خطبة ( عجبا لكم أيها الأباء ) .. مختصرة من خطبة هلال الهاجري .
سعيد الشهراني
الخطبة الأولى :
الحمدُ للهِ، رفيعِ الدَرَجاتِ، مُسبِغِ النِّعمِ والبَرَكاتِ، مَنَّ علينا بطُرقِ الخَيراتِ والرَّحماتِ، وهدانا إلى الطاعاتِ والقُرُباتِ، أحمدُه سبحانَه وأشكُرُه، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِه وصحبِه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعدُ: أوصيكم ونفسي بتقوى الله عزو جل ( يا أيها الذين امنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) .
عباد الله : تحيةٌ عَطْراءُ .. ورِسالةُ وفاءُ .. لكم منَّا الشُّكرُ والثَّناءُ .. ولكم منَّا التَّقديرُ والدُّعاءُ .. إليكم يا رمزَ العطاءِ .. إليكم أيُّها الآباءُ.
الحديثُ عن الآباءِ، هو حديثٌ عن أصحابِ الفضلِ الكريمِ، الذي قرنَه اللهُ تعالى بحقِّهِ العظيمِ، فقالَ سُبحانَه: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا). وكما جاء في السنة عن رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ، أنه قالَ: (إِنَّ جِبْرِيلَ أَتَانِي، فَقَالَ: مَنْ أَدْرَكَ أَبَوَيْهِ أَوْ أَحَدَهُمَا فَلَمْ يَبَرَّهُمَا، فَمَاتَ فَدَخَلَ النَّارَ فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ، قُلْ: آمِينَ، فَقُلْتُ: آمِينَ).
( عجباً لكم أيُّها الآباءُ ) .. تبذلونَ أوقاتَكم وأعمارَكم وأموالَكم وصِحتَكم وشبابَكم في سبيلِ أن يكونَ الأبناءُ والبناتُ سُعداءَ، ولا تَطلبونَ منهم شُكراً ولا أجراً ولا ثواباً ولا عِوضاً ولا ثناءً، يضحكُ الأبناءُ والبناتُ عندما يكونوا سُعداءَ، وتضحكونَ أنتم عندما ترونَهم سُعداءَ .. تعملونَ الأعمالَ الشَّاقةَ ليلاً ونهاراً لتجمعونَ الأموالَ الدِّرهمَ مع الدِّينارِ، ثُمَّ تنفقونها بطيبِ نفسٍ في لُعبةٍ أو هديةٍ أو حَلوى لرسمِ الإبتسامةِ على أفواهِ الصِّغارِ.
( عجباً لكم أيُّها الآباءُ ) .. لم نسمع منكم يوماً تذمَّراً على ما تبذلونَه، ولم نسمعُ يوماً مَنَّاً على ما تُنفقونَه، ولم نسمعْ منكم يوماً شكوىً على ما تُعانونَه .. تقتصدُ في إنفاقِكَ على نفسِكَ، ليستمتعَ أحبابُ قلبِكَ، فهذا ثوبُكَ الذي عهدناهُ عليكَ، وهذا شِماغُكَ الذي ما زالَ عليكَ، وهذه نعالُكَ اليتيمةُ، وهذه سيارتُكَ القديمةُ، وأما الأبناءُ والبناتُ فثيابُهم ونعالُهم نظيفةٌ جديدةٌ، وسياراتُهم وجوالاتُهم حديثةٌ فريدةٌ.
( عجباً لكم أيُّها الآباءُ ) .. كيفَ يُعاني أحدكُم عندما يمرضُ ولدُه، حتى إنَّه ليتفطَّرَ لآهاتِه فؤادُه وكَبِدُه، فلا تعلمُ أيُّهما أشدُّ ألماً ومعاناةً، الولدُ المريضُ أم الوالدُ الذي قتلتْهُ المأساةُ، مَن يراكَ يظُنُّ أنكَ مُتماسكٌ ثابتُ الجَنانِ، وأنت في داخلِك قد تضعضعَتْ منكَ الأركانُ، عندَها سَنَعلمُ الحِكمةَ من ابتلاءِ الصِّغارِ، وأنَّه حسناتٌ ورفعٌ لدرجاتِ الكِبارِ، كم عانيتَ وتألمتَ، وكم صَبرتَ وكَتَمتْ، بل قد يُعاني الأبُّ السِّنينَ مُرَّ الفِراقِ، والابنُ بعيدٌ سعيدٌ في طلبِ الأرزاقِ، وشتانَ ما بينَ الغروبِ والإشراقِ، (وَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَىٰ عَلَىٰ يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ).
( عجباً لكم أيُّها الآباءُ ) .. يُسيءُ إليكَ الابنُ وتدعو لهُ، يبخلُ عليكَ وتكرمُه، يَبعدُ عنكَ وتدنو منه، يكذبُ عليكَ وتَصدقُ معه، تحبُّه وتتمنى سعادتَه ولو أبغضَكَ، تتمنى حياتَه ولو تمنى موتَكَ، أعظمُ الألمِ هو أن تراهُ عاقاً عاصياً هائماً، وأنتَ تُناديهِ: يا بُنيَّ أقبلْ على ربِّكَ تائباً نادماً .
( عجباً لكم أيُّها الآباءُ ).. قد يحسدُ الإنسانُ أقربَ قريبٍ على شيءٍ حقيرٍ، ولكن لا يحسدُ الأبُّ ابنَه ولو حازَ الفضلَ كبيرَ.
( عجباً لكم أيُّها الآباءُ ) .. الرَّجلُ إذا رأى من هو أعلمُ منه امتلأَ همَّاً، إلا الأبُّ إذا رأى ابنَه أفضلَ منه عِلماً، واسمعوا لإبراهيمَ عليهِ السَّلامُ وهو يُخاطبُ أباهُ: (يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا)، لأنَّه يعلمُ أنَّ الأبَّ يفتخرُ بعلمِ الابنِ، ولا يَفهمُ من ذلكَ التَّكبرَ والتَّعالي والمّنَّ.
( عجباً لكم أيُّها الآباءُ ) .. وأنتم تزيدونَ في طاعتِكم وعبادتِكم وصلاحِكم من أجلِ الأبناءِ، لأنَّكم تعلمونَ أن حِفظَ الأولادِ قد يكونُ بسببِ صلاحِ الآباءِ، كما قالَ تعالى: (وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ )
( عجباً لكم أيُّها الآباءُ ) .. وأنتم تلهجونَ بالذِّكرِ والدُّعاءِ، لأجلِ صلاحِ البناتِ والأبناءِ، كما وصفَ اللهُ تعالى عبادَ الرَّحمنِ، الذينَ مدحَهم وأثنى عليهم في القرآنِ، (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا).
باركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ ونفعني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذِّكرِ الحكيمِ، وجعلني وإياكم من الصَّالحينَ، أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ لي ولكم ولوالدينا فاستغفروه إنَّه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وصلاة وسلاما على خير المرسلين ... أما بعد :
( عجباً لكم أيُّها الآباءُ ) .. تكونونَ بيننا فنغفلُ عنكم، فإذا تركتمونا عَرفنا فضلَكم، ننشغلُ عنكم في حياتِكم كثيراً، فإذا فارقتمونا اشتقنا إليكم كثيراً، بَعدَكَ أيُّها الأبُّ عَرفَ الأبناءُ معاني الفقرِ والخوفِ، وقد كانوا يسمعونَ عنها ولا يَروها، فقد كانوا يَحتمونَ تحتَ جناحِكَ الوديعِ، ويأخذونَ ما أرادوا من جيبِكَ الوَسيعِ، كم اشتقنا بعدَكم للصِّدقِ والدَّلالِ والحنانِ، كم اشتقنا للنَّصيحةِ من أصدقِ إنسانِ.
( عجباً لكم أيُّها الآباءُ ) .. قد لا تكونوا أعطيتمونا كلَّ ما نتمناهُ، ولكنَّ الأكيدَ أنكم أعطيتمونا كلَّ ما تملكونَ، فهذا الشَّعرُ الأبيضُ في رؤوسِكم، هو قِصةُ النَّعيمُ الذي نحنُ فيه، وهذا الانحناءُ في ظُهورِكم هو سببُ الاستقامةِ في حياتِنا .. فعجباً لكم يا رمزَ العطاءِ.
( عجباً لكم أيُّها الأبناءُ )، يا من أدركتُم الآباءَ، كيفَ تتذمرونَ من حرصِهم ونُصحِهم لكم، وخوفِهم عليكم وحبِّهم لكم، فأينَ البِّرُ والوفاءُ والإحسانُ، فهل جزاءُ الإحسانِ إلا الإحسانُ .
هذا وصلوا وسلموا على نبيكم محمد ....
اللَّهُمَّ إِنّا نَسْأَلُكَ بِأَنـَّا نَشْهَدُ أَنَّكَ أَنْتَ اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ، الأَحَدُ الْفَرْدُ الصَّمَدُ، الّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ، أَنْ تَجْزِيَ آبَاءَنا وَأُمَّهَاتِنا عَنَّا خَيْرَ الْجَزَاءِ، اللَّهُمَّ اجْزِهِمْ عَنَّا خَيْرَ الْجَزَاءِ وَاغْفِرْ لَهُمْ وَارْحَمْهُمْ كَمَا رَبـُّونا صِغَاراً، اللَّهُمَّ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ حَيّاً فَمَتِّعْهُ بِالصِّحَّةِ وَالعَافِيَةِ عَلَى طَاعَتِكْ، وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ فِي دَارِ الْحَقِّ فَتَوَلَّهُ بِرَحْمَتِكَ وَأَنْزِلْ عَلَيْهِ مِنْ وَاسِعِ رَحْمَتِكَ، اللَّهُمَّ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مَرِيضاً فَاشْفِهِ وَعَافِهِ يَا رَبَّ العَالَمِينَ، وَأَسْبِلْ عَلَيْهِ ثَوْبَ الصِّحَّةِ وَالعَافِيَةِ يا أَكْرَمَ الأَكْرَمِينَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِوَالِدَيْنَا، اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا بِهِمَا مِنَ البَارِّينَ الْمُشْفِقِينَ العَطُوفِينَ، وَاجْعَلْنَا قُرَّةَ عَيْنٍ لَهُما فِي الدُّنْيا وَالآخِرَةِ، وَارْزُقْنا بِـرَّ أَبْنائِنا وَبَناتِنا يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ .
عباد الله : اذكروا الله العلي العظيم يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ماتصنعون .