خطبة عن الإنفاق والإحسان وإغاثة أهل السودان

محمد بن عبدالله التميمي
1444/10/20 - 2023/05/10 16:59PM

الحمد لله الغنيِّ في نفسه وعن العالمين، الوليِّ الحميدِ تابَعَ علينا النِّعَمَ ودَفَعَ النِّقَمَ وهو أرحم الراحمين، جعَلَ المالَ بِيَدِ من شاء من خلقه ابتلاء {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}، وحثَّ على الصدقة في سبيله لمصلحة المتصدِّق واللهُ لا يضيع أجر المؤمنين، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جوادٌ محسنٌ كريم، خزائنه ملأى، ويدُه سحَّاءُ الليل والنهار لا تَغِيْظها ولا تُنقِصُها نفقة، فتبارك الله رب العالمين. وأشهد أن محمداً عبدُه ورسولُه، أجودُ الناس، وأكرمُهم، وفي البَذْلِ أسْبَقُهُم، فكان أجودً بالخير من الريحِ المرسَلَة، عليه صلوات رب العالمين. ورضي الله عن أصحابِه المسارعين في الخيرات، المنافسين في الـمَبرَّات، ينفقون مما يحبون، {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}. أما بعد:

فاتقوا الله عباد الله وتوبوا، وبادروا بالأعمال الصالحة قبل أن تُشْغَلُوا، وصِلوا الذي بينكم وبين ربِّكم بكثرة ذكره بالقلب واللسان، وأقيموا برهانَ الإيمان بكثرةِ الصَّدَقَةِ في السِّرِّ والإعلان، تُرزقوا وتُنصروا، قال النبيُّ ﷺ: «هَلْ تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إِلَّا بِضُعَفَائِكُمْ» أخرجه البخاري.

عباد الله.. لقد جَبَلَ اللهُ الإنسانَ على حبِّ المال {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} الخير هنا: المال، {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} فإذا بذله وأنفقه في سبيل الله، وجادت نفسُه به، دلَّ ذلك على صدقِ إيمانه، وعلوِّ مرتبته، وعظيمِ مجاهدته؛ قال النبي ﷺ: «والصَّدَقَةُ بُرْهانٌ»، قال الحافظ ابن رجب: (وسَبَبُ هَذا: أنَّ المالَ تُحِبُّهُ النُّفُوسُ وتَبْخَلُ بِهِ، فَإذا سَمَحَتْ بِإخْراجِهِ لِلَّهِ، دَلَّ ذَلِكَ عَلى صِحَّةِ إيمانِها بِاللَّهِ ووَعْدِهِ ووَعِيدِهِ).

ولذا فقد دعا الله إلى الإنفاق، منادِيا عبادَه بوَصْفِ الإيمان، الباعثِ على الاستجابة والإذعان فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ}.

كما أرشد اللهُ إلى تحقيقِ الإيمان وتثبيتِه فقال: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} فاللهُ تعالى جعلنا مستخلَفين في هذا المال، فهو الذي ملَّكنا إياه، فالـمِـنَّةُ لله علينا بما أعطى، والـمِـنَّةُ له سبحانه بما شرع من الإنفاق، والـمِـنَّةُ له عزَّ شأنُه بأنْ أجزلَ الثواب على ذلك {فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ}.

ثم قال تعالى: {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أيُّ شيءٍ يمنعُكم من الإنفاق، كيف لا تنفقون، وجميعُ الأموال ستنتقل من أيديكم أو عنها تُنْقَلون، ثم يعود الملك إلى مالكه تبارك وتعالى.

فاغتنموا -عبادَ الله المؤمنين- الإنفاقَ ما دامت الأموال في أيديكم، وانتهزوا الفرصة بوجود المال والمحتاج والقدرة، وتذكروا حالة الموت الذي إذا جاء، لم يمكن العبد أن يجود بمثقال ذرة، ﴿وَأَنفِقُوا۟ مِن مَّا رَزَقۡنَـاكُم مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ﴾ متحسرًا على ما فرط في وقت الإمكان، سائلاً الرجعة التي هي مُحَال: ﴿رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ﴾ أي: لأتدارك ما فرطتُّ فأتصدَّقَ من مالي، ما به أنجو من العذاب، وأستحق به جزيل الثواب، ﴿وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ وهذا السؤالُ والتمني قد فاتَ وقتُه، ولا يُمكنُ تداركُه.

عباد الله.. إنَّ مالَكم في الحقيقة ما قدَّمتُموه لأنفسكم؛ ذُخرًا لكم عند ربكم، لا ما جمعتموه فاقتسمه الوَرَثَةُ بعدكم، صحَّ عند الترمذي عن عائشة رضي الله عنها أنهم ذبحوا شاةً، فقال النبي ﷺ: «ما بَقِيَ مِنها»؟ قالَتْ: ما بَقِيَ مِنها إلّا كَتِفُها قالَ ﷺ: «بَقِيَ كُلُّها غَيْرَ كَتِفِها». يعني: ما تصدَّقتِ فهو باقٍ، وما بقي عندك فهو غير باقٍ، كما قال الله تعالى: ﴿ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ﴾، فسوف تنتقلون عن الدنيا أغنياءَ عما خلَّفتم، فقراءَ إلى ما قدَّمتم، وفي الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: «أيُّكُمْ مالُ وارِثِهِ أحَبُّ إلَيْهِ مِن مالِهِ؟» قالُوا: يا رَسُولَ اللَّهِ، ما مِنّا أحَدٌ إلّا مالُهُ أحَبُّ إلَيْهِ، قالَ: «فَإنَّ مالَهُ ما قَدَّمَ، ومالُ وارِثِهِ ما أخَّرَ» وإذا وَرِثَ مالَك مَن بعدَكَ، فإما أن يَرِثُه صالحٌ فيكون أسعدُ به منك، وإما أن يَرِثُه مُفسِدٌ فتكون خلَّفت له ما يستعين به على الإفساد والمعصية.

الصَّدقةُ -عبادَ الله- تَجلِبُ البَرَكة والزِّيادةَ والخَلَفَ مِنَ الله تعالى: قال سبحانه: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} وقد قيل: (منعُ الجود سوءُ ظنٍّ بالمعبود) {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً}.

كما أنَّ الصَّدقةَ مِن أسبابِ النَّجاةِ مِن حرِّ يومِ القيامة، ففي الصحيحين عن أبي هُرَيرَةَ قال: قال النبيُّ ﷺ: «سبعةٌ يُظِلُّهم اللهُ في ظِلِّه يومَ لا ظلَّ إلَّا ظلُّه»، وذكَر منهم: «ورجُلٌ تصَدَّقَ بصَدَقةٍ فأَخفاها؛ حتى لا تعلَمَ شِمالُه ما تُنفِقُ يَمينُه»، وفي الحديثِ الآخَرِ الصحيح: «كُلُّ امْرِئٍ فِي ظِلِّ صَدَقَتِهِ يَوْمَ القِيامَةِ حَتّى يَقْضِيَ اللهُ بَيْنَ النّاسِ».

كما أنَّ الصدقةَ من أسبابِ دُخولِ الجنَّة والعِتقِ مِنَ النَّارِ، ففي الصحيحين عن عَدِيِّ بن حاتِمٍ رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللهِ ﷺ: «ما منكم من أحدٍ إلَّا وسيُكَلِّمه اللهُ يومَ القيامةِ، ليس بينَ اللهِ وبينه تَرجمانٌ، ثمَّ ينظُرُ فلا يرى شيئًا قُدَّامَه، ثم ينظُرُ بين يَديَه فتَستقبِلُه النَّارَ؛ فمَن استطاعَ منكم أن يتَّقِيَ النَّارَ ولو بِشِقِّ تَمرةٍ».

واعلموا عباد الله أن صدقاتكم لا تجدونها كما أنفقتموها، بل خيرا وأعظمَ أجرا {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} { يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ } قال رسولُ اللهِ ﷺ: «مَن تصدَّق بعَدلِ تَمرةٍ، مِن كسْب طيِّبٍ- ولا يَقبَلُ اللهُ إلَّا الطيِّبَ- فإنَّ اللهَ يتقبَّلها بِيَمينِه، ثم يُرَبِّيها لصاحِبِها كما يُرَبِّي أحَدُكُم فَلُوَّه، حتى تكونَ مِثلَ الجَبَلِ» متفق عليه.

هدانا الله لما في القرآن من البينات والهدُى، وللعمل بِهَديِ النبيِّ المصطفَى، وبارك لنا فيما أعطى، ووفقنا لما يُحبُّ ويرضى.

أقول قولي هذا وأسأل الله أن يغفر لي ولكم وللمسلمين أجمعين.

الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبدُه ورسوله، عبد الله حق عبادته ودعا إلى رضوانه، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه. أما بعد:

فإن من أعظم ما يُرجى لتفريج الكربة ورفع الشدة في الدنيا والآخرة، كما في الصحيحين عن ابن عمر أن رسول الله ﷺ قال: «المُسْلِمُ أخُو المُسْلِمِ، لا يَظْلِمُهُ ولا يُسْلِمُهُ، مَن كانَ فِي حاجَةِ أخِيهِ كانَ اللهُ فِي حاجَتِهِ، ومَن فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً، فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ بِها كُرْبَةً مِن كُرَبِ يَوْمِ القِيامَةِ». فالجزاء من جنس العمل؛ فجزاء التفريج في الدنيا تفريجٌ في الدنيا والآخرة، على عِظَمِ شدائدِ الآخرة وأهوالِها، ومَسِيْسِ الحاجةِ إلى ما يُخفِّفُها، حين يكون الإنسانُ أحوجَ ما يكون إلى فضلِ الله ورحمتِه، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء.

وقد مسَّ إخواننا في السودان الضُّر، ونظَّم وليُّ الأمر ويسَّر سُبُل البِر، عبر منصة ساهم، فكن فيها مساهِم، وذلك من تحقيق آصرة الأخوة ورابطة الدين؛ بالوقوف مع المكروبين الذين نزلت الشدائد بساحتهم، فأعينوهم بما يَنفعُهم ولا يضرُّكم، لتَحْظَوا برِضوان ربِّكم.

ثم صلوا عباد الله وسلموا على نبينا محمدٍ، صلاة وسلامًا دائمين سائرَ الأيام، وزيادة منهما في هذا اليوم سيِّدِ الأيامِ على سيِّدِ الأنام، عليه الصلاة والسلام.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، واحم حوزة الدين، ودمر أعداء الدين، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيد بالحق إمامنا وولي أمرنا، وولي عهده، ووفقهما لما تحب وترضى يا سميع الدعاء.

اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفجاءة نقمتك، وجميع سخطك. اللهم زدنا ولا تنقصنا، وأكرمنا ولا تهنا، وأعطنا ولا تَحْرِمْنا، وآثرنا ولا تُؤْثِر علينا، وأرضنا وارض عنا يا رب العالمين.

المرفقات

1683727153_خطبة عن الإنفاق والإحسان وإغاثة أهل السودان.docx

1683727153_خطبة عن الإنفاق والإحسان وإغاثة أهل السودان.pdf

المشاهدات 5109 | التعليقات 0