خطبة عن عرفة
أحمد عبدالعزيز الشاوي
عن عرفة وما بعدها في 8/12/1440
الحمد لله على نعمائه والشكر له على أفضاله وآلائه وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له في ربوبيته وألوهيته وصفاته وأسمائه وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صفوة خلقه وسيد أنبيائه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وأوليائه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد: فاتقوا الله أيها المسلمون وعظموا شعائره، [ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى القُلُوبِ]وتمضي خير أيام الله وتكاد تفارقنا فرصة ربانية ماقدرها حق قدرها فئام من المسلمين رضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها وهم عن الآخرة هم غافلون ، وتشرف الأمة على يوم عظيم مباركأي يوم تستقبلون ؟ وأي ساعة تترقبون ؟ وأي لحظات تلك التي نتفيؤها ونعيش أجواءها إنه اليوم الذي أكمل الله به الدين وأتم علينا به النعمة ورضي لنا الإسلام ديناإننا نترقب ساعة ترسم فيها معالم الإيمان والأخوة على صعيد عرفات ..
إنها اللحظات التي يصبح الشيطان فيها مدحورا مثبوراغدا تتجمع جموع الحجيج على ثرى عرفات حيث تتجلى أنصع معالم عالمية الإسلام وعظمة هذا الدين .. اللباس واحد والهدف واحد والمكان واحد والمعبود رب واحد لاشريك لههناك تسقط كل الفوارق الطبقية والنعرات القبلية والمقاييس البشرية ، ويبقى شعار واحد ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) وتبقى راية واحدة عنوانها ( لافضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على اسود إلا بالتقوى )
هناك في عرفات يتجلى الخالق لخلقه فيباهي بهم ملائكته وينظر إليهم نظرة الرحمة والإحسانفي عرفات يتذكر المسلم عهد الله الذي أخذه على عباده حينما قال ( ألست بربكم قالوا بلى شهدنا .. )
في عرفات يجتمع شمل الحجاج يستقيلون عثراتهم ويبكون ويتوجهون إلى الله بقلوب خاشعة وفيهم المقبولون ومن يقال له ( لبيك ) ومنهم من سواهم ومن يقال لهم ( لالبيك ولا سعديك ) وفيهم من يرجع كما أتى أو شرا مما أتى في عرفات تختلط العبارات بالعبرات ويكثر الدعاء والتضرع إلى رب الأرض والسماء وخير الدعاء دعاء يوم عرفة ، وخير ماقاله نبينا والمرسلون ( لإله إلا الله وحده لاشريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير )ففي عرفات تغنفر الخطايا ويحثو التربً إبليسُ الصفيقفيارب الورى جئنا عراة من الخيرات ليس لنا رفيقتعلقنا ببابك ياإلهي كما يتعلق العبد الغريق فجد بالعفو يارب البرايا لعبد كاد يكويه الحريقفي عرفات تسكب العبرات وتقال العثرات وتنزل الرحمات وتضج الأصوات بالدعوات وتختلط دموع المذنبين مع عبرات التائبين ..
هناك ترفع إلى الخالق الشكوى وهناك ترسم أجمل صور التقوىوإذا كان حجاج بيت الله يتعرضون لرحمات الله في صعيد عرفات في ذلك اليوم العظيم المبارك حيث يقفون مواقف إيمانية خالدة ..
فيا أيها المقيمون لاتحزنوا ولا تأسوا على مافاتكم فإن فضل الله عظيم وثوابه جزيل ورحمته وسعت كل شي ..اعلموا أن مدار الأمور على النيات والمقاصد فكم تارك للحج احتسابا يعطيه الله أجر من حج واعتمر وقد قال ( ص ) للمجاهدين في تبوك ( إن بالمدينة أقواما ماسرتم مسيرا ولا نزلتم واديا إلا كانوا معكم حبسهم العذر ) قال الإمام ابن باز رحمه الله : ترك الاستكثار من الحج لقصد التوسعة على الحجاج وتخفيف الزحام عنهم نرجو أن يكون أجره في الترك أعظم من أجره في الحجفيامن شغل عن الحج بدعوة إلى الله أو أمر بالمعروف ونهي عن المنكر أو بر بوالدين ..
وإلى من ترك الحج انشغالا بدًين أو احتسابا للتخفيف عن المسلمين وطاعة لولي الأمر .. وإلى من تصدق بقيمة حجه على بائس فقير ..
وإلى كل قاعد وقلبه يخفق شوقا إلى البيت العتيق ..ابشروا إن لكم مانويتم ولن يضيع الله أجركم ومن سأل الله الشهادة بصدق كتب من الشهداء وإن مات على فراشه ، ومن هم بالحسنة فلم يعملها كتبها الله له حسنة كاملة ، ومن نوى أن يقوم من الليل فغلبته عيناه كتب له مانوى وكان نومه صدقة من ربه عليه وإن فاتكم الحج فأمامكم أبواب من الخير مشرعة .. صدقات صلوات ودعوات وأذكار وتكبير وتهليل ، والأضحية لكم فيها بكل شعرة حسنة وصيام عرفة يكفر السنة التي قبله والتي بعده ، وكم من قاعد فاق منازل الحجاج ، والإنسان يدرك بنيته ومقصده مالايدركه بعمله وإن الله بكم لرؤوف رحيمكم من مقيم مشتغل بطاعة الله هو أتقى وأعلى مكانا عند الله من فوم يشدون الرحال إلى الحج غير مدركين حكمه ولا مستشعرين فضله .. لايذهبون إلى هناك بقلوب وجلة مشفقة من تراكم الذنوب خائفة من قسوة القلوب وإنما ذهبوا لأنهم لايرون أنهم يسعهم البقاء وقد ذهب خلانهم وإخوانهم وهناك لاتذرف لهم دمعة ولايوجل لهم قلب يتنافسون في التأخر بالذهاب ويتسابقون على سرعة الإياب يلاحقون عروض التخفيضات التي يعرضها دعاة الترخص .. يذهبون وقد شتموا هذا واغتابوا هذا وأخذوا مال هذا وجحدوا مال ذاك .. ويعودون بحج خداج فما أحوجنا إلى معرفة فقه التفاضل في الأعمال
يامعشر المسلمين .. ياكل من يشعر بفقره إلى الله وفاقته وحاجته إلى مولاه .. ياكل مهموم ومغموم .. ياكل مريض ومبتلى . ياكل خطاء . وياكل مذنب ومسرف..في عصر الغد لساعة خير من الدنيا وما فيها ,و فالزموا بيوت الله واتلوا كتاب الله وتفرغوا لدعاء الله ومناجاته وتذللوا بيت يديهإن لكم في عصر الغد لدعوة مستجابة فافزعوا إلى الله الخالق الرازق وارفعوا إلى ربكم الشكوى والجأوا إلى من يعلم السر والنجوى وتضرعوا إلى من يكشف البلوى .. توجهوا إلى الله وأنتم تعيشون لحظات الصفاء وأنتم أقرب ماتكونون إلى الله وادعوه لأنفسكم وأولادكم ووالديكم وأهليكم ولأمتكم بأن يرفع عنها البلاء ويكف عنها كيد الأعداء ويحقق لها النصر على الخصوم الألداءياكل مذنب ومقصر وكلنا كذلك .. لنجعل من هذه الأيام فرصة طيبة لإعلان عهد الصلح مع الله في هذه الأجواء الإيمانية الصافية وللتوبة عما مضى والندم على مافات وعقد العزم على المضي في الطريق الذي يرضي ربناغدا يوم الوفاء .. يوم التضرع والبكاء .. يوم المناجاة والدعاء . في عصره فرصة لمن أراد أن يذكر أو اراد شكورافي عصر الغد تتصارع الهمم ويتبين من جعل الآخرة همه ممن أراد الحياة الدنيا وزينتها . ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا فهل ياترى تنشرح الصدور لمشاهد المؤمنين وهي تعمر بيت الله بالذكر والقرآن وتلهج ألسنتهم بالدعاء والتضرع وسؤال رب العالمين .. هذا هو المرتجى ، والمحروم من حرم طاعة الله وتخاذل عن استغلال منح الله وعطاياهوفقني الله وإياكم لمرضاته وهدانا لسبيل جناته ..
أقول هذا القول ...
الخطبة الثانية:
أما بعد : فحينما يمضي يوم عرفة وتنقضي ليلة مزدلفة يحل على المسلمين يوم الحج الأكبر أعظم الأيام عند الله وفيه يستقر الحجاج في منى يرمون الجمار ويقضون تفثهم ويطوفون بالبيت العتيق ، والمقيمون يتقربون على الله بذبح أضاحيهم يبنغون فضلا من ربهم ورضوان ، ثم تأتي ايام التشريق وهي ايام أكل وشرب وذكر لله تعالى .. ومعها أهمس في أسماعكم وأبث إلى قلوبكم هذه الخاطرةأيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله عز وجل بهذا صح الحديث عن المصطفى ﷺ. أما كونها أيام أكل وشرب فهذا أمر لا يتنازع فيه اثنان ولا ينتطح فيه عنزان بل هو مما أجمعت عليه الأمة ولا يحتاج من الواعظ مزيد توصية وتذكير لكن الذي غاب عن مفهومنا وواقعنا هو أنها أيام ذكر لله عز وجل وربنا يقول [وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ].
الذكر يا عباد الله في الإسلام ذو دائرة واسعة لا تحد مجالاتها. في ميادين عريضة من القول والعمل والفكر والاعتقاد.الذكر ليس ساعة مناجاة محدودة في الصباح والمساء في المسجد أو في المحراب لينطلق العبد بعدها في أرجاء الأرض يعبث كما يشاء ويفعل ما يريد. الذاكر الحي والمتدين الحق يرقب ربه في كل حال وحيثما كان، وينضبط مسلكه ونشاطه بأوامر ربه ونواهيه يشعر بضعفه البشري فيستعين بربه في كل ما يعتريه أو يهمه.
وفي هذا يقول سعيد بن جبير رحمه الله: كل عامل لله بطاعة فهو ذاكر لله تعالى. ويقول عطاء: مجالس الذكر الصلاة والصيام والحج ومجالس الحلال والحرام البيع والشراء والنكاح والطلاق.المسلم الذاكر يصحو وينام ويقوم ويقعد ويغدو ويروح وفي أعماقه إحساس بأن دقات قلبه وتقلبات بصره وحركات جوارحه كلها في قبضة الله وتحت قدرته، في أعماقه إحساس وإيمان بأن إدبار الليل وإقبال النهار وتنفس الصبح وغسق الليل وحركات الأكوان وجريان الأفلاك كل ذلك بقدرة الله وأقداره [الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ].
الذاكرون المخبتون يعيشون لربهم مصلين حامدين مجاهدين عاملين.أيها المسلمون: ذكر الله تعالى يكون باللسان ويكون بالأعمال الصالحة، فيكون باللسان بالتسبيح والتحميد والتهليل والتكبير وقراءة القرآن [وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ] {آل عمران:41} ويكون بالأعمال الصالحة من صلاة وصيام وحج ونحوها. [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ الله وَذَرُوا البَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ] وقال: وأقم الصلاة لذكري وقال ﷺ: «إنما جعل الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله».
معاشر المسلمين، لما كانت هذه الأيام مظنة اللهو والغفلة لذا فقد أُمرنا بذكر الله عز وجل فيها قولاً وعملاً ليكون المسلم على صلة بربه أينما حل وحيثما ارتحل فيحيا ضميره وتزكو نفسه ويتطهر قلبه ويستمد منه العون والتوفيق.[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا[وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا[فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ][وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ] ويقول ﷺ: «ألا أؤنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إعطاء الذهب والورق وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم قالوا: وما ذلك يا رسول الله. قال: ذكر الله عز وجل».
فيا عباد الله، لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون، ومن أعرض عن ذكر الله فإن له معيشة ضنكاً ويحشره ربه يوم القيامة أعمى، والإكثار من ذكر الله براءة من النفاق وفكاك من أسر الهوى وجسر يصل به العبد إلى مرضاة ربه والمنافقون ذكر الله عنهم أنهم لا يذكرون الله إلا قليلاً وبذكر الله تطمئن القلوب.
أيها المسلمون جميعاً من كان قاصداً بيت الله ومن كان مقيماً. أكثروا من الدعاء فليس شيء أكرم على الله عز وجل من الدعاء ومن لم يدع الله عز وجل يغضب عليه وقد صح في الحديث: «إن الله حيي كريم إذا رفع العبد إليه يديه يستحيي أن يردهما صفراً».
ومن يكثر قرع الباب يوشك أن يفتح له ومن يكثر الدعاء يوشك أن يستجاب له. ومن سره أن يستجيب الله له حال الشدة والضيق فليكثر من الدعاء حال الرخاء وليعزم المسألة وليعظم الرغبة وليلح في الدعاء.
فاجتهدوا أيها المسلمون في الدعاء وأكثروا من الثناء وعظموا الرجاء. فإن خزائن الله ملأى، ولا تنسوا في هذه الأيام المباركة أن تدعوا بالنصر لإخوانكم المسلمين في كل مكان. فعسى الله أن يستجيب دعوة داع منكم فتنكشف غمة وتنفس كربة. أيها المسلمون: ومما يتأكد في مثل هذه الأيام الفاضلة بذل الصدقات في سبيل الله. وكلما أكثر العبد من الصدقات وسارع إلى البذل والإنفاق كان ذلك تطهيراً لنفسه وماله ومضاعفة لأجره عند الله سبحانه.
فاتقوا النار ولو بشق تمرة وثقوا أن ما تنفقونه مخلوف عليكم وعداً من الله لن يتخلف [وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ] ووعداً ممن لا ينطق عن الهوى «ما نقص مال من صدقة» وما تنفقوا من خير فلأنفسكم، واعلموا أن الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً والله واسع عليم وإن أولى من تدفع لهم الصدقات أولئك القائمون على رعاية الفقراء والمساكين من جمعيات خيرية ومؤسسات تطوعية فمن لهم بعد الله إذا تخلى عنهم أمثالكم. وها أنتم تدعون لتنفقوا في سبيل الله. اللهم صل وسلم ...