437
الْحَمْدُ لِلهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ؛ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، وَخَالِقِ الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ. وَالْحَمْدُ لِلهِ الْكَبِيرِ المُتَعَالِ، عَزِيزٌ لَا يُرَامُ، وَمَلِكٌ لَا يُضَامُ، وَقَيُّومٌ لَا يَنَامُ، بِيَدِهِ مَعَاقِدُ الْعِزِّ، وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ، وَلَا أَحَدَ مِنْ دُونِهِ يَمْلِكُ النَّفْعَ وَالضُّرَّ.
{الحَمْدُ لِلهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ} [الإسراء: 111] وَاللهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا.
اللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَاللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ وَلِلهِ الْحَمْدُ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ وَفَّقَ مَنْ شَاءَ لِطَاعَتِهِ فَكَانَ عَمَلُهُمْ مَبْرُورًا، وَسَعْيُهُمْ مَشْكُورًا، وَصَرَفَ أَهْلَ الشِّقْوَةِ عَنْ طَرِيقِهِ فَكَانُوا قَوْمًا بُورًا، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ وَقَفَ فِي المَشَاعِرِ، وَعَظَّمَ الشَّعَائِرَ، وَخَطَبَ النَّاسَ فَعَظَّمَ الْحُرُمَاتِ، وَنَهَى عَنِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَأَمَرَ بِالطَّاعَاتِ، وَأَشْهَدَ الْحُجَّاجَ عَلَى بَلَاغِهِ فَشَهِدُوا، فَأَشْهَدَ اللهَ تَعَالَى عَلَى شَهَادَتِهِمْ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
اللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَاللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ وَللهِ الْحَمْدُ.
أَمَّا بَعْدُ: فَأُوصِيكُمْ -أَيُّهَا النَّاسُ- وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى فِي السِّرِّ وَالْعَلَنِ؛ فَإِنَّ فِي التَّقْوَى عَوْنًا عَلَى الْمِحَنِ، وَمَخْرَجًا مِنَ الْفِتَنِ، وَصَبْرًا عَلَى الْعُسْرِ، وَشُكْرًا فِي الْيُسْرِ {وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطَّلاق: 2-3].
أَيُّهَا النَّاسُ: وَقَفَ إِخْوَانُكُمْ بِالْأَمْسِ فِي عَرَفَاتٍ، وَرَفَعُوا إِلَى اللهِ تَعَالَى الدَّعَوَاتِ، وَرَجَوْا مِنْهُ المَغْفِرَةَ وَالرَّحَمَاتِ، فَلَانَتْ بِذِكْرِهِ سُبْحَانَهُ قُلُوبُهُمْ، وَسَحَّتْ لِرَجَائِهِ دُمُوعُهُمْ، وَاشْتَاقَتْ لِبَرْدِ عَفْوِهِ نُفُوسُهُمْ، فَيَا لِلَّهِ الْعَظِيمِ! كَمْ مِنْ دَعَوَاتٍ بِالْأَمْسِ أُجِيبَتْ؟! وَكَمْ مِنْ رِقَابٍ مِنَ النَّارِ أُعْتِقَتْ؟! وَكَمْ مِنْ أَوْزَارٍ وَذُنُوبٍ حُطَّتْ؟! فَاللَّهُمَّ اقْبَلْ دُعَاءَ الدَّاعِينَ، وَأَعْطِ السَّائِلِينَ، وَتُبْ عَلَى التَّائِبِينَ، يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.
وَلَمَّا غَرَبَتْ عَلَيْهِمُ الشَّمْسُ سَارُوا مُلَبِّينَ مُكَبِّرِينَ إِلَى مُزْدَلِفَةَ فِي جُمُوعٍ تَتَسَابَقُ إِلَى الطَّاعَاتِ، وَتُنَافِسُ فِي الْخَيْرَاتِ. وَبَاتُوا لَيْلَتَهُمْ فِيهَا، فَلَمَّا أَصْبَحُوا ذَكَرُوا اللهَ تَعَالَى عِنْدَ المَشْعَرِ الْحَرَامِ حَتَّى أَسْفَرُوا، ثُمَّ سَارُوا مُلَبِّينَ إِلَى مِنًى لِرَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، وَلِيَذْبَحُوا هَدْيَهُمْ، وَيَحْلِقُوا رُؤُوسَهُمْ، وَيُحِلُّوا إِحْرَامَهُمْ، وَيَطُوفُوا لِحَجِّهِمْ، وَيَبِيتُوا لَيَالِيَ التَّشْرِيقِ بِمِنًى، لِيَرْمُوا الْجَمَرَاتِ وَيُكَبِّرُوا وَيَدْعُوا، ثُمَّ يُوَدِّعُوا الْبَيْتَ بِالطَّوَافِ، وَيَعُودُوا إِلَى أَوْطَانِهِمْ وَقَدْ أَتَمُّوا مَنَاسِكَهُمْ، وَأَمْضَوْا أَفْضَلَ الْأَيَّامِ فِي أَعْظَمِ الطَّاعَاتِ؛ فَلِلَّهِ الْحَمْدُ؛ عَلَّمَنَا مَنَاسِكَنَا، وَهَدَانَا لِشَرِيعَتِنَا، وَأَعَانَنَا عَلَى الْتِزَامِهَا، وَنَسْأَلُهُ تَعَالَى الثَّبَاتَ عَلَى دِينِنَا إِلَى أَنْ نَلْقَاهُ.
اللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَاللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ وَلِلهِ الْحَمْدُ.
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: حِينَ بَعَثَ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ بِهِ قُلُوبَ الْعَرَبِ بَعْدَ شَتَاتِهَا، وَأَزَالَ بِهِ تَفَرُّقَهَا وَاخْتِلَافَهَا، وَرَفَعَ بِهِ ذُلَّهَا وَهَوَانَهَا {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} [الأنفال: 63]. ثُمَّ وَقَعَ الِاخْتِلَافُ الْأَوَّلُ بِظُهُورِ الْخَوَارِجِ وَقَتْلِهِمْ عُثْمَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ظُلْمًا وَعُدْوَانًا، فَسُلَّتِ السُّيُوفُ وَلَمْ تُغْمَدْ، وَسُفِكَتِ الدِّمَاءُ وَلَمْ تُحْقَنْ، وَتَفَرَّقَتِ الْقُلُوبُ وَلَمْ تَجْتَمِعْ.
ثُمَّ ظَهَرَتْ بِدَعُ الْبَاطِنِيَّةِ فِي أَوَاخِرِ الْخِلَافَةِ الرَّاشِدَةِ فَزَادَتِ الِاخْتِلَافَ وَالتَّفَرُّقَ. ثُمَّ ظَهَرَتْ بِدْعَةُ أَهْلِ الْكَلَامِ الَّذِينَ أَدْخَلُوا فَلْسَفَاتِ الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ عَلَى عَقَائِدِ المُسْلِمِينَ، وَخَلَطُوهَا بِهَا، وَحَاكَمُوا نُصُوصَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إِلَيْهَا. فَاضْطُرَّ أَهْلُ الْحَقِّ مِنْ عُلَمَاءِ الْإِسْلَاِم إِلَى تَمْيِيزِ أَهْلِ الْبِدَعِ عَنْ غَيْرِهِمْ، بِالِانْتِسَابِ إِلَى السُّنَّةِ، فَظَهَرَ مُصْطَلَحُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، نِسْبَةً إِلَى الْأَخْذِ بِالسُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ، وَاعْتِمَادِ فَهْمِ الصَّحَابَةِ لِنُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ لِأَنَّهُ الْفَهْمُ النَّقِيُّ الصَّافِي قَبْلَ إِدْخَالِ أَهْلِ الْبِدَعِ بِدَعَهُمْ عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ. فَصَارَ وَصْفُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ يَتَنَاوَلُ مَنْ عَظَّمَ نُصُوصَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَاعْتَمَدَ فِيهَا عَلَى فَهْمِ سَلَفِ الْأُمَّةِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَالْأَئِمَّةِ المَتْبُوعِينَ، وَلَمْ يَمْسَخْهَا بِتَحْرِيفٍ أَوْ تَأْوِيلٍ؛ وَذَلِكَ أَخْذًا بِوَصِيَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ حِينَ قَالَ: «أُوصِيكُمْ بِأَصْحَابِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَفْشُو الكَذِبُ حَتَّى يَحْلِفَ الرَّجُلُ وَلَا يُسْتَحْلَفُ، وَيَشْهَدَ الشَّاهِدُ وَلَا يُسْتَشْهَدُ...» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ.
وَيُطْلَقُ عَلَيْهِمْ أَهْلَ الْحَدِيثِ وَالْأَثَرِ؛ لِتَعْظِيمِهِمْ حَدِيثَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَخْذِهِمْ بِهِ، وَتَقْدِيمِهِ عَلَى أَهْوَاءِ الرِّجَالِ وَآرَائِهِمْ.
كَمَا يُوصَفُونَ بِأَنَّهُمْ أَتْبَاعُ السَّلَفِ الصَّالِحِ؛ وَلِذَا يُقَالُ لَهُمُ السَّلَفِيُّونَ وَالْأَثَرِيُّونَ، وَهُمُ الْفِرْقَةُ النَّاجِيَةُ المَذْكُورَةُ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ تَفَرَّقَتْ إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، فَهَلَكَتْ سَبْعُونَ فِرْقَةً، وَخَلَصَتْ فِرْقَةٌ وَاحِدَةٌ، وَإِنَّ أُمَّتِي سَتَفْتَرِقُ عَلَى اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، تَهْلِكُ إِحْدَى وَسَبْعُونَ فِرْقَةً، وَتَخْلُصُ فِرْقَةٌ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، مَنْ تِلْكَ الْفِرْقَةُ؟ قَالَ: «الْجَمَاعَةُ الْجَمَاعَةُ» رَوَاهُ أَحْمَدُ. وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: فَقِيلَ لَهُ: مَا الْوَاحِدَةُ؟ قَالَ: «مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَأَصْحَابِي».
فَلَا فَرْقَ أَنْ يُقَالَ: أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، أَوِ السَّلَفِيُّونَ، أَوِ الْأَثَرِيُّونَ، أَوِ الْفِرْقَةُ النَّاجِيَةُ، فَكُلُّهَا أَوْصَافٌ تَعُودُ لِمُسَمًّى وَاحِدٍ، يَعْتَمِدُ أَصْحَابَهُ نُصُوصَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِفَهْمِ سَلَفِ الْأُمَّةِ. وَهُوَ مَا يُمَثِّلُ حَقِيقَةَ الْإِسْلَامِ عِنْدَ التَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ، وَتَشَعُّبِ الْآرَاءِ، وَكَثْرَةِ الْأَهْوَاءِ. وَكُلُّ مُسْلِمٍ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ لَمْ يَتَلَوَّثْ بِالْآرَاءِ وَالْأَهْوَاءِ الْبِدْعِيَّةِ فَإِنَّهُ يَعْتَمِدُ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ فِي التَّعَامُلِ مَعَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ لِأَنَّهُ مُعَظِّمٌ لِلهِ تَعَالَى، مُطِيعٌ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مُوَقِّرٌ لِلسَّلَفِ الصَّالِحِ. وَمَا كَانَ الْأَئِمَّةُ ابْنُ حَنْبَلٍ وَابْنُ تَيْمِيَّةِ وَابْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ إِلَّا دُعَاةً لِهَذَا المَنْهَجِ الْأَصِيلِ، دَعْوَتُهُمْ كَدَعْوَةِ مَنْ سَبَقُوهُمْ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْأَئِمَّةِ المَتْبُوعِينَ، وَلَمْ يَبْتَدِعُوا شَيْئًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ:
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: «الِاتِّبَاعُ: أَنْ يَتَّبِعَ الرَّجُلُ مَا جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ أَصْحَابِهِ».
وَقَالَ الْإِمَامُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: «وَلَا أَذْكُرُ إلَّا مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا. وَقَدْ قُلْت لَهُمْ غَيْرَ مَرَّةٍ: أَنَا أُمْهِلُ مَنْ يُخَالِفُنِي ثَلَاثَ سِنِينَ، إنْ جَاءَ بِحَرْفٍ وَاحِدٍ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ يُخَالِفُ مَا قُلْتُهُ فَأَنَا أُقِرُّ بِذَلِكَ»اهـ. ثُمَّ يَعْجَزُونَ عَنْ أَنْ يَأْتُوا بِشَيْءٍ.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: «أَدْعُو إِلَى اللهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَدْعُو إِلَى سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي أَوْصَى بِهَا أَوَّلَ أُمَّتِهِ وَآخِرَهُمْ. وَأَرْجُو أَنِّي لَا أَرُدُّ الْحَقَّ إِذَا أَتَانِي؛ بَلْ أُشْهِدُ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ وَجَمِيعَ خَلْقِهِ، إِنْ أَتَانَا مِنْكُمْ كَلِمَةٌ مِنَ الْحَقِّ لَأَقْبَلَنَّهَا عَلَى الرَّأْسِ وَالْعَيْنِ، وَلَأَضْرِبَنَّ الْجِدَارَ بِكُلِّ مَا خَالَفَهَا مِنْ أَقْوَالِ أَئِمَّتِي، حَاشَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُ لَا يَقُولُ إِلَّا الْحَقَّ».
وَهَذَا المَنْهَجُ الَّذِي سَارَ عَلَيْهِ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةُ يُمَثِّلُ حَقِيقَةَ الْإِسْلَامِ وَصَفَاءَهُ وَنَقَاءَهُ، وَهُوَ يَتَمَدَّدُ الْيَوْمَ وَيَنْتَشِرُ فِي الْعَالَمِ الْإِسْلَامِيِّ وَالْعَالَمِ الْغَرْبِيِّ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ مَنِ اقْتَنَعَ بِالْإِسْلَامِ فَإِنَّهُ يُرِيدُ المَنْهَجَ النَّقِيَّ الصَّافِيَ الَّذِي يُوصِلُهُ إِلَى تَعْظِيمِ مَا جَاءَ عَنِ اللهِ تَعَالَى، وَعَنْ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَوْ كَانَ يُرِيدُ الْأَهْوَاءَ وَالْآرَاءَ لَبَقِيَ عَلَى مِلَّتِهِ وَمَذْهَبِهِ.
وَبِسَبَبِ انْتِشَارِ هَذَا المَنْهَجِ الصَّحِيحِ، وَقُوَّةِ أَتْبَاعِهِ فِي الذَّبِّ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَعَجْزِ الْأَعْدَاءِ عَنْ إِعَاقَتِهِ أَوِ احْتِوَائِهِ؛ فَإِنَّ حَرْبًا عَالَمِيَّةً عَسْكَرِيَّةً وَسِيَاسِيَّةً وَفِكْرِيَّةً وَإِعْلَامِيَّةً تُشَنُّ عَلَيْهِ بِلَا هَوَادَةٍ. فَتَصْفِيَةُ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي الشَّامِ وَالْعِرَاقِ وَالْيَمَنِ تَجْرِي عَلَى قَدَمٍ وَسَاقٍ لِمَصْلَحَةِ الصَّفَوِيِّينَ الْبَاطِنِيِّينَ، وَبِتَآمُرٍ دَوْلِيٍّ لَمْ يُسْبَقْ لَهُ مَثِيلٌ. وَمُحَاصَرَةُ دُوَلِ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَالضَّغْطُ السِّيَاسِيُّ عَلَيْهَا لِمُحَارَبَةِ المَنْهَجِ السُّنِّيِّ السَّلَفِيِّ الْأَثَرِيِّ مُسْتَمِرَّةٌ لَا تَتَوَقَّفُ، وَتَزْدَادُ وَلَا تَنْقُصُ. وَالْحَرْبُ الْفِكْرِيَّةُ الْإِعْلَامِيَّةُ عَلَى أَشُدِّهَا لِكُلِّ عَالِمٍ وَدَاعِيَةٍ وَمِنْبَرٍ يَدْعُو النَّاسَ إِلَى مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ المُتَمَثِّلِ فِي الْأَخْذِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِفَهْمِ سَلَفِ الْأُمَّةِ.
لَقَدْ حَاوَلَ الْأَعْدَاءُ إِخْرَاجَ النَّاسِ مِنْ دِينِهِمْ فَعَجَزُوا، ثُمَّ حَاوَلُوا تَحْرِيفَ الْإِسْلَامِ، وَإِعَادَةَ تَفْسِيرِهِ بِمَا يَهْوَوْنَ فَمَا تَبِعَهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْ ذَوِي الْأَهْوَاءِ وَالمَطَامِعِ الدُّنْيَوِيَّةِ، ثُمَّ حَاوَلُوا إِخْرَاجَ النَّاسِ مِنْ مَنْهَجِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ إِلَى أَهْوَائِهِمْ فَلَمْ يَسْتَطِيعُوا، وَهُمُ الْآنَ يُحَاوِلُونَ اخْتِطَافَ هَذَا المُصْطَلَحَ مِمَّنْ يَسْتَحِقُّونَهُ، وَصَرْفَهُ لِمَنْ لَا يَسْتَحِقُّونَهُ، وَلَنْ يُفْلِحُوا؛ لِأَنَّ عَلَى الْحَقِّ نُورًا يَهْدِي النَّاسَ إِلَيْهِ، وَعَلَى الْبَاطِلِ ظُلُمَاتٍ تَصْرِفُ النَّاسَ عَنْهُ.
فَلْنَتَمَسَّكْ بِالْحَقِّ الَّذِي هُدِينَا إِلَيْهِ مَهْمَا كَلَّفَ الْأَمْرُ؛ فَإِنَّ أَهْلَهُ عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ مَنْصُورِينَ، وَلَنْ يَضُرَّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ أَوْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ تَعَالَى وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ {فَاصْبِرْ إِنَّ العَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود: 49] {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} [الرُّوم:60].
اللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَاللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ وَلِلهِ الْحَمْدُ.
وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغِفُر اللهَ لِي وَلَكُمْ...
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ لِلهِ مُسْبِغِ النَّعْمَاءِ، كَاشِفِ الضَّرَّاءِ، دَافِعِ الْبَلَاءِ، يُطَاعُ فَيَشْكُرُ، وَيُعْصَى فَيَغْفِرُ، وَيُعْطِي وَيَمْنَعُ، وَيَرْفَعُ وَيَضَعُ، وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ، نَحْمَدُهُ عَلَى عِيدِنَا، وَكَمَالِ دِينِنَا، وَتَمَامِ نِعْمَتِنَا، وَرُسُوخِ أَمْنِنَا، وَاجْتِمَاعِ أَمْرِنَا، وَرَغَدِ عَيْشِنَا، وَنَسْأَلُهُ المَزِيدَ مِنْ فَضْلِهِ، وَالثَّبَاتَ عَلَى دِينِهِ، وَالتَّمَسُّكَ بِحَبْلِهِ؛ فَإِنَّ حَبْلَهُ مَتِينٌ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ كَبَّرَهُ أَهْلُ الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى، وَأَعْرَضَ عَنْهُ أَهْلُ الْهَوَى وَالرَّدَى، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَمِينُهُ عَلَى وَحْيِهِ، وَخِيرَتُهُ مِنْ خَلْقِهِ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
اللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَاللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ وَلِلهِ الْحَمْدُ.
أَيَّتُهَا النِّسَاءُ المُسْلِمَاتُ: إِنَّ التَّمَسُّكَ بِالمَنْهَجِ الْحَقِّ، وَالدَّعْوَةَ إِلَيْهِ، وَالذَّبَّ عَنْهُ، لَيْسَ لِلرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ، بَلْ هُوَ عَامٌّ لِلْجَمِيعِ، وَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ} [التوبة: 71] وَأَعْظَمُ المَعْرُوفِ مَنْهَجُ اللهِ تَعَالَى الَّذِي ارْتَضَاهُ شِرْعَةً لِعِبَادِهِ، وَيُرِيدُ الْأَعْدَاءُ تَشْوِيهَهُ وَتَحْرِيفَهُ وَإِخْرَاجَ أَهْلِهِ مِنْهُ، وَصَدَّ النَّاسِ عَنْهُ.
فَوَاجِبٌ عَلَى المَرْأَةِ المُسْلِمَةِ أَنْ تُرَبِّيَ نَشْأَهَا مِنْ بَنِينَ وَبَنَاتٍ عَلَيْهِ، وَأَنْ تَغْرِسَ فِي قُلُوبِهِمْ تَعْظِيمَ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَالْعَمَلَ بِهَا، وَالدَّعْوَةَ إِلَيْهَا، وَتَقْدِيمَهَا عَلَى أَهْوَاءِ النَّاسِ وَأَقْوَالِهِمْ؛ فَإِنَّ زَيْغَ الْقُلُوبِ وَانْحِرَافَهَا يَنْشَأُ بِالزُّهْدِ فِي النُّصُوصِ الْقُرْآنِيَّةِ وَالنَّبَوِيَّةِ، حَتَّى تَتَخَطَّفَ صَاحِبَهُ الْآرَاءُ، وَتَتَجَارَى بِهِ الْأَهْوَاءُ، فَيَضِلُّ بَعْدَ الْهُدَى، وَيَرْكَبُ طَرِيقَ الرَّدَى. وَمَا نَالَ الْأَعْدَاءُ مِنَ الْأُمَّةِ أَكْثَرَ مِنْ نَيْلِهِمْ مِنْ شَبَابِهَا وَفَتَيَاتِهَا حِينَ زَيَّنُوا لَهُمُ التَّمَرُّدَ عَلَى الشَّرَائِعِ الرَّبَّانِيَّةِ، وَالتَّفَلُّتَ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَأَلْقَوْا بَعْضَهُمْ فِي دَيَاجِيرِ الشَّكِّ وَالْحَيْرَةِ وَالْقَلَقِ وَالِاضْطِرَابِ.
فَاللهَ اللهَ يَا إِمَاءَ اللهِ فِي بَنَاتِكُنَّ وَأَبْنَائِكُنَّ. ازْرَعُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ، وَتَعَاهَدُوهُ بِالزِّيَادَةِ وَالنَّمَاءِ، وَعَلِّمُوهُمُ الْقُرْآنَ؛ فَإِنَّهُ هُدًى وَنُورٌ، وَرَبُّوهُمْ عَلَى تَعْظِيمِ شَرِيعَةِ اللهِ تَعَالَى؛ فَإِنَّ تَعْظِيمَهَا مِنْ تَعْظِيمِهِ سُبْحَانَهُ.
اللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَاللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ وَلِلهِ الْحَمْدُ.
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: تَخْرُجُونَ الْآنَ مِنْ مُصَلَّاكُمْ وَقَدْ أَدَّيْتُمْ هَذِهِ الشَّعِيرَةَ الْعَظِيمَةَ، فَاذْبَحُوا أَضَاحِيَكُمْ، وَكُلُوا مِنْهَا، وَأَهْدُوا وَتَصَدَّقُوا وَادَّخِرُوا، وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَصِلُوا الْأَرْحَامَ، وَلْتَسْلَمْ قُلُوبُكُمْ عَلَى إِخْوَانِكُمْ، وَاجْتَنِبُوا المُنْكَرَاتِ، وَتَنَاهَوْا عَنِ الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْأَيَّامَ أَيَّامُ التَّكْبِيرِ وَالذِّكْرِ وَالشُّكْرِ، فَلَا تَنْتَهِكُوهَا بِمَا حَرَّمَ اللهُ تَعَالَى. وَيَسْتَمِرُّ ذَبْحُ الْأَضَاحِي إِلَى غُرُوبِ شَمْسِ الْيَوْمِ الثَّالِثَ عَشَرَ، آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ الَّتِي يَحْرُمُ صِيَامُهَا بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرٍ لِلَّهِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَتَذَكَّرُوا إِخْوَانَكُمُ المُسْتَضْعَفِينَ المُضْطَهَدِينَ فِي دِينِهِمْ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فِي الشَّامِ وَالْعِرَاقِ وَالْيَمَنِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْبِلَادِ الَّتِي تَسَلَّطَ عَلَيْهَا الْأَعْدَاءُ. أَحِسُّوا بِمُعَانَاتِهِمْ، وَأَلِحُّوا بِالدُّعَاءِ لَهُمْ؛ عَسَى اللهُ تَعَالَى أَنْ يَكْشِفَ كَرْبَهُمْ، وَيَكْبِتَ أَعْدَاءَهُمْ {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ} [آل عمران: 126].
أَعَادَهُ اللهُ عَلَيْنَا وَعَلَيْكُمْ وَعَلَى المُسْلِمِينَ بِالْيُمْنِ وَالْإِيمَانِ، وَالسَّلَامَةِ وَالْإِسْلَامِ، وَتَقَبَّلَ اللهُ مِنَّا وَمِنْكُمْ صَالِحَ الْأَعْمَالِ.
{إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56].
أهل السنة والجماعة.. من هم؟!
10/12/1437
الْحَمْدُ لِلهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ؛ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، وَخَالِقِ الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ. وَالْحَمْدُ لِلهِ الْكَبِيرِ المُتَعَالِ، عَزِيزٌ لَا يُرَامُ، وَمَلِكٌ لَا يُضَامُ، وَقَيُّومٌ لَا يَنَامُ، بِيَدِهِ مَعَاقِدُ الْعِزِّ، وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ، وَلَا أَحَدَ مِنْ دُونِهِ يَمْلِكُ النَّفْعَ وَالضُّرَّ.
{الحَمْدُ لِلهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ} [الإسراء: 111] وَاللهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا.
اللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَاللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ وَلِلهِ الْحَمْدُ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ وَفَّقَ مَنْ شَاءَ لِطَاعَتِهِ فَكَانَ عَمَلُهُمْ مَبْرُورًا، وَسَعْيُهُمْ مَشْكُورًا، وَصَرَفَ أَهْلَ الشِّقْوَةِ عَنْ طَرِيقِهِ فَكَانُوا قَوْمًا بُورًا، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ وَقَفَ فِي المَشَاعِرِ، وَعَظَّمَ الشَّعَائِرَ، وَخَطَبَ النَّاسَ فَعَظَّمَ الْحُرُمَاتِ، وَنَهَى عَنِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَأَمَرَ بِالطَّاعَاتِ، وَأَشْهَدَ الْحُجَّاجَ عَلَى بَلَاغِهِ فَشَهِدُوا، فَأَشْهَدَ اللهَ تَعَالَى عَلَى شَهَادَتِهِمْ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
اللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَاللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ وَللهِ الْحَمْدُ.
أَمَّا بَعْدُ: فَأُوصِيكُمْ -أَيُّهَا النَّاسُ- وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى فِي السِّرِّ وَالْعَلَنِ؛ فَإِنَّ فِي التَّقْوَى عَوْنًا عَلَى الْمِحَنِ، وَمَخْرَجًا مِنَ الْفِتَنِ، وَصَبْرًا عَلَى الْعُسْرِ، وَشُكْرًا فِي الْيُسْرِ {وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطَّلاق: 2-3].
أَيُّهَا النَّاسُ: وَقَفَ إِخْوَانُكُمْ بِالْأَمْسِ فِي عَرَفَاتٍ، وَرَفَعُوا إِلَى اللهِ تَعَالَى الدَّعَوَاتِ، وَرَجَوْا مِنْهُ المَغْفِرَةَ وَالرَّحَمَاتِ، فَلَانَتْ بِذِكْرِهِ سُبْحَانَهُ قُلُوبُهُمْ، وَسَحَّتْ لِرَجَائِهِ دُمُوعُهُمْ، وَاشْتَاقَتْ لِبَرْدِ عَفْوِهِ نُفُوسُهُمْ، فَيَا لِلَّهِ الْعَظِيمِ! كَمْ مِنْ دَعَوَاتٍ بِالْأَمْسِ أُجِيبَتْ؟! وَكَمْ مِنْ رِقَابٍ مِنَ النَّارِ أُعْتِقَتْ؟! وَكَمْ مِنْ أَوْزَارٍ وَذُنُوبٍ حُطَّتْ؟! فَاللَّهُمَّ اقْبَلْ دُعَاءَ الدَّاعِينَ، وَأَعْطِ السَّائِلِينَ، وَتُبْ عَلَى التَّائِبِينَ، يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.
وَلَمَّا غَرَبَتْ عَلَيْهِمُ الشَّمْسُ سَارُوا مُلَبِّينَ مُكَبِّرِينَ إِلَى مُزْدَلِفَةَ فِي جُمُوعٍ تَتَسَابَقُ إِلَى الطَّاعَاتِ، وَتُنَافِسُ فِي الْخَيْرَاتِ. وَبَاتُوا لَيْلَتَهُمْ فِيهَا، فَلَمَّا أَصْبَحُوا ذَكَرُوا اللهَ تَعَالَى عِنْدَ المَشْعَرِ الْحَرَامِ حَتَّى أَسْفَرُوا، ثُمَّ سَارُوا مُلَبِّينَ إِلَى مِنًى لِرَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، وَلِيَذْبَحُوا هَدْيَهُمْ، وَيَحْلِقُوا رُؤُوسَهُمْ، وَيُحِلُّوا إِحْرَامَهُمْ، وَيَطُوفُوا لِحَجِّهِمْ، وَيَبِيتُوا لَيَالِيَ التَّشْرِيقِ بِمِنًى، لِيَرْمُوا الْجَمَرَاتِ وَيُكَبِّرُوا وَيَدْعُوا، ثُمَّ يُوَدِّعُوا الْبَيْتَ بِالطَّوَافِ، وَيَعُودُوا إِلَى أَوْطَانِهِمْ وَقَدْ أَتَمُّوا مَنَاسِكَهُمْ، وَأَمْضَوْا أَفْضَلَ الْأَيَّامِ فِي أَعْظَمِ الطَّاعَاتِ؛ فَلِلَّهِ الْحَمْدُ؛ عَلَّمَنَا مَنَاسِكَنَا، وَهَدَانَا لِشَرِيعَتِنَا، وَأَعَانَنَا عَلَى الْتِزَامِهَا، وَنَسْأَلُهُ تَعَالَى الثَّبَاتَ عَلَى دِينِنَا إِلَى أَنْ نَلْقَاهُ.
اللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَاللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ وَلِلهِ الْحَمْدُ.
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: حِينَ بَعَثَ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ بِهِ قُلُوبَ الْعَرَبِ بَعْدَ شَتَاتِهَا، وَأَزَالَ بِهِ تَفَرُّقَهَا وَاخْتِلَافَهَا، وَرَفَعَ بِهِ ذُلَّهَا وَهَوَانَهَا {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} [الأنفال: 63]. ثُمَّ وَقَعَ الِاخْتِلَافُ الْأَوَّلُ بِظُهُورِ الْخَوَارِجِ وَقَتْلِهِمْ عُثْمَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ظُلْمًا وَعُدْوَانًا، فَسُلَّتِ السُّيُوفُ وَلَمْ تُغْمَدْ، وَسُفِكَتِ الدِّمَاءُ وَلَمْ تُحْقَنْ، وَتَفَرَّقَتِ الْقُلُوبُ وَلَمْ تَجْتَمِعْ.
ثُمَّ ظَهَرَتْ بِدَعُ الْبَاطِنِيَّةِ فِي أَوَاخِرِ الْخِلَافَةِ الرَّاشِدَةِ فَزَادَتِ الِاخْتِلَافَ وَالتَّفَرُّقَ. ثُمَّ ظَهَرَتْ بِدْعَةُ أَهْلِ الْكَلَامِ الَّذِينَ أَدْخَلُوا فَلْسَفَاتِ الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ عَلَى عَقَائِدِ المُسْلِمِينَ، وَخَلَطُوهَا بِهَا، وَحَاكَمُوا نُصُوصَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إِلَيْهَا. فَاضْطُرَّ أَهْلُ الْحَقِّ مِنْ عُلَمَاءِ الْإِسْلَاِم إِلَى تَمْيِيزِ أَهْلِ الْبِدَعِ عَنْ غَيْرِهِمْ، بِالِانْتِسَابِ إِلَى السُّنَّةِ، فَظَهَرَ مُصْطَلَحُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، نِسْبَةً إِلَى الْأَخْذِ بِالسُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ، وَاعْتِمَادِ فَهْمِ الصَّحَابَةِ لِنُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ لِأَنَّهُ الْفَهْمُ النَّقِيُّ الصَّافِي قَبْلَ إِدْخَالِ أَهْلِ الْبِدَعِ بِدَعَهُمْ عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ. فَصَارَ وَصْفُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ يَتَنَاوَلُ مَنْ عَظَّمَ نُصُوصَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَاعْتَمَدَ فِيهَا عَلَى فَهْمِ سَلَفِ الْأُمَّةِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَالْأَئِمَّةِ المَتْبُوعِينَ، وَلَمْ يَمْسَخْهَا بِتَحْرِيفٍ أَوْ تَأْوِيلٍ؛ وَذَلِكَ أَخْذًا بِوَصِيَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ حِينَ قَالَ: «أُوصِيكُمْ بِأَصْحَابِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَفْشُو الكَذِبُ حَتَّى يَحْلِفَ الرَّجُلُ وَلَا يُسْتَحْلَفُ، وَيَشْهَدَ الشَّاهِدُ وَلَا يُسْتَشْهَدُ...» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ.
وَيُطْلَقُ عَلَيْهِمْ أَهْلَ الْحَدِيثِ وَالْأَثَرِ؛ لِتَعْظِيمِهِمْ حَدِيثَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَخْذِهِمْ بِهِ، وَتَقْدِيمِهِ عَلَى أَهْوَاءِ الرِّجَالِ وَآرَائِهِمْ.
كَمَا يُوصَفُونَ بِأَنَّهُمْ أَتْبَاعُ السَّلَفِ الصَّالِحِ؛ وَلِذَا يُقَالُ لَهُمُ السَّلَفِيُّونَ وَالْأَثَرِيُّونَ، وَهُمُ الْفِرْقَةُ النَّاجِيَةُ المَذْكُورَةُ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ تَفَرَّقَتْ إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، فَهَلَكَتْ سَبْعُونَ فِرْقَةً، وَخَلَصَتْ فِرْقَةٌ وَاحِدَةٌ، وَإِنَّ أُمَّتِي سَتَفْتَرِقُ عَلَى اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، تَهْلِكُ إِحْدَى وَسَبْعُونَ فِرْقَةً، وَتَخْلُصُ فِرْقَةٌ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، مَنْ تِلْكَ الْفِرْقَةُ؟ قَالَ: «الْجَمَاعَةُ الْجَمَاعَةُ» رَوَاهُ أَحْمَدُ. وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: فَقِيلَ لَهُ: مَا الْوَاحِدَةُ؟ قَالَ: «مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَأَصْحَابِي».
فَلَا فَرْقَ أَنْ يُقَالَ: أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، أَوِ السَّلَفِيُّونَ، أَوِ الْأَثَرِيُّونَ، أَوِ الْفِرْقَةُ النَّاجِيَةُ، فَكُلُّهَا أَوْصَافٌ تَعُودُ لِمُسَمًّى وَاحِدٍ، يَعْتَمِدُ أَصْحَابَهُ نُصُوصَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِفَهْمِ سَلَفِ الْأُمَّةِ. وَهُوَ مَا يُمَثِّلُ حَقِيقَةَ الْإِسْلَامِ عِنْدَ التَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ، وَتَشَعُّبِ الْآرَاءِ، وَكَثْرَةِ الْأَهْوَاءِ. وَكُلُّ مُسْلِمٍ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ لَمْ يَتَلَوَّثْ بِالْآرَاءِ وَالْأَهْوَاءِ الْبِدْعِيَّةِ فَإِنَّهُ يَعْتَمِدُ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ فِي التَّعَامُلِ مَعَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ لِأَنَّهُ مُعَظِّمٌ لِلهِ تَعَالَى، مُطِيعٌ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مُوَقِّرٌ لِلسَّلَفِ الصَّالِحِ. وَمَا كَانَ الْأَئِمَّةُ ابْنُ حَنْبَلٍ وَابْنُ تَيْمِيَّةِ وَابْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ إِلَّا دُعَاةً لِهَذَا المَنْهَجِ الْأَصِيلِ، دَعْوَتُهُمْ كَدَعْوَةِ مَنْ سَبَقُوهُمْ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْأَئِمَّةِ المَتْبُوعِينَ، وَلَمْ يَبْتَدِعُوا شَيْئًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ:
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: «الِاتِّبَاعُ: أَنْ يَتَّبِعَ الرَّجُلُ مَا جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ أَصْحَابِهِ».
وَقَالَ الْإِمَامُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: «وَلَا أَذْكُرُ إلَّا مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا. وَقَدْ قُلْت لَهُمْ غَيْرَ مَرَّةٍ: أَنَا أُمْهِلُ مَنْ يُخَالِفُنِي ثَلَاثَ سِنِينَ، إنْ جَاءَ بِحَرْفٍ وَاحِدٍ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ يُخَالِفُ مَا قُلْتُهُ فَأَنَا أُقِرُّ بِذَلِكَ»اهـ. ثُمَّ يَعْجَزُونَ عَنْ أَنْ يَأْتُوا بِشَيْءٍ.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: «أَدْعُو إِلَى اللهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَدْعُو إِلَى سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي أَوْصَى بِهَا أَوَّلَ أُمَّتِهِ وَآخِرَهُمْ. وَأَرْجُو أَنِّي لَا أَرُدُّ الْحَقَّ إِذَا أَتَانِي؛ بَلْ أُشْهِدُ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ وَجَمِيعَ خَلْقِهِ، إِنْ أَتَانَا مِنْكُمْ كَلِمَةٌ مِنَ الْحَقِّ لَأَقْبَلَنَّهَا عَلَى الرَّأْسِ وَالْعَيْنِ، وَلَأَضْرِبَنَّ الْجِدَارَ بِكُلِّ مَا خَالَفَهَا مِنْ أَقْوَالِ أَئِمَّتِي، حَاشَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُ لَا يَقُولُ إِلَّا الْحَقَّ».
وَهَذَا المَنْهَجُ الَّذِي سَارَ عَلَيْهِ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةُ يُمَثِّلُ حَقِيقَةَ الْإِسْلَامِ وَصَفَاءَهُ وَنَقَاءَهُ، وَهُوَ يَتَمَدَّدُ الْيَوْمَ وَيَنْتَشِرُ فِي الْعَالَمِ الْإِسْلَامِيِّ وَالْعَالَمِ الْغَرْبِيِّ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ مَنِ اقْتَنَعَ بِالْإِسْلَامِ فَإِنَّهُ يُرِيدُ المَنْهَجَ النَّقِيَّ الصَّافِيَ الَّذِي يُوصِلُهُ إِلَى تَعْظِيمِ مَا جَاءَ عَنِ اللهِ تَعَالَى، وَعَنْ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَوْ كَانَ يُرِيدُ الْأَهْوَاءَ وَالْآرَاءَ لَبَقِيَ عَلَى مِلَّتِهِ وَمَذْهَبِهِ.
وَبِسَبَبِ انْتِشَارِ هَذَا المَنْهَجِ الصَّحِيحِ، وَقُوَّةِ أَتْبَاعِهِ فِي الذَّبِّ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَعَجْزِ الْأَعْدَاءِ عَنْ إِعَاقَتِهِ أَوِ احْتِوَائِهِ؛ فَإِنَّ حَرْبًا عَالَمِيَّةً عَسْكَرِيَّةً وَسِيَاسِيَّةً وَفِكْرِيَّةً وَإِعْلَامِيَّةً تُشَنُّ عَلَيْهِ بِلَا هَوَادَةٍ. فَتَصْفِيَةُ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي الشَّامِ وَالْعِرَاقِ وَالْيَمَنِ تَجْرِي عَلَى قَدَمٍ وَسَاقٍ لِمَصْلَحَةِ الصَّفَوِيِّينَ الْبَاطِنِيِّينَ، وَبِتَآمُرٍ دَوْلِيٍّ لَمْ يُسْبَقْ لَهُ مَثِيلٌ. وَمُحَاصَرَةُ دُوَلِ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَالضَّغْطُ السِّيَاسِيُّ عَلَيْهَا لِمُحَارَبَةِ المَنْهَجِ السُّنِّيِّ السَّلَفِيِّ الْأَثَرِيِّ مُسْتَمِرَّةٌ لَا تَتَوَقَّفُ، وَتَزْدَادُ وَلَا تَنْقُصُ. وَالْحَرْبُ الْفِكْرِيَّةُ الْإِعْلَامِيَّةُ عَلَى أَشُدِّهَا لِكُلِّ عَالِمٍ وَدَاعِيَةٍ وَمِنْبَرٍ يَدْعُو النَّاسَ إِلَى مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ المُتَمَثِّلِ فِي الْأَخْذِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِفَهْمِ سَلَفِ الْأُمَّةِ.
لَقَدْ حَاوَلَ الْأَعْدَاءُ إِخْرَاجَ النَّاسِ مِنْ دِينِهِمْ فَعَجَزُوا، ثُمَّ حَاوَلُوا تَحْرِيفَ الْإِسْلَامِ، وَإِعَادَةَ تَفْسِيرِهِ بِمَا يَهْوَوْنَ فَمَا تَبِعَهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْ ذَوِي الْأَهْوَاءِ وَالمَطَامِعِ الدُّنْيَوِيَّةِ، ثُمَّ حَاوَلُوا إِخْرَاجَ النَّاسِ مِنْ مَنْهَجِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ إِلَى أَهْوَائِهِمْ فَلَمْ يَسْتَطِيعُوا، وَهُمُ الْآنَ يُحَاوِلُونَ اخْتِطَافَ هَذَا المُصْطَلَحَ مِمَّنْ يَسْتَحِقُّونَهُ، وَصَرْفَهُ لِمَنْ لَا يَسْتَحِقُّونَهُ، وَلَنْ يُفْلِحُوا؛ لِأَنَّ عَلَى الْحَقِّ نُورًا يَهْدِي النَّاسَ إِلَيْهِ، وَعَلَى الْبَاطِلِ ظُلُمَاتٍ تَصْرِفُ النَّاسَ عَنْهُ.
فَلْنَتَمَسَّكْ بِالْحَقِّ الَّذِي هُدِينَا إِلَيْهِ مَهْمَا كَلَّفَ الْأَمْرُ؛ فَإِنَّ أَهْلَهُ عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ مَنْصُورِينَ، وَلَنْ يَضُرَّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ أَوْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ تَعَالَى وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ {فَاصْبِرْ إِنَّ العَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود: 49] {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} [الرُّوم:60].
اللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَاللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ وَلِلهِ الْحَمْدُ.
وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغِفُر اللهَ لِي وَلَكُمْ...
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ لِلهِ مُسْبِغِ النَّعْمَاءِ، كَاشِفِ الضَّرَّاءِ، دَافِعِ الْبَلَاءِ، يُطَاعُ فَيَشْكُرُ، وَيُعْصَى فَيَغْفِرُ، وَيُعْطِي وَيَمْنَعُ، وَيَرْفَعُ وَيَضَعُ، وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ، نَحْمَدُهُ عَلَى عِيدِنَا، وَكَمَالِ دِينِنَا، وَتَمَامِ نِعْمَتِنَا، وَرُسُوخِ أَمْنِنَا، وَاجْتِمَاعِ أَمْرِنَا، وَرَغَدِ عَيْشِنَا، وَنَسْأَلُهُ المَزِيدَ مِنْ فَضْلِهِ، وَالثَّبَاتَ عَلَى دِينِهِ، وَالتَّمَسُّكَ بِحَبْلِهِ؛ فَإِنَّ حَبْلَهُ مَتِينٌ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ كَبَّرَهُ أَهْلُ الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى، وَأَعْرَضَ عَنْهُ أَهْلُ الْهَوَى وَالرَّدَى، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَمِينُهُ عَلَى وَحْيِهِ، وَخِيرَتُهُ مِنْ خَلْقِهِ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
اللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَاللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ وَلِلهِ الْحَمْدُ.
أَيَّتُهَا النِّسَاءُ المُسْلِمَاتُ: إِنَّ التَّمَسُّكَ بِالمَنْهَجِ الْحَقِّ، وَالدَّعْوَةَ إِلَيْهِ، وَالذَّبَّ عَنْهُ، لَيْسَ لِلرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ، بَلْ هُوَ عَامٌّ لِلْجَمِيعِ، وَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ} [التوبة: 71] وَأَعْظَمُ المَعْرُوفِ مَنْهَجُ اللهِ تَعَالَى الَّذِي ارْتَضَاهُ شِرْعَةً لِعِبَادِهِ، وَيُرِيدُ الْأَعْدَاءُ تَشْوِيهَهُ وَتَحْرِيفَهُ وَإِخْرَاجَ أَهْلِهِ مِنْهُ، وَصَدَّ النَّاسِ عَنْهُ.
فَوَاجِبٌ عَلَى المَرْأَةِ المُسْلِمَةِ أَنْ تُرَبِّيَ نَشْأَهَا مِنْ بَنِينَ وَبَنَاتٍ عَلَيْهِ، وَأَنْ تَغْرِسَ فِي قُلُوبِهِمْ تَعْظِيمَ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَالْعَمَلَ بِهَا، وَالدَّعْوَةَ إِلَيْهَا، وَتَقْدِيمَهَا عَلَى أَهْوَاءِ النَّاسِ وَأَقْوَالِهِمْ؛ فَإِنَّ زَيْغَ الْقُلُوبِ وَانْحِرَافَهَا يَنْشَأُ بِالزُّهْدِ فِي النُّصُوصِ الْقُرْآنِيَّةِ وَالنَّبَوِيَّةِ، حَتَّى تَتَخَطَّفَ صَاحِبَهُ الْآرَاءُ، وَتَتَجَارَى بِهِ الْأَهْوَاءُ، فَيَضِلُّ بَعْدَ الْهُدَى، وَيَرْكَبُ طَرِيقَ الرَّدَى. وَمَا نَالَ الْأَعْدَاءُ مِنَ الْأُمَّةِ أَكْثَرَ مِنْ نَيْلِهِمْ مِنْ شَبَابِهَا وَفَتَيَاتِهَا حِينَ زَيَّنُوا لَهُمُ التَّمَرُّدَ عَلَى الشَّرَائِعِ الرَّبَّانِيَّةِ، وَالتَّفَلُّتَ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَأَلْقَوْا بَعْضَهُمْ فِي دَيَاجِيرِ الشَّكِّ وَالْحَيْرَةِ وَالْقَلَقِ وَالِاضْطِرَابِ.
فَاللهَ اللهَ يَا إِمَاءَ اللهِ فِي بَنَاتِكُنَّ وَأَبْنَائِكُنَّ. ازْرَعُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ، وَتَعَاهَدُوهُ بِالزِّيَادَةِ وَالنَّمَاءِ، وَعَلِّمُوهُمُ الْقُرْآنَ؛ فَإِنَّهُ هُدًى وَنُورٌ، وَرَبُّوهُمْ عَلَى تَعْظِيمِ شَرِيعَةِ اللهِ تَعَالَى؛ فَإِنَّ تَعْظِيمَهَا مِنْ تَعْظِيمِهِ سُبْحَانَهُ.
اللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَاللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ وَلِلهِ الْحَمْدُ.
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: تَخْرُجُونَ الْآنَ مِنْ مُصَلَّاكُمْ وَقَدْ أَدَّيْتُمْ هَذِهِ الشَّعِيرَةَ الْعَظِيمَةَ، فَاذْبَحُوا أَضَاحِيَكُمْ، وَكُلُوا مِنْهَا، وَأَهْدُوا وَتَصَدَّقُوا وَادَّخِرُوا، وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَصِلُوا الْأَرْحَامَ، وَلْتَسْلَمْ قُلُوبُكُمْ عَلَى إِخْوَانِكُمْ، وَاجْتَنِبُوا المُنْكَرَاتِ، وَتَنَاهَوْا عَنِ الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْأَيَّامَ أَيَّامُ التَّكْبِيرِ وَالذِّكْرِ وَالشُّكْرِ، فَلَا تَنْتَهِكُوهَا بِمَا حَرَّمَ اللهُ تَعَالَى. وَيَسْتَمِرُّ ذَبْحُ الْأَضَاحِي إِلَى غُرُوبِ شَمْسِ الْيَوْمِ الثَّالِثَ عَشَرَ، آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ الَّتِي يَحْرُمُ صِيَامُهَا بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرٍ لِلَّهِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَتَذَكَّرُوا إِخْوَانَكُمُ المُسْتَضْعَفِينَ المُضْطَهَدِينَ فِي دِينِهِمْ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فِي الشَّامِ وَالْعِرَاقِ وَالْيَمَنِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْبِلَادِ الَّتِي تَسَلَّطَ عَلَيْهَا الْأَعْدَاءُ. أَحِسُّوا بِمُعَانَاتِهِمْ، وَأَلِحُّوا بِالدُّعَاءِ لَهُمْ؛ عَسَى اللهُ تَعَالَى أَنْ يَكْشِفَ كَرْبَهُمْ، وَيَكْبِتَ أَعْدَاءَهُمْ {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ} [آل عمران: 126].
أَعَادَهُ اللهُ عَلَيْنَا وَعَلَيْكُمْ وَعَلَى المُسْلِمِينَ بِالْيُمْنِ وَالْإِيمَانِ، وَالسَّلَامَةِ وَالْإِسْلَامِ، وَتَقَبَّلَ اللهُ مِنَّا وَمِنْكُمْ صَالِحَ الْأَعْمَالِ.
{إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56].
المرفقات
خطبة عيد الأضحى المبارك.doc
خطبة عيد الأضحى المبارك.doc
خطبة عيد الأضحى المبارك-مشكولة.doc
خطبة عيد الأضحى المبارك-مشكولة.doc
المشاهدات 3425 | التعليقات 5
جزاك الله خيرا شيخنا إبراهيم.
أحث إخواني الخطباء إن لم يستفيدوا من هذه الخطبة أن يتطرقوا لموضوعها على الأقل.
جزاك الله خيرا وبارك فيك ولك شيخ إبراهيم.. كانت خطبتي اليوم ضاعف الله أجركم
ورفع قدرك
وأجزل مثوبتك
شكر الله تعالى لكم أجمعين وتقبل دعواتكم
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
تعديل التعليق