خطبة عن الحث على النزاهة ومحاربة الفساد
محمد بن عبدالله التميمي
الحمد لله رافعِ السماوات بغير عماد، وباسط الأرض ومُرسيها بالأوتاد، مُدِرِّ الأرزاق على العباد، ومحاسبهم على كسبِهم لها في المعاد، أحمده سبحانه على نعمه التي لا نحصي لها تَعداد. وأشكره وبالشكر تبارَكُ النعم وتزداد. أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة أعدها ليوم التناد. وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله الهادي إلى سبيل الرشاد، بلغ الدين وأوضح معالمه للعباد. اللهم صلِّ عليه وعلى آله وأصحابه البررةِ الأمجاد، وسلم تسليما كثيرا. أما بعد:
فاتَّقُوا الله بِفعل ما أمركم بِهِ، وتركِ ما نهاكم عَنهُ، وإدامةِ الذّكرِ لَه، واستشعارِ الخشية مِنهُ، تبصروا.. فإنكم عَمّا قريب اليه صائرون، ولستم على عَذابه صابِرُونَ، ولا على رفع بأسه قادرون.
عباد الله.. في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: افْتَتَحْنا خَيْبَرَ، ولَمْ نَغْنَمْ ذَهَبًا ولا فِضَّةً، إنّما غَنِمْنا البَقَرَ والإبِلَ والمَتاعَ والحَوائِطَ، ثُمَّ انْصَرَفْنا مع رَسولِ اللهِ ﷺ إلى وادِي القُرى، ومعهُ عَبْدٌ له يُقالُ له مِدْعَمٌ، أهْداهُ له أحَدُ بَنِي الضِّبابِ، فَبيْنَما هو يَحُطُّ رَحْلَ رَسولِ اللهِ ﷺ إذْ جاءَهُ سَهْمٌ عائِرٌ -أي: لا يُدرَى من أين أتى- حتّى أصابَ ذلكَ العَبْدَ، فَقالَ النّاسُ: هَنِيئًا له الشَّهادَةُ، فَقالَ رَسولُ اللهِ ﷺ: «بَلْ، والذي نَفْسِي بيَدِهِ، إنّ الشَّمْلَةَ الَّتي أصابَها يَومَ خَيْبَرَ مِنَ المَغانِمِ، لَمْ تُصِبْها المَقاسِمُ، لَتَشْتَعِلُ عليه نارًا».
إنه الجهاد ذُروة سنام الإسلام، والذي تُبذَلُ فيه الأرواح والمُهَج بالإقدام، ومع ذلك فإنه كما كان من مِدْعَم لما غلَّ من المغنم، كان مُتوَعَّدًا بالعار والنار، كما في الحديث الآخر أيضا عن عبادةَ بنِ الصامت رضي الله عنه قال: إنّ رسولَ اللهِ ﷺ صلّى بهم في غزوةٍ إلى بعيرٍ مِنَ المِقسَمِ فلمّا سلَّمَ قامَ رسولُ اللهِ ﷺ فتناولَ وبَرةً بينَ أُنملتيهِ فقالَ: «إنّ هذِهِ من غنائمِكم وإنّهُ ليسَ لي فيها إلّا نصيبي معَكم إلّا الخُمُسَ مردودٌ عليكم فأدُّوا الخيطَ والمخيَطَ وأكبرَ من ذلكَ وأصغرَ ولا تَغلُّوا فإنّ الغُلولَ نارٌ وعارٌ على أصحابهِ في الدُّنيا والآخرةِ».
إنه مالٌ تعلَّقت به حقوقُ المسلمين أجمعين، فمن أخذ منه بغير حقٍّ فإنه من آثَم المعتدين، فاللهَ اللهَ بالقيام بالأمانة والحفظ لممتلكات بيت مال المسلمين الذي يرعاه ولي الأمر في مصالحهم، ولا يُجرِّأنَّك أن ترى متهاونين، وفيه متوغِّلين، ومنه منتهبين، فإن كل نفس بما كسبت رهينة، والإنسان على نفسه بصيرة، وفي صحيح البخاري عن خولة بنت قيس الأنصارية قالت: سَمِعْتُ النبيَّ ﷺ يقولُ: «إنّ رِجالًا يَتَخَوَّضُونَ في مالِ اللهِ بغيرِ حَقٍّ، فَلَهُمُ النّارُ يَومَ القِيامَةِ»، وفي رواية للترمذي: «إنّ هذا المالَ خضِرةٌ حُلوةٌ، من أصابه بحقِّه بورك له فيه، وربَّ مُتخوِّضٍ فيما شاءت به نفسُه من مالِ اللهِ ورسولِه، ليس له يومَ القيامةِ إلا النارُ». قال المباركفوري: (فالحذر الحذر رحمكم الله من الاعتداء على مال المسلمين العام، لا تأخذ منه شيئًا فإن الله بالمرصاد يوم القيامة)، قال الشيخ ابن عثيمين: (بيت مال المسلمين أعظم من ملك واحد معين، وذلك لأن سرقته خيانة لكل مسلم، بخلاف سرقة، أو خيانة رجل معين، فإنه بإمكانك أن تتحلل منه وتسلم)، وقال: (والموظفون أمانتهم في وظائفهم أن يقوموا بها على الوجه المطلوب، وأن لا يتأخروا في أعمالهم أو يتشاغلوا بغيرها إذا حضروا مكان العمل..) (وهدايا العمال من الغلول -كما قال رسولُ اللهِ ﷺ فمَن كان- في وظيفة حكومية وأهدى إليه أحدٌ ممن له صلة بهذه المعاملة فإنه من الغلول، ولا يحل له أن يأخذ من هذا شيئًا ولو بطيب نفس منه).
(فاتقوا الله أيها المسلمون وأدوا أمانة الله التي حُمِّلْتُموها فقد قال الله تعالى: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ والرَّسُولَ وتَخُونُوا أماناتِكُمْ وأنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾
وفقني الله وإياكم لأداء الأمانة وحمانا جميعا من الإضاعة والخيانة وغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين إنه هو الغفور الرحيم).
الخطبة الثانية
الحمد لله.. له الحمد في الآخرة والأولى، أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له العليُّ الأعلى، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا النبيُّ المصطفى، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه ومن اقتفى، أما بعد: فاتقوا الله وتنزَّهوا في المال، لِيَحسُن لكم الحال والمآل، فإن المفسِدَ الذي يقدم مصالحه الشخصية، حبًّا للذات وأنانية، مضيِّعٌ للأمانة، ومتوغِّلٌ في الخيانة، وذلك أمارة النفاق، وشرارة الشقاق، "وحبُّك الشيء يُعمي ويُصِم"؛ فتجد المفسِدَ لعمله مبرِّرًا، وليس ذلك له من عذاب الله مخلِّصًا.
عباد الله.. وإن من النصح لأئمة المسلمين وعامتهم التواصي بالحق والصبر، وبيان الواجب من رعاية العقود، والوفاء بالعقود، وأداء الأمانات، والبعد عن تدرج الشيطان بالخطوات، فإن الدنيا كما وصف رسول اللهِ ﷺ حلوةٌ خضرة، والامتحان بتملُّكِها أصعب من الامتحان بقِلِّتها، قال سعد بن أبي وقاص: "لأنا لِفتنَةِ السرّاءِ أخوَفُ عليكم من فتنَةِ الضرّاءِ، إنكم قد ابتُليتُم بفتنةِ الضرّاءِ فصبَرتُم، وإن الدنيا خَضِرَةٌ حُلوَةٌ".
هذا ومن تمام النصح وكمال الولاء، والتعاون على البر والتقوى: الإبلاغُ عمَّن يُرى مفسِدًا، وفي بيت مال المسلمين متخوِّضا مترخِّصًا.
اللَّهُمَّ اهْدِنا مِن عِنْدِكَ، وأفِضِ عَلَيْنا مِن فَضْلِكَ، وانْشُرْ عَلَيْنا مِن رَحْمَتِكَ، وأنْزِلْ عَلَيْنا مِن بَرَكاتِكَ، اللَّهُمَّ اكْفِنا بِحَلالِكَ عَنْ حَرامِكَ، وأغْنِنا بِفَضْلِكَ عَمَّنْ سِواكَ.
اللهم وفَّق ولي أمرنا خادمَ الحرمين الشريفين ووليَّ عهده للبرِّ والتقوى، ومن العمل ما ترضى، اللهم أَرِهم الحقَّ حقًّا وارزقهم اتباعه، وأَرِهم الباطلَ باطلًا وارزقهم اجتنابه، اللهم وأعز الإسلام والمسلمين، واحم حوزة الدين، واجعل هذا البلد آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، يا أرحم الراحمين.
اللهم نعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحوُّل عافيتك، وفُجاءَة نقمتك، وجميع سخطك.
اللَّهُمَّ اسْقِنا غَيْثًا مُغِيثًا هَنِيئًا مَرِيئًا مَرِيعًا، غَدَقًا مُجَلِّلًا، عامًّا طَبَقًا، سَحًّا دائِمًا، اللَّهُمَّ اسْقِنا الغَيْثَ، ولا تَجْعَلْنا مِن القانِطِينَ، اللَّهُمَّ إنّ بِالعِبادِ والبِلادِ والبَهائِمِ والخَلْقِ مِن اللَّأْواءِ، والجَهْدِ والضَّنْكِ ما لا نَشْكُو إلّا إلَيْك، اللَّهُمَّ أنْبِتْ لَنا الزَّرْعَ، وأدِرَّ لَنا الضَّرْعَ، واسْقِنا مِن بَرَكاتِ السَّماءِ، وأنْبِتْ لَنا مِن بَرَكاتِ الأرْضِ، اللَّهُمَّ إنّا نَسْتَغْفِرُك إنّك كُنْت غَفّارًا فَأرْسِلْ السَّماءَ عَلَيْنا مِدْرارًا.
اللهم صل على عبدك ورسولك محمد النبيِّ الهاشميِّ الأوفى، وارض اللهم عن الأربعةِ الخلفا، وعن سائرِ الصحابةِ أهلِ الصدق والوفاء، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ ولطريقتِهم اقتفى، وعنَّا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا خيرَ من تجاوزَ وعفى.
المرفقات
1670437187_خطبة عن الحث على النزاهة ومحاربة الفساد -نسخة مصغرة-.docx
1670437187_خطبة عن الحث على النزاهة ومحاربة الفساد -نسخة مصغرة-.pdf