خطبة عن غزوة الأحزاب والمتحزبون ضد الإسلام وأهله في واقعنا

إن الحمدلله نحمده ونستعينه ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لاإله إلا الله وحده لاشريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً وفتح الله به أعيناً عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غُلفاً فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسِانٍ إلى يوم الدين أما بعد : فاتقوا الله - عباد الله - ( ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تُقاته ولاتموتن إلا وأنتم مسلمون )( ياأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفسٍ واحدة وخلق منها زوجها وبثّ منهما رجالاً كثيراً ونساءا واتقوا الله الذي تساءلون به والأحام إن الله كان عليكم رقيبا ) . واعلموا أن خير الحديث كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشرّ الأمور محدثاتها وكل محدثة في دين الله بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار وعليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة ومن شذّ شذّ في النار . عباد الله : ليكن دائماً في يقين المسلم وضميره أنه مهما تكالب أعداء الإسلام على هذه الأمة فالعاقبة لها ، والسوء على أعدائها ، فهذا وعدٌ من الله لايُخلف مهما طال الزمان ، ولكن قبل ذلك تمحيصٌ وبذل وابتلاء ( وعدَ الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنّهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليُمكننّ لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدّلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لايُشركون بي شيئاً ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون )  . عباد الله : لو رجعنا إلى سيرة المصطفى وأصحابه لوجدنا أن في غزوة الأحزاب وما جرى فيها من أحداث سلوة وعِبرة للمؤمنين ، حيث تكالب الأعداء من كل حدبٍ وصوب ، لاجتثاث أهل الإسلام وقتلهم - وأنّى لهم ذلك - وكان ذلك في السنة الخامسة من الهجرة ، وكان سبب ذلك أن عشرين رجلاً من اليهود من بني قُريظة وبني النضير خرجوا يُألبون القبائل على المسلمين لمّا أجلى النبي صلى الله عليه وسلم كثيرٌ منهم إلى خيبر - وهذه عادة اليهود في كل عصر وزمن - فهم حربٌ على الإسلام وأهله ، فبدأوا بقريش وكنانة وما جاورها من أهل تُهامة وكذلك غطفان وبني أشجع وبني مرّة وبني أسد وبني سُليم وبني فزارة فتجمّع لغزو المدينة قُرابَة عشرة آلاف مُقاتل ، فما أن سمع النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ، استشار أصحابَه عليه الصلاة والسلام ، فأشار الصحابي الجليل المسدّد سلمان الفارسي بحفر خندقٍ حول المدينة حماية لأهلها في ظاهرة لم تعرفْها العرب من قبل ، وقال : " يارسول الله إنا إذا كُنّا بأرض فارس وتخوّفنا الخيل ، خندقنا علينا ، فهل لك - يارسول الله - أن تُخندق " فأُعجب النبي صلى الله عليه وسلم برأيه ، وبدؤا بحفر الخندق الذي طوله خمسة آلاف ذراع وعرضُه تسعة أذرع وعُمقه من سبعة أذرُع إلى عشرة وكان من الجهة الشمالية من المدينة فيما بين الحرتين واقم والوبرة ، وكان لكل عشرة من الصحابة أربعين ذراعاً ، فحفروه في ليالي شاتية يبتدرون القوم لئلا يباغتوهم وهم غُفل ، فتمّ حفره وبلغ بهم من الجهد والجوع والنصب مبلغاً عظيماً ، والنبي صلى الله عليه وسلم يشدّ من أزرهم ويسليهم ويعدهم بالعاقبة الحميدة وكان يقول : " اللهم لاعيش إلا عيشُ الآخرة * فاغفر للأنصار والمُهاجرة " .  ويجيبون قائلين : " نحنُ الذين بايعوا محمداً * على الجهاد مابقينا أبدا " وذات مرّة حينما كانوا يحفُرون اعترضتهم صخرة عظيمة لاتأخذ فيها المعاول فشكوا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فأخذ المعول وقال : " باسم الله " فضربها ضربة حتى كسرَ ثُلُثَها ، وقال : " الله أكبر أُعطيت مفاتيح الشام ، والله إني لأبصر قصورها الحُمر الساعة " ثم ضربها ثانية فكسرَ ثُلُثَها وقال : " الله أكبر ، أُعطيت مفاتيح فارس ، والله إني لأبصر قصر المدائن الأبيض " ، ثم ضربها ثالثة فكسرَ ثُلُثَها وقال : " الله أكبر ، أعطيت مفاتيح اليمن ، والله لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا " . عباد الله : لمّا أقبل المشركون ورأوا الخندق المحفور احتاروا واندهشوا ولم يسنّى لهم اقتحام المدينة ، ومكثوا يحاصرونها شهراً ، وجرى خلال ذلك محاولات من بعضهم لاقتحام الخندق فمنهم من قُتل لمّا نجح في اقتحامه ، ومنهم من فرّ بعد اقتحامه ناكصاً إلى معسكره ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد جمع النساء والصبيان  وصارت بين بعضهم وبين المصطفى عليه الصلاة والسلام مفاوضات على ترك الحرب والرجوع إلى بلادهم ، فعرض النبي صلى الله عليه وسلم ثلث تمر المدينة على غطفان فقبلوا ، ولكنه لما استشار السعدين ، سعد بن معاذ وسعد بن عُبادة وهما سيدا الأنصار رفضا ، وقالا : يارسول الله ، إن كان الله أمرك بهذا فسمعاً وطاعة ، وإن كان شيء تصنعُه لنا فلا حاجة لنا فيه ، لقد كُنّا وهؤلاء القوم على الشرك بالله عبادة الأوثان ، وهم لايطمعون أن يأكلوا منها ثمرة إلا قِرىً - أي ضيافة - أو بيعاً ، فحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزنا بك نُعطيهم أموالنا ؟ والله لانُعطيهم إلا السيف ، فصوّب رأيَهما ، وقال : " إنَّما هو شيء أصنعه لكم ؛ لما رأيت العرب قد رمتكم عن قوسٍ واحدة "  . عباد الله : كان للمنافقين دورٌ مُحبط ومكرٌ خبيث يمكرون به يريدون أن يهدموا معنويات المؤمنين ، وكان مما قالوا " محمد يعدُنا أن نأكل من كنوز كسرى وقيصر وأحدُنا اليوم لايأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط ، وقال بعضٌ منهم لقوله : " لامقام لكم فارجعوا " وقال آخرون لقومهم : " إن بيوتنا عورةٌ وماهي بعورة " أي خالية فلا يوجد من يحمي النساء والأطفال وهم كاذبون يريدون الهرب والفرار وكذلك كيدهم في كل معضلة تكون وحرب على الإسلام ، ولمّا طال الحصار وبلغ الخوف والرعب بالمسلمين مبلغاً عظيماً ، وأراد الله لهذا الأمر فرجاً ، وقيّض الله رجلاً من الصحابة رضوان الله عنه وكان أسلم قبل غزوة الخندق ، اسمه : " نُعيم بن مسعود الأشجعي " جاء للنبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : " ماجاء بك يانُعيم " فقال : " إني جئت أصدّقُك وأشهد أن ماجئت به حق ، فمُرني بما شئت يارسول الله ، قال : " ما استطعت أن تُخذّل عنّا فخذّل " وقال له رسول الله : " قل مابدا لك فأنت في حل " فذهب إلى بني قُريظة فقال : اكتموا عني قالوا : نفعل ، فأخبرهم بأن قريش قد بدا لهم أن ينصرفوا بعدما طال الحصار وأقنعهم بعدم التورط في قتال حتى يأخذوا منهم رهائن لئلا يولّوا الأدبار ويتركوهم وحدهم يواجهون مصيرهم مع المسلمين ، ثمّ أتى قريش وأخبرهم أن بني قُريظة قد ندموا على مافعلوا وأنّهم قد اتفقوا سرّاً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يختطفوا عدداً من أشراف قريش وغطفان فيسلموهم له ، دليلاً على ندَمِهم ، وقال لهم : فإن أرسلت إليكم يهود يلتمسون منكم رهناً من رِجالكم فإياكم أن تسلّموهم رجُلاً منكم ، ثمّ أتى غطفان وقال لهم مثلَ الذي قاله لقريش وبذلك نجح فارسنا الملهم نُعيم بن مسعود رضي الله عنه في زرع بذور الفرقة والشك بينهم وأرجف بالأحزاب إرجافاً وتفرقت قلوبهم قبل تفرّق أجسادهم ، وذلك لأن الحرب خَدعة كما أخبر المصطفى عليه الصلاة  والسلام . ثم إن الله أرسل ريحاً شديدة فقلعت خيامهم وكفأت قدورهم وفرّقت متاعهم ، حتى كان الرجل منهم لايستطيع أن يهتدي إلى رحله فتفرقوا وشتت الله شملهم فأنزل الله آياتٍ تذكّر بنعمته يقول جلّ وعلا : ( ياأيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنودٌ فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا ) . . فكفى الله المؤمنين القتال ( ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قوياً عزيزا ) . . أقول ماتسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم 
==================== الخطبة الثانية =====================
الحمدلله وحده ، نصر عبده ، وأعز جنده ، وهزم الأحزاب وحده ، والصلاة والسلام على من لانبي بعده ثم أما بعد : عبادالله :  من يتأمل غزوة الأحزاب يجد أنه مامرّ على المسلمين أشد ولا أحلك من ظروفها وأحداثها من رعب أصابهم وخوف شديد حل بهم وفي ذلك يصف الله الموقف في سورة الأحزاب ، فيقول جلّ وعلا : ( إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا * هنالك ابتُلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديدا ) . ومع ذلك فرّجها الله وجاء النصر من حيث لم يكن يُتوقع  ضاقت فلمّا استحكمت حلقاتُها * فُرجت وكدت أظنها لاتُفرج ولهذا بشّر النبي صلى الله أصحابه وقال : " الآن نغزوهم ولا يغزوننا ، نحنُ نسير إليهم " وهذا علمٌ من أعلام النبوة ، وآية من آيات الله تعالى فكان في غزواته كلِّها بعد غزوة الأحزاب يباغت العدو في بلده ، ولا يجرؤ أحدٌ أن يغزوه في المدينة إلى أن ظهر الإسلام في الجزيرة العربية وأسلم أغلب العرب ولله الحمد ، فكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يأخذوا عمرة بعد غزوة الأحزاب إلا قالوا على الصفا والمروة بعد التهليل : " لاإله إلا الله وحده ، أنجز وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده " وصارت سنّة ماضية إلى يوم القيامة . وهكذا يأتي الفرج من الله والنصر والتمكين بعد الكرب والشدّة ولن يغلب عسرٌ يسرين ( فإن مع العسر يسرا * إن مع العسر يُسرا ) . . فهذه سنّة الله لاتتغير ولا تتبدل ، فالنصر له وقتٌ مكتوب وفيه يحل وينزل لايتقدم عن وقته ولا يتأخر ولكنّ أكثر الناس يستعجلون ، يبذلون القليل ويطلبون الكثير ولو تأملوا قول الله تعالى : ( .. ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلوَ بعضكم ببعض والذين قُتلوا في سبيل الله فلن يُضلّ أعمالهم )  . عباد الله : مايجري في غزة والشام وغيرها من البلدان الإسلامية هو تكالبٌ وتحزّبٌ من أعداء الإسلام على حرب عباد الله المؤمنين وتهجير الكثير منهم ، ويظن هؤلاء الأعداء أن الله خاذلٌ لأوليائه ولن يمدَّهم بنصرهم ، وهم لايعلمون أنه مكرٌ بأعداء الله واستدراجٌ لهم وإن طال الزمن وطالت هذه الحروب ، فالله ليس بغافل عن مايعملون ، وسيبدو لهم من الله مالم يكونوا يحتسبون فاللهم انصر دينك وأعز أولياءك واخذل أعداءك ياذا الجلال والإكرام . . ثم صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال عز من قائل عليما : ( إن الله وملائكته يصلون على النبي ياأيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما ) .
المشاهدات 748 | التعليقات 0