خطبة عن المرض والوباء للشيخ عبدالرحمن السحيم
عيد العنزي
خُطبة عن المرض والوباء
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي قدّرَ الأقدارَ ، خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ ويُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ ، وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ .
ثمَّ الصلاةُ على الْمُختارِ سَيِّدِنـا *** مَا وَضّـأَ البَرْقُ في شَّامٍ وفي يَمَنِ
أمَّا بَعْدُ :
فإنَّ اللهَ يَبْتَلِي عِبادَهُ بالسَّرَّاءِ تَارَّةً ، وبِالضَّرَّاءِ تَارَّةً أُخْرَى ..
يَبْتَلِيهِمْ بالصِّحَّةِ كَمَا يَبْتَلِيهِمْ بِالْمَرَضِ ؛ فَالصِّحَّةُ تُقابَلُ بالشُّكْرِ ، والْمَرَضُ يُقابَلُ بِالاحتسَابِ والصَّبْرِ .
يَبْتَلِيهِمْ بِالغِنَى كَمَا يَبْتَلِيهِمْ بِالْفَقْرِ ؛ فيُشْكَرُ في حَالِ الغِنى ، ويُصْبرُ في حَالِ الفَقْرِ .
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ : الْفَقْرُ وَالْغِنَى مَطِيَّتَانِ ، مَا أُبَالِي أَيُّهُمَا رَكِبْتُ ، إِنْ كَانَ الْفَقْرُ فَإِنَّ فِيهِ الصَّبْرَ ، وَإِنْ كَانَ الْغِنَى فَإِنَّ فِيهِ الْبَذْلَ .
ومِن الْمُحَالِ دوامُ الْحَالِ ..
يَغتَنِي فَقَيرٌ ، ويَفْتَقِرُ غَنيٌّ ، ويَصِحُّ مَريضٌ ، ويَمْرَضُ صَحيحٌ ..
فلا حُزْنٌ يَدومُ ولا سُرورُ ... ولا بَأسٌ عَليْكَ وَلا رَخَاءُ
وَصَدَقَ اللهُ : (وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) قَالَ ابنُ كَثيرٍ : أَيْ: مَـنٌّ عَلَيْهِمْ وَرَحْمَةٌ بِهِمْ ... وَلَهُ الْحُكْمُ وَالْحِكْمَةُ وَالْحُجَّةُ عَلَى خَلْقِهِ فِي جَمِيعِ أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ . اهـ .
وإنَّ في الْمَرَضِ دُرُوسا وعِبَرا .
الدَّرسُ الأوَّلُ:
القَدَرُ ماضٍ ، والقضاءُ نافِذٌ ، وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ ، والْحُكمُ للهِ .
والذي يَجِبُ عَلَى الْمسلِمِ أنْ يَتَفَكَّرَ فِيهِ عِنْدَ نُزولِ الأمراضِ وحُلُولِ الأوبئةِ : مَاذا قدَّمَ لآخرَتِهِ ؟
قَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللهِ ، مَتَى السَّاعَةُ ؟ قَالَ : وَمَا أَعْدَدْتَ لَهَا ؟ رَوَاهُ البخاريُّ ومسلمٌ . هذا السؤالُ الْمُهمّ .
وإذا نَزَلَ القَضَاءُ ضَاقَ الفَضَاءُ ..
قالَ التِّرْمِذِيُّ : إِذَا جَاءَ الْقَدَرُ عَمِيَ الْبَصَرُ ، وَإِذَا جَاءَ الْحَيْنُ غَطَّى الْعَيْنَ .
وصَدَقَ اللهُ : (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) .
قال ابنُ كَثيرٍ : وَالْمَقْصُودُ : أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ صَائِرٌ إِلَى الْمَوْتِ لا مَحَالَةَ ، وَلا يُنْجِيهِ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ ، وَسَوَاءٌ عَلَيْهِ جَاهَدَ أَوْ لَمْ يُجَاهِدْ ، فَإِنَّ لَهُ أَجَلا مَحْتُومًا ، وَأَمَدًا مَقْسُومًا ، كَمَا قَالَ خَالدُ بِنُ الوليدِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ حِينَ جَاءَ الْمَوْتُ عَلَى فِرَاشِهِ : لَقَدْ شَهِدْتُ كَذَا وَكَذَا مَوْقِفًا ، وَمَا مِنْ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِي إِلاَّ وَفِيهِ جُرْحٌ مِنْ طَعْنَةٍ أَوْ رَمْيَةٍ ، وَهَا أَنَا أَمُوتُ عَلَى فِرَاشِي ، فَلا نَامَتْ أَعْيُنُ الْجُبَنَاءِ . اهـ .
وقد أخْبَر اللهُ عَزّ وَجَلّ أنه أمات مَن فَرّوا مِن الموت ، فقال سبحانه وتعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ)
قال ابنُ كَثيرٍ : وَفِي هَذِهِ الْقِصَّةِ عِبْرَةٌ وَدَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَنْ يُغْنِيَ حَذَرٌ مِنْ قَدَرٍ ، وَأَنَّهُ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ فَرُّوا مِنَ الْوَبَاءِ طَلَبًا لِطُولِ الْحَيَاةِ ؛ فَعُومِلُوا بِنَقِيضِ قَصْدِهِمْ ، وَجَاءَهُمُ الْمَوْتُ سَرِيعًا فِي آنٍ وَاحِدٍ . اهـ .
الدَّرسُ الثاني :
إنَّ مِنْ سُننِ اللهِ : نُزولَ الداءِ والبلاءِ والوباءِ ، ثمَّ يَرفعُهَا اللهُ إذَا شَاءَ أنْ يَرْفَعَهَا .
وذَلِكَ ابتلاءٌ وامتحِانٌ للعِبادِ ؛ فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا ، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السُّخْطُ .
قال عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ : إنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلاَءِ ، وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلاَهُمْ ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا ، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السُّخْطُ . رَوَاهُ الترمذيُّ وابنُ مَاجَه .
وقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا أَرَادَ اللهُ تَعَالَى بِقَوْمٍ عَذَابًا أَصَابَ الْعَذَابُ مَنْ كَانَ فِيهِمْ ، ثُمَّ بُعِثُوا عَلَى أَعْمَالِهِمْ . رَوَاهُ البخاريُّ ومسلِمٌ .
قَالَ القُرطبيُّ : فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْهَلاكَ الْعَامَّ مِنْهُ مَا يَكُونُ طُهْرَةً لِلْمُؤْمِنِينَ ، وَمِنْهُ مَا يَكُونُ نِقْمَةً لِلْفَاسِقِينَ . اهـ .
ومِن دروسِ الابتلاءِ : أنْ يَتَضَرّعَ النَّاسُ عِنْدَ نُزولِ البَلاءِ والوَبَاءِ ، وأنْ يَستكينوا ويَرْجِعُوا إلى ربِّهمْ .
قال الله تبارك وتعالى : (فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)
وقال الله عزّ وجَلّ عن القومِ الكافِرين : (وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ) .
قَالَ العبَّاسُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ : اللَّهُمَّ إِنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ بَلاءٌ إِلاَّ بِذَنْبٍ ، وَلَمْ يُكْشَفْ إِلاَّ بِتَوْبَةٍ .
وقد ذمّ اللهُ مَن لَم يَتّعِِظ بالمَصائب والأوبئة ، كما قال تبارك وتعالى عن فِرعون ومَن مَعه : (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آَيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ) .
الدَّرسُ الثالِثُ :
أنَّ في الأمراضِ والأوْبِئَةِ خَيْرا .
فإنَّ مِنَ الأمْرَاضِ الفَتَّاكَةِ مَا يَكونُ شهادَةً ورِفْعَةً لِمَنْ يموتُ فِيهِ ، ولِذَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ : اللهُمَّ اجْعَلْ فَنَاءَ أُمَّتِي فِي سَبِيلِكَ بِالطَّعْنِ وَالطَّاعُونِ . رَوَاهُ الإمامُ أَحْمَدُ ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ .
قال مُحِبُّ الدِّينِ الطبريُّ : قَالَ أَهْلُ العِلْمِ : إنَّمَا يَكونُ شَهَادَةً لِمَنْ صَبَرَ عَلَيْهِ محتسبًا عالِمًا بأنَّ مَا أصابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ , وَمَا أَخَطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ ، فَأمَّا مَنْ فَرَّ مِنْهُ فَأصَابَهُ فَلَيْسَ بِشَهِيدٍ . اهـ.
وقَالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الشُّهَدَاءُ خَمْسَةٌ : الْمَطْعُونُ ، وَالْمَبْطُونُ ، وَالْغَرِقُ ، وَصَاحِبُ الْهَدْمِ ، وَالشَّهِيدُ فِي سَبِيلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ . رواه البخاري ومسلم .
وَقَدْ نُهينا عَنْ سَبِّ الْمَرَضِ ؛ لأنَّ مِنْهُ مَا يَكونُ رَحْمَةً ، وَمِنْهُ مَا يَكونُ شَهَادَةً في سَبيلِ اللهِ .
فقد دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أُمِّ السَّائِبِ ، أَوْ أُمِّ الْمُسَيَّبِ فَقَالَ : مَا لَكِ يَا أُمَّ السَّائِبِ ، أَوْ يَا أُمَّ الْمُسَيَّبِ تُزَفْزِفِينَ ؟ (أيْ : تَرْتَعِدِين) قَالَتْ : الْحُمَّى ، لاَ بَارَكَ اللَّهُ فِيهَا ، فَقَالَ : لاَ تَسُبِّي الْحُمَّى ، فَإِنَّهَا تُذْهِبُ خَطَايَا بَنِي آدَمَ ، كَمَا يُذْهِبُ الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ . رَوَاهُ مسلِمٌ .
الدَّرسُ الرَّابِعُ :
فِقْهُ الْمَرَضِ ، وَعَدَمُ الْهَلَعِ ، وتَرْكُ الْجَزَعِ .
وَمَا كَانَ السَّلَفُ يَهْرُبُونَ مِنَ الْمَرَضِ ، وَلا كَانَ يُصيبُهُمْ الْهَلَعُ عِنْدَ نزولِ الوَبَاءِ والبَلاءِ ؛ لِيقينِهِمْ بِأنَّ اللهَ أرْحَمُ بِهِمْ مِنْ أُمَّهَاتِهِمْ ، وَأنَّ القَدَرَ واقِعٌ لا مَحالَةَ . وأنَّهُمْ في حِفْظِ اللهِ ورعايتِهِ وكَلاءَتِهِ .
قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّ مَعَ كُلِّ رَجُلٍ مَلَكَيْنِ يَحْفَظَانِهِ مِمَّا لَمْ يُقَدَّرْ ، فَإِذَا جَاءَ الْقَدَرُ خَلَّيَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ ، وَإِنَّ الأَجَلَّ جُنَّةٌ حَصِينَةٌ . رواه ابن جرير في " تفسيره " .
وقال شيخُ الإسلامِ ابنُ تَيميَّةَ : الْعَوَارِضُ وَالْمِحَنُ هِيَ كَالْحَرِّ وَالْبَرْدِ ، فَإِذَا عَلِمَ الْعَبْدُ أَنَّهُ لا بُدَّ مِنْهُمَا لَمْ يَغْضَبْ لِوُرُودِهِمَا ، وَلَمْ يَغْتَمَّ لِذَلِكَ وَلَمْ يَحْزَنْ . اهـ .
ومِن هُنا اعْتَبَرَ الصحابةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ الطَّاعونَ رَحْمَةً .
قَالَ عطاءُ بنُ أَبي مُسْلِمٍ : قَامَ مُعَاذُ بنُ جَبَلٍ فِي الْجَيْشِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ حِينَ وَقَعَ الْوَبَاءُ [يعني: الطاعونَ] , فَقَالَ لِلنَّاسِ: هَذِهِ رَحْمَةُ رَبِّكُمْ , وَدَعْوَةُ نَبِيَّكُمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَمَوْتُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ . ثُمَّ قَالَ مُعَاذٌ وَهُوَ يَخْطُبُ : اللهُمَّ ادْخِلْ عَلَى آلِ مُعَاذٍ نَصِيبَهُمُ الأَوْفَى مِنْ هَذِهِ الرَّحْمَةِ . فَطُعِنَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ فَمَاتَتَا [أي: أصابَهُمَا الطَّاعُونُ]، حَتَّى طُعِنَ ابْنُه عَبْدُ الرَّحْمَنِ ، بِكْرُهُ الَّذِي كَانَ يُكَنَّى بِهِ وَأَحَبُّ الْخَلْقِ إِلَيْهِ , فَلَمَّا رَأَى أَبَاهُ مُعَاذًا قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: يَا أَبَتِ (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكِ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) وقَالَ: (سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) قَالَ: فَمَاتَ مِنَ الْجُمُعَةِ إِلَى الْجُمُعَةِ آلُ مُعَاذٍ كُلُّهُمْ , ثُمَّ هُوَ كَانَ آخِرَهُمْ . رَوَاهُ عبدُ الرَّزَّاقِ وابنُ أبي شَيْبَةَ ، وأَحْمدُ مخْتَصَرا .
وقال معاذٌ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ الطَّاعُونِ : هو شهادةٌ ورحمةٌ ، ودعوةُ نَبِيِّكُم. قَالَ أبو قِلابةَ: قد عَرَفْتُ الشهادةَ والرَّحْمَةَ ، فَمَا دَعْوَةُ نبيِّكُمْ ؟ فَسَألْتُ عَنْهَا فَقَيلَ: دَعَا عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ أن يَجْعَلَ فَنَاءَ أمتِّهِ بِالطَّعْنِ والطَّاعُونِ ، حِينَ دَعَا أنْ لا يَجْعَلَ بَأْسَ أُمَّتِهِ بَيْنَهُمْ فَمُنِعَهَا، فَدَعَا بِهَذَا .
وَرَوى البيهقيُّ في الشُّعَبِ مِنْ طَرِيقِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ , أَنَّ وَجَعَ عَمَوَاسٍ (حيثُ وَقَعَ الطَّاعُونُ)كَانَ مُعَافًى مِنْهُ أَبُو عُبَيْدةَ بْنُ الْجَرَّاحِ وَأَهْلُهُ , فَقَالَ: اللهُمَّ نَصِيبَكَ فِي آلِ أَبِي عُبَيْدَةَ . قَالَ: فَخَرَجَتْ بِأَبِي عُبَيْدَةَ بَثْرَةٌ فِي خِنْصَرِهِ ، فَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَيْهَا فَقِيلَ: إِنَّهَا لَيْسَتْ بِشَيْءٍ ، فَقَالَ: إِنِّي أَرْجُو أَنْ يُبَارِكَ اللهُ فِيهَا , فَإِنَّهُ إِذَا بَارَكَ فِي الْقَلِيلِ كَانَ كَثِيرًا . وأَصْلُهُ في مُسْنَدِ الإمامِ أَحْمَدَ .
ومِن فِقْهِ الْمَرَضِ : أنْ لا يُدخَلَ إلى بَلَدٍ يَنْتَشِرُ فَيهِ الوَبَاءُ ، وَلا يُهرَبَ مِنْهُ .
قالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الطَّاعُونِ : إِنَّ هَذَا الْوَجَعَ رِجْزٌ ، أَوْ عَذَابٌ ، أَوْ بَقِيَّةُ عَذَابٍ عُذِّبَ بِهِ أُنَاسٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ، فَإِذَا كَانَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا ، فَلاَ تَخْرُجُوا مِنْهَا وَإِذَا بَلَغَكُمْ أَنَّهُ بِأَرْضٍ فَلاَ تَدْخُلُوهَا. رواه البخاري ومسلم .
وقَالَ ابنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ : الطَّاعُونُ فِتْنَةٌ عَلَى الْمُقِيمِ وَعَلَى الْفَارِّ ؛ أَمَّا الْفَارُّ فَيَقُولُ : فَرَرْتُ فَنَجَوْتُ. وَأَمَّا الْمُقِيمُ فَيَقُولُ: أَقَمْتُ فَمُتُّ . وَإِنَّمَا فَرَّ مَنْ لَمْ يَجِئْ أَجَلُهُ ، وَقَامَ فَمَاتَ مَنْ جَاءَ أَجَلُهُ .
وَسُئِلَ سُفيانُ الثَّوريُّ عَنِ الرَّجُلِ يَخْرُجُ أيامَ الوَبَاءِ بِغيْرِ تِجَارَةٍ مَعروفَةٍ ، قَالَ: لَم يَكونوا يَفعلونَ ذلِكَ وَمَا أُحِبُّهُ .
وقال ابنُ عبدِ البَرِّ : لا يَجُوزُ لأَحَدٍ أَنْ يَقْدِمَ عَلَى مَوْضِعِ طَاعُونٍ لَمْ يَكُنْ سَاكِنًا فِيهِ ، وَلا يَجُوزُ لَهُ الْفِرَارُ عَنْهُ إِذَا كَانَ قَدْ نَزَلَ فِي وَطَنِهِ وَمَوْضِعِ سُكْنَاهُ . اهـ .
الدَّرسُ الخَامِسُ :
أنَّ الْمَرَضَ كفارةٌ للخِطَايَا
لَمَّا نَزَلَتْ (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) بَلَغَتْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَبْلَغًا شَدِيدًا ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : قَارِبُوا ، وَسَدِّدُوا ، فَفِي كُلِّ مَا يُصَابُ بِهِ الْمُسْلِمُ كَفَّارَةٌ ، حَتَّى النَّكْبَةِ يُنْكَبُهَا ، أَوِ الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا . رَوَاهُ مسلِمٌ .
وقال عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ : مَا يَبْرَحُ الْبَلاَءُ بِالْعَبْدِ ، حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ ، وَمَا عَلَيْهِ مِنْ خَطِيئَةٍ . رَوَاهُ الإمامُ أحْمَدُ والترمذيُّ وابنُ مَاجَه .
وَالْمَرَضُ مُذْهِبٌ للْخَطَايَا
قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْمَرِيضُ تَحَاتُّ خَطَايَاهُ كَمَا يَتَحَاتُّ وَرَقُ الشَّجَرِ . رَوَاهُ الإمامُ أحمدُ ، وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ .
وَقَدْ شَبَّهَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُؤْمِن بالْخَامَةِ مِنَ الزَّرْعِ ، تُفِيئُهَا الرِّيحُ ، تَصْرَعُهَا مَرَّةً وَتَعْدِلُهَا أُخْرَى ، حَتَّى تَهِيجَ ، وشَبَّه الْكَافِرَ والمنافِقَ بِشَجَرَةِ الأَرْزَ ، الَّتِي لاَ يُصِيبُهَا شَيْءٌ حَتَّى يَكُونَ انْجِعَافُهَا مَرَّةً وَاحِدَةً . كَمَا في الصحيحيْنِ .
قَالَ النوويُّ : قَالَ الْعُلَمَاءُ : مَعْنَى الْحَدِيثِ : أَنَّ الْمُؤْمِنَ كَثِيرُ الآلامِ فِي بَدَنِهِ أَوْ أَهْلِهِ أَوْ مَالِهِ ، وَذَلِكَ مُكَفِّرٌ لِسَيِّئَاتِهِ ، وَرَافِعٌ لِدَرَجَاتِهِ . وَأَمَّا الْكَافِرُ فَقَلِيلُهَا ، وَإِنْ وَقَعَ بِهِ شَيْءٌ لَمْ يُكَفِّرْ شَيْئًا مِنْ سَيِّئَاتِهِ ، بَلْ يَأْتِي بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ كامِلَةً . اهـ .
قَالَ أَبو الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ : أُحِبُّ الْفَقْرَ تَوَاضُعًا لِرَبِّي , وَأُحِبُّ الْمَوْتَ اشْتِيَاقًا إِلَى رَبِّي , وَأُحِبُّ الْمَرَضَ كَفَّارَةً لِخَطِيئَتِي .
الخطبة الثانية :
الحمدُ للهِ الوهَّابِ ، الذي حَمْدُهُ عِـزٌّ للحَامِدِين ، لك الْحَمْدُ حمدًا كثيرًا طيبًا مُبَارَكا فيه .
أمَّا بَعْدُ :
فإنَّ " الصِّحَّةَ وَالْعَافِيَةَ مِنْ أَجَلِّ نِعَمِ اللَّهِ عَلَى عَبْدِهِ ، وَأَجْزَلِ عَطَايَاهُ ، وَأَوْفَرِ مِنَحِهِ ، بَلِ الْعَافِيَةُ الْمُطْلَقَةُ أَجَلُّ النِّعَمِ عَلَى الإِطْلاقِ " . كَمَا قَالَ ابنُ القيِّمِ .
ومِنْ دُروسِ المَرَضِ :
الدرسُ السادِس :
بيانُ ضَعْفِ اليقينِ والتوكلِ ، ويظهَرُ ذلِكَ عنْدَ النوازِلِ ، يُؤجِّجُ ذلِكَ : وسائلُ إعلامٍ ، ويَنْفُخُ فِيهِ : وسائلُ تواصُلٍ ، فَيَبُثُّونَ في الناسِ الْهَلَعَ ، ويُشْرِبُونَهُم الخوفَ .
وهُمُ الذينَ أخافوا الناسَ بِالأمْسِ وَبَثُّوُا فيهِمْ الرُّعْبَ بِنَوازِلَ شَبيهةٍ ، مِثْلُ : انفلونزا الطيورِ والخنازيرِ .. حَتَّى خُيِّلَ لِبَعْضِ النَّاسِ أنَّهَا القاضيةُ !
وَحَتَّى امتَنَعَ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ أَكْلِ الطيورِ أيًّا كَانَتْ ، بَلْ تخوَّفُوا مِنْ لَمْسِ ريشَةٍ مُلْقَاةٍ ! ومِنْ مَسْكِ مِقبَضِ بابٍ !
والإرجَافُ مِنْ خِصالِ الْمُنافِقينَ ( لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلا) .
قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: التَّوَكُّلُ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ جِمَاعُ الإِيمَانِ .
الدَّرسُ السابِع :
أنَّ مَنْشَأَ الأوبئَةِ مِنْ فيروساتٍ صَغِيرَةٍ جِدًا ، لا تُرَى بِالعينِ ، يُهلِكُ اللهُ بِهَا مَنْ شَاءَ مِنَ الأُمَمِ .
أمَا سلَّطَ اللهُ عَلَى فِرعونَ وقومِهِ : الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ ؟!
فَفِي هَذِهِ الأشياءِ - وإنْ دَقَّتْ - عَجَيبُ صُنْعِ اللهِ ، وعَظَيمُ قُدرَتِهِ .
وبيانُ عَجْزِ البَشَرِ وَلَوِ اجتمعُوا ؛ عَنْ فيروسٍ صَغَيرٍ !
وبيانُ عِظَمِ النِّعَمِ التي يَتَقلَّبُ فِيها النَّاسُ ، وَقَدْرِ الصِّحَةِ التي يتنعّمونَ بِهَا .
قَالَ بَكْرٌ الْمُزَنِيُّ : يَا ابْنَ آدَمَ ، إِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَعْلَمَ قَدْرَ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْكَ، فَغَمِّضْ عَيْنَيْكَ.
وَفِي بَعْضِ الآثَارِ : كَمْ مِنْ نِعْمَةٍ لِلَّهِ فِي عِرْقٍ سَاكِنٍ .
الدرسُ الثامِن:
أنَّ العافيَةَ رُبَّمَا مَرَّتْ مِنْ خِلالِ قَنْطَرَةِ الْمَرَضِ ، ورُبَّمَا صَحَّتِ الأبدانُ بالعِلَلِ .
فَكَمْ مِنْ مَرَضٍ دَفَعَ اللهُ بِهِ أمراضًا كثيرةً .
وَكَمْ مِنْ عِلَّةٍ كَانَتْ سَبَبَ شِفَاءِ أَمْرَاضٍ أُخْرَى .
ورُبَّمَا كَانَ الْمَرَضُ سَبَبا لاكتشَافِ أمْرَاضٍ أُخْرَى ، فعُولِجَتْ قَبْلَ استفحالِهَا .
فَكَمْ مِنْ مِحْنَةٍ في طيِّهَا مِنْحَةٌ ، ورُبَّ عِلَّةٍ كَانَتْ سَبَبَ الصِّحَةِ .
الدَّرسُ التاسِع :
أنَّ وَاجِبَ المُسْلِمِ التَّسليمُ للهِ عزَّ وجَلَّ في مواضِعِ القَدَرِ ، وَعَدَمُ الاعترَاضِ ، والرِّضَا عَنِ اللهِ ؛ لأنَّهُ حَكَيمٌ عَلَيمٌ .
فالرِّضَا بِاللهِ ربًّا ، يَقْتضِي : الرِّضا عَنِ اللهِ في مَواقِعِ القَدَرِ ، وعَدَمَ تَسَخُّطِ أقْدَارِه ، والتسليمَ لأحْكَامِه تبارَكَ وَتعالى .
وهَذَا إنَّمَا يَظهرُ بِجلاءٍ ويَتبيَّنُ بِوُضُوحٍ : في حالِ الضَّرّاءِ ، وأمَّا في حَالِ السَّرَّاءِ فالناسُ فيه مُتقَارِبُونَ.
قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَحِمَهُ اللَّهُ : أَصْبَحْتُ وَمَا لِي سُرُورٌ إِلاَّ فِي مَوَاقِعِ الْقَدَرِ .
وقَالَ ذو النُّونِ : ثَلاثَةٌ مِنْ أَعْلامِ التَّسْلِيمِ : مُقَابَلَةُ الْقَضَاءِ بِالرِّضَا، وَالصَّبْرُ عَلَى الْبَلاءِ ، وَالشُّكْرُ عَلَى الرَّخَاءِ .
قَالَ أبو زيدٍ القرطبيُّ :
لا تجزَعنَّ لِمَكْرُوهٍ تُصَابُ بِهِ
فَقَدْ يُؤدِيكَ نَحَوَ الصِّحَةِ المرضُ
واعْلَمْ بِأنَّكَ عَبْدٌ لا فِكَاكَ لَهُ
والعَبْدُ لَيْسَ عَلَى مَولاهُ يَعْتَرِضُ
فَسَلِّمِ الأمْرَ تَسْلَمْ في عَوَاقِبِهِ
وَارْضَ القَضَاءَ فَقَدْ فَازَ الذيْنَ رَضُوا
وإنْ غَدَتْ أزْمَةٌ فَاصْبِرْ لِشِدَّتِهَا
إنَّ الشَّدَائدَ تَأْتِي ثُمَّ تَنْقَرِضُ
والعُسْرُ يَتلُوهُ يُسْرٌ إنْ صَبَرْتَ لَهُ
ضِدَّانِ هَذَا وَهَذَا عِنْدَنَا عَرَضُ
والعيشُ كَالْحُلْمِ أضغَاثٌ مُنَوَّعَةٌ
وسوْفَ يَلْحَقُ بِالإِيقاظِ مُغْتَمِضُ
يا مَنْ تَسَخَّطَ مَا يَجْرِي القضاءُ بِهِ
كَمْ أَنْتَ في سُنَنِ الْهُلاّك تَرْتَكِضُ
مَنَ كَانَ ظَاهِرُهُ نُوراً وباطِنُهُ
لم يُلْفَّ في ظلماتِ الجَهْلِ يَنتهِضُ
وَمَنْ يَكُنْ تَارِكاً شَيْئا لِخَالِقِهِ
فَسَوْفَ يُرضِيهِ مِنْ مَتْروكِهِ العِوَضُ
كتبها :
عبد الرحمن بن عبد الله السحيم
الرياض - رجب / 1435
عيد العنزي
الخطبة معدلة ومختصرة (قصيرة) ومرفق بها ملف ورد بصفحات صغيرة الحجم.. (نصف A4 )
خُطبة عن المرض والوباء
تعميم الوزارة بتاريخ 11/7/1441هـ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي قدّرَ الأقدارَ، خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ ويُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ، وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ.
ثمَّ الصلاةُ على الْمُختارِ سَيِّدِنـا *** مَا وَضّـأَ البَرْقُ في شَّامٍ وفي يَمَنِ
أمَّا بَعْدُ:
عباد الله: اتقوا الله حق التقوى.....
أيها المؤمنون: إنَّ اللهَ يَبْتَلِي عِبادَهُ بالسَّرَّاءِ تَارَّةً، وبِالضَّرَّاءِ تَارَّةً أُخْرَى.
يَبْتَلِيهِمْ بالصِّحَّةِ كَمَا يَبْتَلِيهِمْ بِالْمَرَضِ
يَبْتَلِيهِمْ بِالغِنَى كَمَا يَبْتَلِيهِمْ بِالْفَقْرِ
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: الْفَقْرُ وَالْغِنَى مَطِيَّتَانِ، مَا أُبَالِي أَيُّهُمَا رَكِبْتُ، إِنْ كَانَ الْفَقْرُ فَإِنَّ فِيهِ الصَّبْرَ، وَإِنْ كَانَ الْغِنَى فَإِنَّ فِيهِ الْبَذْلَ.
ومِن الْمُحَالِ دوامُ الْحَالِ.
يَغتَنِي فَقَيرٌ، ويَفْتَقِرُ غَنيٌّ، ويَصِحُّ مَريضٌ، ويَمْرَضُ صَحيحٌ.
فلا حُزْنٌ يَدومُ ولا سُرورُ.. ولا بَأسٌ عَليْكَ وَلا رَخَاءُ
عباد الله: ألا وإنَّ في الْمَرَضِ الذي يصيب الشخص أوالوباء الذي يصيب الناس عامة دُرُوسا وعِبَرا. نستخرجها من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
الدَّرسُ الأوَّلُ:
القَدَرُ ماضٍ، والقضاءُ نافِذٌ، وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ، والْحُكمُ للهِ.
والذي يَجِبُ عَلَى الْمسلِمِ أنْ يَتَفَكَّرَ فِيهِ عِنْدَ نُزولِ الأمراضِ وحُلُولِ الأوبئةِ: مَاذا قدَّمَ لآخرَتِهِ؟
قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ: وَمَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟ هذا هو السؤالُ الْمُهمّ.
وإذا نَزَلَ القَضَاءُ ضَاقَ الفَضَاءُ.
قالَ التِّرْمِذِيُّ: إِذَا جَاءَ الْقَدَرُ عَمِيَ الْبَصَرُ، وَإِذَا جَاءَ الْحَيْنُ غَطَّى الْعَيْنَ.
وصَدَقَ اللهُ: (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ(.
قال ابنُ كَثيرٍ: وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ صَائِرٌ إِلَى الْمَوْتِ لا مَحَالَةَ، وَلا يُنْجِيهِ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، وَسَوَاءٌ عَلَيْهِ جَاهَدَ أَوْ لَمْ يُجَاهِدْ، فَإِنَّ لَهُ أَجَلا مَحْتُومًا، وَأَمَدًا مَقْسُومًا، قال سبحانه وتعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ(
قال ابنُ كَثيرٍ: وَفِي هَذِهِ الْقِصَّةِ عِبْرَةٌ وَدَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَنْ يُغْنِيَ حَذَرٌ مِنْ قَدَرٍ، وَأَنَّهُ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ فَرُّوا مِنَ الْوَبَاءِ طَلَبًا لِطُولِ الْحَيَاةِ ؛ فَعُومِلُوا بِنَقِيضِ قَصْدِهِمْ، وَجَاءَهُمُ الْمَوْتُ سَرِيعًا فِي آنٍ وَاحِدٍ. اهـ.
الدَّرسُ الثاني:
إنَّ مِنْ سُننِ اللهِ: نُزولَ الداءِ والبلاءِ والوباءِ، ثمَّ يَرفعُهَا اللهُ إذَا شَاءَ أنْ يَرْفَعَهَا. وذَلِكَ ابتلاءٌ وامتحِانٌ للعِبادِ
قال عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: إنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلاَءِ، وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلاَهُمْ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السُّخْطُ.
وقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا أَرَادَ اللهُ تَعَالَى بِقَوْمٍ عَذَابًا أَصَابَ الْعَذَابُ مَنْ كَانَ فِيهِمْ، ثُمَّ بُعِثُوا عَلَى أَعْمَالِهِمْ.
قَالَ القُرطبيُّ: فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْهَلاكَ الْعَامَّ مِنْهُ مَا يَكُونُ طُهْرَةً لِلْمُؤْمِنِينَ، وَمِنْهُ مَا يَكُونُ نِقْمَةً لِلْفَاسِقِينَ. اهـ.
والواجب: أنْ يَتَضَرّعَ النَّاسُ عِنْدَ نُزولِ البَلاءِ والوَبَاءِ، وأنْ يَستكينوا ويَرْجِعُوا إلى ربِّهمْ.
قال الله تبارك وتعالى: (فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)
وألا نكون كما كان فِرعون ومَن مَعه: (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آَيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ).
الدَّرسُ الثالِثُ:
عَدَمُ الْهَلَعِ، وتَرْكُ الْجَزَعِ وعدم الهرب منه، قالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الطَّاعُونِ: إِنَّ هَذَا الْوَجَعَ رِجْزٌ، أَوْ عَذَابٌ، أَوْ بَقِيَّةُ عَذَابٍ عُذِّبَ بِهِ أُنَاسٌ مِنْ قَبْلِكُمْ، فَإِذَا كَانَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا، فَلاَ تَخْرُجُوا مِنْهَا وَإِذَا بَلَغَكُمْ أَنَّهُ بِأَرْضٍ فَلاَ تَدْخُلُوهَا. رواه البخاري ومسلم.
قال ابنُ عبدِ البَرِّ: لا يَجُوزُ لأَحَدٍ أَنْ يَقْدِمَ عَلَى مَوْضِعِ طَاعُونٍ لَمْ يَكُنْ سَاكِنًا فِيهِ، وَلا يَجُوزُ لَهُ الْفِرَارُ عَنْهُ إِذَا كَانَ قَدْ نَزَلَ فِي وَطَنِهِ وَمَوْضِعِ سُكْنَاهُ. اهـ.
الدرس الرابع:
أنَّ في الأمراضِ والأوْبِئَة الفَتَّاكَةِ كفارة للخطايا ومنها مَا يَكونُ شهادَةً ورِفْعَةً لِمَنْ يموتُ فِيهِا بإذن الله، قَالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: الشُّهَدَاءُ خَمْسَةٌ: الْمَطْعُونُ، وَالْمَبْطُونُ، وَالْغَرِقُ، وَصَاحِبُ الْهَدْمِ، وَالشَّهِيدُ فِي سَبِيلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وقد دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أُمِّ السَّائِبِ، فَقَالَ: مَا لَكِ يَا أُمَّ السَّائِبِ، تُزَفْزِفِينَ؟ قَالَتْ: الْحُمَّى، لاَ بَارَكَ اللَّهُ فِيهَا، فَقَالَ: لاَ تَسُبِّي الْحُمَّى، فَإِنَّهَا تُذْهِبُ خَطَايَا بَنِي آدَمَ، كَمَا يُذْهِبُ الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ.
ولَمَّا نَزَلَتْ (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) بَلَغَتْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَبْلَغًا شَدِيدًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَارِبُوا، وَسَدِّدُوا، فَفِي كُلِّ مَا يُصَابُ بِهِ الْمُسْلِمُ كَفَّارَةٌ، حَتَّى النَّكْبَةِ يُنْكَبُهَا، أَوِ الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا.
وقال عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: مَا يَبْرَحُ الْبَلاَءُ بِالْعَبْدِ، حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ، وَمَا عَلَيْهِ مِنْ خَطِيئَةٍ.
وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء.
بارك الله لي ولكم.......
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله وحده والصلاة والسلام على من لانبي بعده وبعد:
الدرسُ الخامس:
من الدروس التي نستفيد منها في الأمراض والأوبئة التي تصيب الناس خاصة في زماننا هذا من انتشار مرض الكورونا هو ظهور الإرجاف بين الناس، ويُؤجِّجُ ذلِكَ ويستثيره: وسائلُ إعلامٍ معادية، ويَنْفُخُ فِيهِ: وسائلُ تواصُلٍ هوجاء، فَيَبُثُّونَ في الناسِ الْهَلَعَ، ويُشْرِبُونَهُم الخوفَ.
وهُمُ الذينَ أخافوا الناسَ بِالأمْسِ وَبَثُّوُا فيهِمْ الرُّعْبَ بِنَوازِلَ شَبيهةٍ، مِثْلُ: حمى الوادي المتصدع وانفلونزا الطيورِ وغيرها حَتَّى خُيِّلَ لِبَعْضِ النَّاسِ أنَّهَا القاضيةُ !
بل حَتَّى امتَنَعَ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ أَكْلِ الطيورِ أيًّا كَانَتْ، وتخوَّفُوا مِنْ لَمْسِ ريشَةٍ مُلْقَاةٍ على الأرض!
وهذا الإرجَافُ مِنْ خِصالِ الْمُنافِقينَ التي ينبغي للمسلم الابتعاد عنها وعدم تناقل إشاعات وأخبار لا أساس لها من الصحة وترك بيان ذلك للجهات الرسمية ذات الشأن.
وأخيراً...
لا تجزَعنَّ لِمَكْرُوهٍ تُصَابُ بِهِ
فَقَدْ يُؤدِيكَ نَحَوَ الصِّحَةِ المرضُ
واعْلَمْ بِأنَّكَ عَبْدٌ لا فِكَاكَ لَهُ
والعَبْدُ لَيْسَ عَلَى مَولاهُ يَعْتَرِضُ
فَسَلِّمِ الأمْرَ تَسْلَمْ في عَوَاقِبِهِ
وَارْضَ القَضَاءَ فَقَدْ فَازَ الذيْنَ رَضُوا
وإنْ غَدَتْ أزْمَةٌ فَاصْبِرْ لِشِدَّتِهَا
إنَّ الشَّدَائدَ تَأْتِي ثُمَّ تَنْقَرِضُ
هذا وصلوا رحمكم الله.....
عيد بن محمد بن جريذي العنزي
إمام وخطيب جامع دباس العتيبي بالنسيم الغربي بالرياض
11/07/1441هـ
المرفقات
https://khutabaa.com/forums/رد/357361/attachment/%d8%ae%d9%8f%d8%b7%d8%a8%d8%a9-%d8%b9%d9%86-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%b1%d8%b6-%d9%88%d8%a7%d9%84%d9%88%d8%a8%d8%a7%d8%a1
https://khutabaa.com/forums/رد/357361/attachment/%d8%ae%d9%8f%d8%b7%d8%a8%d8%a9-%d8%b9%d9%86-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%b1%d8%b6-%d9%88%d8%a7%d9%84%d9%88%d8%a8%d8%a7%d8%a1
تعديل التعليق