خطبة عن الرؤى

محمد بن عبدالله التميمي
1444/08/17 - 2023/03/09 13:09PM

الخطبة الأولى

الحمد لله الملك العلام، تفرَّد بالخلق والإحكام، أحمدُه - سبحانه - أظهرَ بديعَ آياته في الأنام، وتفضل بجزيل الإنعام، ومن ذلك المنام، وما يُري فيه من الرؤى والأحلام، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له توحيد إجلال وإعظام، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه بعثه الله على حين فترة من الرسل وانْدراسٍ من السبل فزكَّى به الأرواح وأرشدَ الأفهام، صلَّى الله وسلَّم عليه وعلى آله وصحبِهِ طَيِّبِيْ النفوس راجحي الأحلام، والتابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ رجاء رضى الرحمن والمنزِل العلي من الجِنان والمُقام، أما بعد:

فاتقوا الله العلي، واعلموا أن تقواه - عز وجل - هي السراجُ المُضي، واعملوا بتقواه ينكشف عنكم الظلامُ والقَتام واللَّبْسُ وينجلي، ويُستَرُ الذنب ويُغفر بفضل ربنا الرَّضِي {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}، والفرقان: المخرج والنجاة، والفصل بين الحق والباطل.

عباد الله.. آيةٌ فيها دلالاتٌ وعِبَر، وحارَت فيها دلائلُ الفِكَر، إنها الرُّؤى والأحلام، أوان السُّبات والمنام، ﴿لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ﴾، في بيان معانيها وأقسامها يقول صلى الله عليه وسلم: «الرُّؤيا ثلاثة: فرُؤيا صالحة بُشرى من الله، ورُؤيا تحزينٌ من الشيطان، ورُؤيا مما يُحدِّثُ به المرءُ نفسَه» متفق عليه، وفيهما أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم: «الرُّؤيا الصالحة جزءٌ من ستَّةٍ وأربعين جُزءًا من النبوَّة»، وذلك أن نبوته صلى الله عليه وسلم كانت ثلاثا وعشرين عاما، منها ستة أشهر رؤيا صالحة ثم نزل جبريل بالوحي، ففي الصحيحين عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قال: «كانَ أوَّلَ ما بُدِئَ به رَسولُ اللهِ ﷺ الرُّؤْيا الصّادِقَةُ في النَّوْمِ، فَكانَ لا يَرى رُؤْيا إلّا جاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ»، وفيهما أيضا أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم: «لم يبقَ من النبوَّة إلا المُبشِّرات». قالوا: وما المُبشِرات يا رسول الله؟ قال: «الرُّؤيا الصالحة يَراها العَبْدُ الصّالِحُ، أوْ تُرى له»، فال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (الدعوات المجابة والرؤيا الصادقة لا ينكرها أحد؛ فإن هذا متفق عليه بين المسلمين؛ وهو أن الله تعالى قد يخصّ بعض عباده بإجابة دعائه أكثر من بعض، ويخصّ بعضهم بما يريه من المبشّرات).

وفيهما أيضا أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «إذا اقْتَرَبَ الزَّمانُ لَمْ تَكَدْ رُؤْيا المُسْلِمِ تَكْذِبُ، وأَصْدَقُكُمْ رُؤْيا أصْدَقُكُمْ حَدِيثًا»، ففي هذه الأحاديث: أن الرؤى ثلاثة:

فرؤيا من الله، تَسُرُّ المؤمن ولا تَغُرُّه، ورؤيا من الشيطان تُحزن المسلم ولا تَضُرُّه، ورؤيا مما يُحدِّث به المرءُ نفسَه، استمر معه في المنام بعد اليقظة.

والتوجيه النبويُّ الكريم في الرؤيا من الشيطان «فإنْ رَأى أحَدُكُمْ ما يَكْرَهُ» «فَلْيَنْفُثْ عَنْ يَسارِهِ ثَلاثًا، ولْيَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ» وقال: «فَلْيَقُمْ فَلْيُصَلِّ، فَإنَّها لا تَضُرُّهُ، ولا يُخْبِرْ بِها أحَدًا»، «وأمَرَ مَن رَأى ما يَكْرَهُهُ أنْ يَتَحَوَّلَ عَنْ جَنْبِهِ الَّذِي كانَ عَلَيْهِ»، فَأمَرَ صلى الله عليه وسلم بِخَمْسَةِ أشْياءَ: أنْ يَنْفُثَ عَنْ يَسارِهِ، وأنْ يَسْتَعِيذَ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ، وأنْ لا يُخْبِرَ بِها أحَدًا، وأنْ يَتَحَوَّلَ عَنْ جَنْبِهِ الَّذِي كانَ عَلَيْهِ، وأنْ يَقُومَ يُصَلِّي، ومَتى فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ تَضُرَّهُ الرُّؤْيا المَكْرُوهَةُ، بَلْ هَذا يَدْفَعُ شَرَّها.

عباد الله.. أما الرؤيا الصالحة فلها علامات ودلالات، فهي من الله، وهي صالحة يراها العبد الصالح أو تُرى له، وتَسُر لكن لا تَغُر، فلا يرى الرائي أو المرئي فيه لنفسه مقاما، ولعمله اطمئنانا، بل المُعوَّل على العمل {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ}، فالإنسانُ بعمله مرهون، لا بالرؤى والظنون، كما أن الرؤيا الصالحة تُبشِّر، وربما من الشر تُحذِّر، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا رَأى أَحدُكُم رُؤْيَا يُحبُّهَا فَإنَّما هِيَ مِنَ اللهِ تَعَالَى فَليَحْمَدِ اللهَ عَلَيهَا ولا يُحَدِّثْ بَها إِلاَّ مَنْ يُحِبُّ»، فيحمد الله عليها، ولا يحدث بها كلَّ أحد، بل يخص من يحِب، فهذا حَدُّ الرؤيا الصادقة الصالحة الحسنة على وفق هدي الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، قال ابن القيم رحمه الله: (متى كانت كذلك استحال مخالفتها للوحي؛ بل لا تكون إلّا مطابقةً له، منبِّهةً عليه، ... ومن أراد أن تصدق رؤياه فليتحرَّ الصِّدقَ وأكلَ الحلال والمحافظةَ على الأمر والنّهي، ولينم على طهارةٍ كاملةٍ مستقبلَ القبلة، ويذكر الله حتّى تغلبه عيناه؛ فإنّ رؤياه لا تكاد تكذب البتّة.

وأصدَقُ الرُّؤيا: رؤيا الأسحار، فإنّه وقتٌ للنُّزولِ الإلهيِّ وسكونِ الشّياطين. وعكسه رؤيا العَتَمة عند انتشار الشّياطين والأرواح الشّيطانيّة).

عباد الله.. وفي قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «وأَصْدَقُكُمْ رُؤْيا أصْدَقُكُمْ حَدِيثًا» بيان ارتباط صدق الرؤيا بصدق حديث الرائي، قال القرطبي: (إنما كان ذلك لأن من كَثُرَ صِدْقُه تَنوِّر قلبه، وقَوِيَ إدراكه، فانتقشت فيه المعاني على وجه الصِّحة والاستقامة، وأيضا فإن من كان غالب حاله الصدق في يقظته استصحب ذلك في نومه، فلا يرى إلا صدقا. وعكس ذلك: الكاذب والمخلط يفسد قلبه، ويظلم، فلا يرى إلا تخليطا وأضغاثا) انتهى.

هذا وقد يتعدى كذب بعضهم في اليقظة أن يكذب في المنام، فيقول رأيت لما لم يَرَ، وفي البخاري من حديث واثِلةَ بن الأسقعِ رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «إنَّ مِنْ أعظَم الفَرى أنْ يَدَّعِي الرَّجُلُ إِلَى غَيْرِ أبِيه، أوْ يُري عَيْنهُ مَالم تَرَ»، كأن يقول: رأيت في منامي كذا وكذا ولا يكون قد رآه يتعمد الكذب، وإنما زيد التشديد في هذا على الكذب في اليقظة، كما قال الطِّيْبِي: (لأنه في الحقيقة كذب عليه تعالى فإنه الذي يرسل ملَك الرؤيا بالرؤيا ليريه المنام)، وفي عقوبته جاء حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله ﷺ قال: «من تحَلَّمَ حُلمًا كاذبًا كُلِّفَ أن يعقِدَ بين شعِيرتَينِ، ويُعذَّبُ على ذلك».

اللهم أعظم إيماننا بالوحيين، واجعلنا من الصادقين، واغفر لنا وللمسلمين أجمعين.


 

الخطبة الثانية

الحمد لله حمدًا دائمًا مُتصلاً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خلقَ العبادَ ليبلُوهم أيُّهم أحسنُ عملاً، وأشهدُ أن نبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آلهِ وصحبِه الأُلَى، والتابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين. أما بعد:

فاتقوا الله تعالى واعتصِموا بحبله المتين واستقيموا على صراطه المستقيم، واحذَروا التشبُّث بأضغاث الأحلام وتحزين الشيطان الرجيم.

عباد الله.. لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه رضوان الله عليهم: «من رأى منكم رُؤيا فليقُصَّها أعبُرُها له»، رواه مُسلم، وليس في هذا مُتَمَسَّكٌ لمن يتشاغل كثيرًا بتتبع الرؤى والأحلام، ويتطلّب تفسيرها، لا سيما من يتفرغ لذلك عبر وسائل الاتصال، ويأخذ عليه الأموال، فلْيعلم هؤلاء أن تعبير الرؤيا من قبيل الفتيا {أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ}، مع ما يلزم من معرفة حال الرائي فإن لها تعلُّقًا بالمعنى الذي تُعْبَرُ به الرؤيا، ثم إنه قد كَثُرَ الكذبُ وشاع، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «وأَصْدَقُكُمْ رُؤْيا أصْدَقُكُمْ حَدِيثًا»، فيُتحرَّى في السؤال أهل العلم والفضل، وفي الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تقُصُّوا الرُّؤيا إلى على عالِمٍ أو ناصحٍ»، سُئِل إمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمه الله: أيَعبُرُ الرُّؤيا كلُّ أحد؟ فقال رحمه الله: "أبالنبوة يُلعَب؟!".

وليس كل من عُرِف بتأويل الرؤيا وأصاب في كثير منها يلزم أن يصيب دائما، فقد قال عليه الصلاة والسلام لأبي بكر رضي الله عنه لما سأله عن تعبير رؤيا: «أصبت بعضا وأخطأت بعضا»، وأبو بكر رضي الله عنه كان من المعروفين بتأويل الرؤى.

كما أنه ليس كل ما يظنه الناس رؤيا يكون كذلك؛ بل كثير من الناس يرى ولا تكون رؤياه حقا؛ بل تكون من أحاديث النفس أو تكون من تسويلات الشيطان.

كما أن مما يُنهَى عنه أن يتعلّق الناس بالكتب التي تفسّر الأحلام، أو الرموز والأوهام، فإن متعلَّقات تعبير الرؤيا كثيرة، مع أصلٍ لا يكون لكل أحد وهو هبة اللهُ هذا العلمَ لمن شاء تبارك وتعالى، قال عز وجلَّ في نبيِّه يوسف عليه السلام: ﴿ولِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأحادِيثِ﴾.

المشاهدات 3567 | التعليقات 1

جزاك الله خيرا ياشيخ خطبة موفقة مباركة والادلة والاحاديث زادتها جمالاً وتاثيراً