خطبة عن الثبات على الدين حتى الممات

أيوب بن عبدالرحمن الثنيان
1444/07/12 - 2023/02/03 10:07AM

إن الحمدلله نحمده ونستعينه ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لاإله إلا الله وحده لاشريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً وفتح الله به أعيناً عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غُلفاً فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين أما بعد :فاتقوا الله - عباد الله - ( ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تُقاته ولاتموتن إلا وأنتم مسلمون )( ياأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفسٍ واحدة وخلق منها زوجها وبثّ منهما رجالاً كثيراً ونساءا واتقوا الله الذي تساءلون به والأحام إن الله كان عليكم رقيبا ) ثم اعلموا أن خير الحديث كلام الله وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وشرّ الأمور محدثاتها وكل محدثة في دين الله بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار وعليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة ومن شذّ شذّ في النار .

عباد الله : الثبات على الحق حتى الممات مطلبٌ عظيم ومبدأ عزيزٌ كريم لايوفق له إلا النخبة من الأخيار وعلى رأسهم الأنبياء ثم من دونهم من الصالحين من دونهم ، وهو أمانٌ من الله من الوعيد والعقوبة التي تنال كل من نكص وتخاذل عن التمسك بالحق وأساس الثبات الصدق مع الله وسؤال الله الثبات على دينه حتى خروج الروح من الجسد وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل ربه الثبات دائماً وأبداً ففي حديث  شداد بن أوس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا كنز الناس الذهب والفضة فاكنزوا أنتم هؤلاء الكلمات : " اللهم إني أسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد وأسألك شُكر نعمتِك وحسن عبادتك ، وأسألك قلباً سليماً ولساناً صادقاً وأسألك من خير ماتعلم وأعوذ بك من شرّ ماتعلم وأستغفرك لما تعلم إنك أنت علاّم الغيوب " وهذا الحديث له طرق متعددة وأخرجه الإمام أحمد وابن أبي شيبة في مصنفه والطبراني في المعجم الكبير .

عباد الله : الثبات على الحق مع وجود البلاء والفتن والصدود من الناس وإعراض الكثير عن سلوك الصراط القويم وسخريتهم واستهزائهم  حدث مع نوح ٍعليه السلام حينما صد عن الإيمان به قومُه فلم يؤمن به إلا القليل مع كثرة الناس في ذلك الوقت فكانوا حينها قد ملؤا السهول والجبال من كثرتهم ومع ذلك صبر نوح على أذيتهم وثبت ولم ينجرف أو يتنازل عن دينه قدر أنملة مع أنهم يمرون به ويسخرون منه وهو يصنع السفينة ، وثبت ابراهيم حينما ألقي في النار حتى نصره الله وجعلها برداً عليه وسلاماً ، وثبت اسماعيل على بلوى الذبح والإفتداء بنفسه امتثالاً لأمر الله جل وعلا وثبت يعقوب عليه السلام عندما ابتلي بفقد ابنه يوسف سنين عديدة ، وثبت شعيب عليه السلام على دعوة قومه وكذلك لوط على دعوة قومه على خبثهم وفجورهم حتى نجاه الله وثبت موسى في وجه فرعون وعلى أذية بني اسرائيل وثبت عيسى عليه السلام على مكر بني اسرائيل حتى رفعه الله وثبت نبينا محمدٌ وهو خير الصابرين وقدوة الخلق أجمعين على ماناله من الأذى من كفار قريش وثقيف وغيرهم

حتى انتصر على من عاداه وكان  أشدها في يوم العقبة حيث عرض نفسه على ابن عبد ياليل بن عبد كُلال فلم يجبه إلى ماأراد عليه الصلاة والسلام وسخر منه وأغرى بالنبي الكريم السفهاءُ والجهلاء فرموه بالحجارة حتى أدموه فانطلق وهو مهموم على وجهه عليه الصلاة والسلام فلم يستفق إلا وهو بقرن الثعالب - وهي قرن المنازل وميقات السيل اليوم - فانظر لموقف النبي صلى الله عليه وسلم كيف يكون ؟ وكيف يرجع إلى مكة ومن كان فيها من كفار قريش يتربصون به الدوائر ، وأهل الطائف آذوه وعادَوه ، وانظر في المقابل كيف تجلّت رأفته ورحمته بمن عاداه وماذلك إلا أخلاق الأنبياء والصالحين ، فلمّا كان في ذلك الموقف أظلته سحابة فإذا فيها جبريل عليه السلام فقال : " يامحمد ، إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك ، وقد بعث لك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم " فناداني ملك الجبال ، فسلّم عليّ ، ثم قال : " يامجمد ، إن الله قد سمع قول قومك لك ، وأنا ملك الجبال ، وقد بعثني ربي إليك لتأمرني بأمرك ، فما شئت ، إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين " فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " بل أرجو أن يُخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لايُشرك به شيئاً "  أخرجه البخاري

 

عباد الله : الثبات في الأمر أشدّه وقت الفتنة في الدين  وأهل الشهوات يغرون بشهواتهم ويزينون ولولا تثبيت الله ورحمته للأخيار من خلقه لانحرف وزاغ من زاغ  حتى ولو كان نبياً ، ألم تروا إلى قول الله لنبيه وهو خير البشر حيث قال جل وعلا : (( ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً )) ومواقف الثابتين كثيرة ، ولن نذكر موقفاً من مواقف الأنبياء ولا من الصحابة رضوان الله عليهم فأولئك قد رضي الله عنهم ولكن سنذكر قصة لرجل من الصالحين أتى بعد القرون المفضّلة وهو أبو بكر محمد بن احمد الرملي المشهور بابن النابلسي وقد كان رحمه الله  ثبت في وجه طاغية مصر العبيدي فأمر بإحضاره لما بلغه قولاً عنه فلمّا أُحضر بين يديه قال له العبيدي الزنديق : " بلغنا أنك قلت إذا كان مع الرجل عشرة أسهم وجب أن يرمي في الروم سهماً وفينا تسعة " فقال : " ماقلتُ هذا ، بل قلتُ : إذا كان معه عشرة أسهم وجب أن يرمميكم بتسعة وأن يرمي العاشر فيكم أيضاً ، فإنكم غيّرتم الملّة وقتلتُم الصالحين ، وادعيتم نور الإلهية " فسجنه ثم ضربه ثم جاء بيهودي لعين فأمره بسلخه وهو ثابت لايتزعزع ولا يرجع عن مقالته حتى تُوفي رحمه الله  ، ونحن اليوم لايكاد الرجل منّا يصبر على ترك شهوة ، أو هجر معصية من أجل دينه وصلاح آخرته ، فكيف يصبر عند اشتداد البلاء وتغيّر الأحوال لينال أعظم الأجر وحسن المآل . . فاللهم اجعلنا من الصابرين الصادقين وجنبنا الفتنة في الدين فإن العافية أوسع لنا ورحمتَك وسعت كل شيء . . أقول ماتسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم .

================== الخطبة الثانية =================

الحمدلله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد عليه وعلى آله وصحبه أفضل الصلوات والتسليم أما بعد :

فاتقوا الله - عباد الله - واعلموا أن من أسباب النجاة التمسك بوسائل الثبات والعمل بها ومن هذه الوسائل التي تُعين :

- ذكر الله تعالى وذلك أن الإنحراف والزيغ عن الطريق المستقيم سببه تسويل الشيطان وتزيينه طريق السوء في قلب ابن آدم ولا حياة للشيطان في قلبٍ يذكر الله في كل أحيانه وفي الحديث : عن ابن عباس مرفوعاً : " الشيطان جاثم على قلب ابن آدم ، فإذا ذكر الله تعالى خنس ، وإذا غفل وسوس " ورواه البخاري مُعلّقاً

- ومن ذلك الدعاء بما ذكر سابقاً : " اللهم إني أسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد

. . " الحديث فالدعاء يعصم من شرور كثيرة وهو ينفع مما نزل ومما لم ينزل ، فينبغي للعبد المسلم أن يلزمه إلى أن يخرج من هذه الدنيا  وأن يسأل العبدُ ربَّه الهداية بصدق وحق ليكون في صفوف المهتدين ويشكُرُ اللهَ على نعمة الهداية فإن كثيراً ممن انتكسوا أو سقطوا في وحل المعصية والفتنة إما أنهم لم يسألوا ربهم الثبات على هذا الدين وإما أنهم لم يشكروا الله على نعمة الهداية لهذا الدين فسُلبت منهم بعدما آتاهم الله إياها ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يُكثر من قوله : " اللهم يامُقلّب القلوب ثبت قلبي على دينك " 

- ومن ذلك : الإقبال على كتاب الله تعالى وتدبّره فهو يهدي لأقوم سبيل ويداوي العليل ( وقال الذين كفروا لولا نُزّل عليه القرآن جُملة واحدة كذلك لنُثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا ) ( إن هذا القرآنَ يهدي للتي هي أقوم ويبشرُ المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً كبيراً ) وهو يحوي قصص من كانوا قدوةً في الثبات في الخطوب والمدلهمات صغرت أو كبُرت ( كذلك نقص عليك من أنباء الرسل مانثبت به فؤادك . . ) الآية

- ومن ذلك أيضاً مصاحبة الأخيار ومجالستهم والسماع للموعظة بقلبٍ خالٍ من الشواغل والمُلهيات ليتمكن ابنُ آدم من معرفة الحق وإصلاح نفسه وترويضها والأخذ بخطامها لطريق النور والخلاص : ( ولو أنهم فعلوا مايُوعظون به لكان خيراً لهم وأشدَّ تثبيتاً * وإذاً لآتيناهم من لدنّا أجراً عظيما * ولهديناهم صراطاً مستقيما )

- ومما يجدر الإشارة إليه أن التوسع الشديد في المباحات يجرّ إلى المحرم والإثم وإلى الإنتكاسة أيضاً وهذا ملاحظ ونبّه إليه أهل العلم ولهذا تجد أن من الشباب مثلاً بدأ أول حياته بسماع الأناشيد وإنشادها وأدمن ذلك حتى قصّر في بعض السنن ثم قصّر في الواجبات ثم دخل في المحرم من أوسع أبوابه فسقط في فتنة الغناء إما مستمعاً أو مُغنياً والواقع يشهد بذلك فينبغي للعبد أن يحذر من خُطوات الشيطان وحيلته ومكره ويحذر من تساهل النفس بتلك الحِيل وتسويف النفس بالتخلص منها ، وإن النفس لأمّارة بالسوء إلا مارحم ربي إن ربي غفورٌ رحيم . .  ثم صلوا على البشير النذير والسراج المنير نبينا محمد أتقى البريّة وأزكى البشرية

المشاهدات 794 | التعليقات 0