خطبة : ( شهر الانتصار )
عبدالله البصري
الخطبة الأولى :
أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ "
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، مَن عَلِمَ حَقَارَةَ الدُّنيَا وَسُرعَةَ فَنَائِهَا لم يَأسَفْ عَلَى مَا فَاتَهُ مِنهَا ، وَمَن عَلِمَ حَقِيقَةَ الآخِرَةِ وَبَقَاءَ نَعِيمِهَا حَرِصَ عَلَى أَلاَّ يَفُوتَهُ شَيءٌ مِن فُرَصِهَا ، أَمَّا وَقَد مَضَى مِن رَمَضَانَ أَكثَرُ مِن نِصفِهِ ، فَإِنَّ عَلَى المُسلِمِ أَن يَقِفَ مَعَ نَفسِهِ وَقفَةَ مُحَاسَبَةٍ جَادَّةً ، يَسأَلُ فِيهَا نَفسَهُ :
مَاذَا قَدَّمَ فِيمَا مَضَى ؟
وَعَلامَ هُوَ عَازِمٌ فِيمَا بَقِيَ ؟
هَل وَعَى الدَّرسَ الرَمَضَانيَّ الكَبِيرَ فَانتَصَرَ عَلَى نَفسِهِ وَقَتَلَ شَهَوَاتِهَا وَحَطَّمَ أَصنَامَهَا ؟
هَل حَقَّقَ العُبُودِيَّةَ التَّامَّةَ لِرَبِّهِ امتِثَالاً وَاجتِنَابًا ؟
إِنَّ عَلَى المُسلِمِ وَقَد مَضَى أَكثَرُ شَهرِهِ وَقَدَّمَ فِيهِ مَا قَدَّمَ ، أَن يَحذَرَ مِن آفَةٍ طَالما أَصَابَتِ السَّالِكِينَ فَجَعَلَتِ استِفَادَةَ بَعضِهِم مِن مَوَاسِمِ العِبَادَةِ لَيسَت بِتِلكَ ، تِلكُم هِيَ آفَةُ الفُتُورِ بَعدَ النَّشَاطِ وَالتَّرَاخِي بَعدَ الشِّدَّةِ ، ، وَالَّتي مِنَ البَلاءِ أَنَّهَا لا تُصِيبُ صَاحِبَهَا إِلاَّ في خِتَامِ الشَّهرِ وَلَيَالي العَشرِ ، وَبَدَلاً مِن الازدِيَادِ وَالتَّزَوُّدِ بَعدَ التَّعَوُّدِ ، تَخُورُ القُوَى وَتَفتُرُ العَزَائِمُ ، وَيَظهَرُ الكَلالُ وَيَدِبُّ إِلى النُّفُوسِ المَلالُ ، وَمَا هَكَذَا يَنبَغِي أَن يَكُونَ المُؤمِنُ ، كَيفَ وَقَد قَالَ اللهُ ـ تَعَالى ـ : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ "
فَطَرِيقُ الفَلاحِ فِيهِ مِنَ الطُّولِ مَا فِيهِ ، وَيَعتَرِي سَالِكَهُ مِنَ التَّعَبِ مَا يَعتَرِيهِ ، وَقَد حُفَّتِ الجَنَّةُ بِالمَكَارِهِ ، وَمَن بَعُدَت عَلَيهِ الشُّقَّةُ وَاستَهوَتهُ الأَعرَاضُ القَرِيبَةُ ، تَقَاصَرَت هِمَّتُهُ دُونَ اتِّبَاعِ الهَادِي وَتَخَلَّفَ عَن رَكبِ النَّاجِينَ ، وَمِن ثَمَّ كَانَ لا بُدَّ مِن الصَّبرِ وَالمُصَابَرَةَ وَالمُرَابَطَةِ ، وَإِتقَانِ العَمَلِ وَالإِحسَانِ وَالمُجَاهَدَةِ ، وَبَذلِ الجُهدِ وَتَقوَى اللهِ قَدرَ الاستِطَاعَةِ ، لَعَلَّ الفَلاحَ أَن يَكُونَ خَاتِمةَ العَبدِ وَثَمَرَةَ عَمَلِهِ ، وَلَعَلَّ رَبَّهُ أَن يَرزُقَهُ مِن مَعِيَّتِهِ مَا يَتَقَوَّى بِهِ عَلَى طَاعَتِهِ وَيَهتَدِي بِهِ إِلى سُبُلِ مَرضَاتِهِ
" إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَالَّذِينَ هُم مُحسِنُونَ "
" وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهدِيَنَّهُم سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ المُحسِنِينَ "
ثُمَّ إِنَّ رَمَضَانَ ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ لم يَكُنْ لَدَى أُمَّةِ الإِسلامِ في يَومٍ مِنَ الأَيَّامِ شَهرَ كَسَلٍ وَلا مَوسِمَ بَطَالَةٍ ، وَلا عَرَفَ الأَسلافُ فِيهِ الخُمُولَ وَلا الضَّعفَ وَلا الوَهْنَ ، وَلا استَسلَمُوا فِيهِ وَلا استَكَانُوا ، ذَلِكُم أَنَّ هَذَا الشَّهرَ الكَرِيمَ كَانَ مَولِدَ الإِسلامِ وَمَشرِقَ نُورِهِ ، وَفِيهِ بَعَثَ اللهُ مُحَمَّدًا ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ، وَلِيُخرِجَ بِهِ النَّاسَ مِن ظُلُمَاتِ الشِّركِ وَأَسرِ الهَوَى ، إِلى نُورِ الإِيمَانِ وَسَعَةِ الهُدَى ، وَيَشهَدُ التَّأرِيخُ الإِسلامِيُّ المَجِيدُ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ المَعَارِكِ الفَاصِلَةِ الَّتي انتَصَرَ فِيهَا المُسلِمُونَ عَلَى أَعدَائِهِم ، وَأَنَّ عَدَدًا مِن تِلكَ الفُتُوحِ الَّتي فَرَّقَت بَينَ الحَقِّ وَالبَاطِلِ ، وَأَنَّ تَحطِيمَ أَكبَرِ الأَصنَامِ وَإِرغَامَ أُنُوفِ أَلَدِّ الأَعدَاءِ ، كَانَ في شَهرِ رَمَضَانَ ، في رَمَضَانَ يَومُ الفُرقَانِ ، يَومَ التَقَى الجَمعَانِ ، ثَلاثُ مِئَةٍ وَبِضعَةَ عَشَرَ رَجُلاً مِنَ المُوَحِّدِينَ الصَّابِرِينَ ، يَهزِمُونَ أَلفًا مِنَ المُشرِكِينَ بِإِذنِ اللهِ ، لِيَثبُتَ أَنَّ النَّصرَ لَيسَ بِالعَدَدِ الكَثِيرِ وَلا بِالسِّلاحِ الوَفِيرِ ، وَلَكِنَّهُ ثَمَرَةُ إِخلاصٍ مَقرُونٍ بِجَمِيلِ تُوَكُّلٍ عَلَى اللهِ وَصِدقِ التِجَاءٍ إِلَيهِ ، وَفي رَمَضَانَ جَاءَ نَصرُ اللهِ وَكَانَ فَتحُ مَكَّةَ ، فَجَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ البَاطِلُ ، وَتَهَاوَت أَنصَابُ الشِّركِ وَطُهِّرَ البَيتُ الحَرَامُ مِنَ الرِّجسِ ، وَفي رَمَضَانَ رَجَعَ المُسلِمُونَ مِن غَزوَةِ تَبُوكَ بَعدَ مَوَاقِفِ بَذلٍ مَشهُودَةٍ وَمَقَامَاتِ صِدقٍ رَائِعَةٍ ، وَفِيهِ دَخَلَ المُسلِمُونَ الأَندَلُسَ لِيُقِيمُوا فِيهَا الإِسلامَ أَكثَرَ مِن خَمسَةِ قُرُونٍ ، وَفي رَمَضَانَ فُتِحَت عَمُّورِيَّةَ استِجَابَةً لِصَرخَةِ امرَأَةٍ مَكلُومَةٍ ، وَفي رَمَضَانَ انتَصَرَ المُسلِمُونَ عَلَى التَّتَارِ في مَعرَكَةِ عَينِ جَالُوتَ ، وَفِيهِ ـ عَلَى خِلافٍ بين المُؤَرِّخِينَ ـ وَقَعَت مَعرَكَتَا الزّلاقَةِ وَبَلاطِ الشُّهَدَاءِ .
نَعَم ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ لَقَد كَانَ رَمَضَانُ مَولِدًا لِلإِسلامِ ومُبتَدَأَ نَصرٍ لِلمُسلِمِينَ ، وَمَشرِقَ فَتحٍ مُبِينٍ وَمِفتَاحَ مَجدٍ كَرِيمٍ .
فِيهِ انتَصَرُوا عَلَى الطُّغَاةِ المُعتَدِينَ ، وَفيهِ أَذَلُّوا الجَبَابِرَةَ المُشرِكِينَ .
وَفِيهِ هُدِمَ هُبَلُ وَمَعَهُ أَكثَرُ مِن ثَلاثِ مِئَةٍ وَسِتِّينَ صَنَمًا حَولَ الكَعبَةِ المُشَرَّفَةِ , وَفِيهِ بَعثَ الرَّسُولُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ خَالِدَ بنَ الوَلِيدِ لِيَهدِمَ العُزَّى فَهَدَمَهَا ، وَفِيهِ بَعثَ عَمرَو بنَ العَاصِ لِيَهدِم سُوَاعًا فَهَدَمَهُ ، وَفِيهِ بَعَثَ سَعدَ بنَ زَيدٍ لِيَهدِمَ مَنَافًا فَهَدَمَهُ .
وَللهِ في تَقدِيرِ كُلِّ تِلكَ الانتِصَارَاتِ وَالفُتُوحَاتِ الحِكمَةُ البَالِغَةُ ، وَإِنَّهَا لإِشَارَاتٌ بَالِغَةٌ وَدُرُوسٌ لِلمُسلِمِينَ عَظِيمَةٌ ، تَبقَى مُعتَبَرًا في كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ وَفي كُلِّ عَصرٍ وَمِصرٍ ، تَفهَمُهَا الأَجيَالُ لاحِقًا بَعدَ سَابِقٍ ، وتَستَلهِمُهَا النُّفُوسُ خَلَفًا بَعدَ سَلَفٍ ، لِيُوقِنَ المُسلِمُونَ أَنَّ شهَرَهُم شَهرُ جِدٍّ لا شَهرَ كَسَلٍ ، وَشَهرُ عَطَاءٍ وَإِقدَامٍ لا شَهرَ بَخلٍ وَنُكُوصٍ ، وَشَهرُ انتِصَارٍ وَعِزٍّ لا شَهرَ هَزِيمَةٍ وَذُلٍّ ، وَشَهرُ وُضُوحٍ وَفُرقَانٍ لا شَهرَ مُصَانَعَةٍ وإِدهَانٍ ، فَلا يَذِلُّوا وَلا يُدَاهِنُوا ، وَلا يَنهَزِمُوا أَمَامَ أَيِّ عَدُوٍّ وَلا يَقِفَ أَمَامَهُم أَيُّ صَنَمٍ ، سَوَاءً هَوَى نَفسٍ كَانَ أَو دَاعِيَ شَهوَةٍ ، أَو عَادَةً شَخصِيَّةً أَو عُرفًا اجتِمَاعِيًّا ، أَو قُوَّةً مَادِّيَّةً بَاهِرَةً أَو تَقَدُّمًا حَضَارِيًّا سَاحِرًا ، أَو دِعَايَاتٍ إِعلامِيَّةً مُضَلِّلَةً أَو مَشَاهِدَ تَمِثِيلِيَّةً فَاتِنَةً . إِنَّ رَمَضَانَ بِأَيَّامِهِ المُبَارَكَةِ وَلَيَالِيهِ المُشرِقَةِ كَانَ وَمَا زَالَ فُرصَةً لِلمُؤمِنِ الصَّادِقِ لِيُظهِرَ اعتِزَازَهُ بِدِينِهِ ، وَلِيُعلِنَ اعتِدَادَهُ بِعَقِيدَتِهِ ، وَلِيُنَادِيَ مُفتَخِرًا بِاتِّبَاعِهِ شَرِيعَةَ رَبِّهِ وَتَمَسُّكِهِ بِسُنَّةِ نَبِيِّهِ ، وَلِيُعَلِّقَ قَلبَهُ وَقَالَبَهُ بِمَولاهُ ـ جَلَّ وَعَلا ـ وَحدَهُ دُونَ سِوَاهُ ، وَلِيَنصُرَهُ ـ تَبَارَكَ وَتَعَالى ـ في أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ ، لِيَنصُرَهُ رَبُّهُ كَمَا وَعَدَهُ حَيثُ قَالَ :" إِن تَنصُرُوا اللهَ يَنصُرْكُم وَيُثَبِّتْ أَقدَامَكُم "
أَلا فَاتَّقُوا اللهَ ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ وَانَصُرُوهُ بِتَقدِيمِ مَا يُحِبُّهُ وَيَرضَاهُ عَلَى مَا تُحِبُّونَ وَتَشتَهُونَ ، اُنصُرُوهُ بِنَصرِ الحَقِّ وَأَهلِهِ ، بَل قَبلَ كُلِّ ذَلِكَ انتَصِرُوا عَلَى نُفُوسِكُمُ الَّتي بَينَ جُنُوبِكُم ، انتَصِرُوا عَلَى شَهَوَاتِكُم ومَلَذَّاتِكُم ، حَقِّقُوا العُبُودِيَّةَ التَّامَّةَ لهِه ـ سُبحَانَهُ ـ وَالاستِسلامَ لَهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا ، حَطِّمُوا الأَصنَامَ الَّتي في الصُّدُورِ ، فَإِنَّهُ لا نَصرَ لِلأُمَّةِ وَلا غَلَبَةَ ، وَلا عِزَّ لَهَا وَلا تَمكِينَ ، إِلاَّ بِأَن يَنتَصِرَ أَفرَادُهَا عَلَى أَعدَائِهِمُ الدَّاخِلِيَّينَ وَيَهزِمُوهُم ، مِن نُفُوسِهِمُ الأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ ، وَشَيَاطِينِ الإِنسِ وَالجِنِّ الَّذِينَ لا يَأَلُونَهُم خَبَالاً ، أَمَّا أَن يَنهَزِمَ المُسلِمُونَ أَمَامَ هَوَى نُفُوسِهِم وَشُحِّهَا ، وَيَستَسلِمُوا لِنَزَغَاتِ شَيَاطِينِهِم وَيُسَلِّمُوا لهمُ القِيَادَ ، وَيَسقُطُوا في مَعرَكَةِ سَاعَةٍ أَو نِصفِ سَاعَةٍ أَو دَقَائِقَ مَعدُودَةٍ ، يُوَاجِهُهُم فِيهَا مُمَثِّلُونَ طَائِشُونَ ، ويَستَرِقُّهُم فِيهَا مُغَنُّونَ مَاجِنُونَ ، فَيَطرَحُونَهُم أَرضًا يَضحَكُونَ وَيَستَهزِئُونَ بِدِينِهِم وَهُم سَامِدُونَ ، أَو يُخلِدُوا لِلفُرُشِ وَيُقَدِّمُوا النَّومَ عَلَى الصَّلاةِ ، أَو تُلهِيَهُم أَموَالُهُم وَأَولادُهُم عَن ذِكرِ اللهِ ، فَمَا أَحرَاهُم حِينَئِذٍ أَن تَدُومَ هَزِيمَتُهُم وَتَظهَرَ إِهَانَتُهُم " وَمَن يُهِنِ اللهُ فَمَا لَهُ مِن مُكرِمٍ إِنَّ اللهَ يَفعَلُ مَا يَشَاءُ "
وَ" مَن كَانَ يُرِيدُ العِزَّةَ فَلِلَّهِ العِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيهِ يَصعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالعَمَلُ الصَّالِحُ يَرفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُم عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ "
نَعَمْ ـ عِبَادَ اللهِ ـ لا عِزَّةَ إِلاَّ بِاللهِ وَلا نَصرَ إِلاَّ مِن عِندِهِ ، وَلا عِزَّةَ وَلا نَصرَ إِلاَّ بِالكَلِمِ الطَّيِّبِ وَالعَمَلِ الصَّالِحِ ، هَذِهِ هِيَ العِزَّةُ الحَقِيقِيَّةُ وَالعُلُوُّ التَّامُّ وَالسُّلطَانُ القَاهِرُ ، إِنَّهَا الاستِعلاءُ عَلَى شَهَوَاتِ النَّفسِ وَتَحطِيمُ أَصنَامِ الهَوَى وَالعَادَاتِ ، والانفِكَاكُ مِن قُيُودِ الرَّغَبَاتِ وَالنَّزَعَاتِ ، وَالتَّخَلُّصُ مِن ذُلِّ البُخلِ وَقَهرِ الشُّحِّ ، إِنَّهَا خَشيَةٌ للهِ وَتَقوَى ، وَمُرَاقَبَةٌ لَهُ في السِّرِّ وَالنَّجوَى ، فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ .
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ : " أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمسِ إِلى غَسَقِ اللَّيلِ وَقُرآنَ الفَجرِ إِنَّ قُرآنَ الفَجرِ كَانَ مَشهُودًا . وَمِنَ اللَّيلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَن يَبعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحمُودًا . وَقُلْ رَبِّ أَدخِلْني مُدخَلَ صِدقٍ وَأَخرِجْني مُخرَجَ صِدقٍ وَاجعَلْ لي مِن لَدُنْكَ سُلطَانًا نَصِيرًا . وَقُلْ جَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ البَاطِلُ إِنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا . وَنُنَزِّلُ مِنَ القُرآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحمَةٌ لِلمُؤمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالمِينَ إِلاَّ خَسَارًا "
الخطبة الثانية :
أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ " يَا قَومِ إِنَّمَا هَذِهِ الحَيَاةُ الدُّنيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ القَرَارِ . مَن عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجزَى إِلاَّ مِثلَهَا وَمَن عَمِلَ صَالِحًا مِن ذَكَرٍ أَو أُنثَى وَهُوَ مُؤمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدخُلُونَ الجَنَّةَ يُرزَقُونَ فِيهَا بِغَيرِ حِسَابٍ "
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، صُمتُم أَيَّامًا مَعدُودَاتٍ وَقُمتُم لَيَاليَ نَيِّرَاتٍ ، وَذَهَبَ الظَّمَأُ وَابَتَلَّتِ العُرُوقُ وَثَبَتَ الأَجرُ إِن شَاءَ اللهُ ، لَقَد قَدَّمتُم مَا قَدَّمتُم وَاجتَهَدتُم وَبَذَلتُم ، وَذَهَبَ الكَثِيرُ وَلم يَبقَ إِلاَّ القَلِيلُ ...
غَدًا تُوَفَّى النُّفُوسُ مَا كَسَبَت ... وَيَحصُدُ الزَّارِعُونَ مَا زَرَعُوا
إِن أَحسَنُوا أَحسَنُوا لأَنفُسِهِم ... وَإِن أَسَاؤُوا فَبِئسَ مَا صَنَعُوَا
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، لَقَد كَانَ السَّلَفُ الصَّالِحُ يَجتَهِدُونَ في إِتمَامِ العَمَلِ وَإِكمَالِهِ وَإِتقَانِهِ ، ثُمَّ يَهتَمُّونَ بَعدَ ذَلِكَ بِقَبُولِهِ وَيَخَافُونَ مِن رَدِّهِ ، أَلا وَإِنَّ مِن إِتقَانِ العَمَلِ الحِرصَ عَلَى الإِحسَانِ في الخَوَاتِيمِ ، فَكَيفَ إِذَا كَانَتِ الخَوَاتِيمُ هِيَ العَشرَ المُبَارَكَةَ الَّتي فِيهَا لَيلَةُ القَدرِ ، العَشرُ الَّتي كَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ يَجتَهِدُ فِيهَا مَا لا يَجتَهِدُ في غَيرِهَا . وَالَّتي كَانَ إِذَا دَخَلَت شَدَّ مِئزَرَهُ وَأَحيَا لَيلَهُ وَأَيقَظَ أَهلَهُ ؟!
لَقَد كَانَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ يَخلِطُ العِشرِينَ بِصَلاةٍ وَنَومٍ ، فَإِذَا دَخَلَتِ العَشرُ شَمَّرَ وَشَدَّ المِئزَرَ ؛ وَمَا ذَاكَ إِلا لِعِلمِهِ بما في هَذِهِ العَشرِ مِنَ الأُجُورِ المُضَاعَفَةِ وَالحَسَنَاتِ المُتَكَاثِرَةِ ، فَكَانَ لِهَذَا يَجتَهِدُ فِيهَا اجتِهَادًا عَظِيمًا وَيَتَفَرَّغُ لِلطَّاعَةِ تَفَرُّغًا تَامًّا ، حَتَّى إِنَّهُ كَانَ يَعتَكِفُ فِيهَا فَيَلزَمُ المَسجِدَ وَيَقطَعُ العَلائِقَ بِالخَلائِقِ ، كُلَّ هَذَا مِن أَجلِ أَن يُوَافِقَ لَيلَةَ القَدرِ ، تِلكَ اللَّيلَةُ المُبَارَكَةُ الَّتي يَعدِلُ العَمَلُ فِيهَا عَمَلَ ثَلاثٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً وَنَيِّفٍ ، في الصَّحِيحَينِ عَن عَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهَا ـ قَالَت : كَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى الهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ يَعتَكِفُ العَشرَ الأَوَاخِرَ مِن رَمَضَانَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللهُ ، ثُمَّ اعتَكَفَ أَزوَاجُهُ مِن بَعدِهِ .
وَفي صَحِيحِ مُسلِمٍ عَن أَبي سَعِيدٍ الخُدرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : إِنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ اعتَكَفَ العَشرَ الأَوَّلَ مِن رَمَضَانَ ، ثُمَّ اعتَكَفَ العَشرَ الأَوسَطَ في قُبَّةٍ تُركِيَّةٍ عَلَى سُدَّتِهَا حَصِيرٌ ، قَالَ : فَأَخَذَ الحَصِيرَ بِيَدِهِ فَنَحَّاهَا في نَاحِيَةِ القُبَّةِ ثُمَّ أَطلَعَ رَأسَهُ فَكَلم النَّاسَ فَدَنَوا مِنهُ فَقَالَ : " إِنِّي اعتَكَفتُ العَشرَ الأَوَّلَ أَلتَمِسُ هَذِهِ اللَّيلَةَ ، ثُمَّ اعتَكَفتُ العَشرَ الأَوسَطَ ، ثُمَّ أُتِيتُ فَقِيلَ لي إِنَّهَا في العَشرِ الأَوَاخِرِ ، فَمَن أَحَبَّ مِنكُم أَن يَعتَكِفَ فَليَعتَكِفْ " فَاعتَكَفَ النَّاسُ مَعَهُ . الحَدِيثَ .
وَقَد أَرشَدَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلم ـ أُمَّتَهُ إِلى تَحَرِّي هَذِهِ اللَّيلَةِ وَالتِمَاسِهَا وَطَلَبِ مُوَافَقَتِهَا ، في البُخَارِيِّ عَن عَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهَا ـ قَالَت : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلم ـ : " تَحَرَّوا لَيلَةَ القَدرِ في الوِترِ مِنَ العَشرِ الأَوَاخِرِ مِن رَمَضَانَ "
وَفي مُسلِمٍ عَنِ ابنِ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا ـ قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " التَمِسُوهَا في العَشرِ الأَوَاخِرِ ـ يَعني لَيلَةَ القَدرِ ـ فَإِن ضَعُفَ أَحَدُكُم أَو عَجَزَ فَلا يُغلَبَنَّ عَلَى السَّبعِ البَوَاقِي "
أَلا فَاتَّقُوا اللهَ ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ مَا استَطَعتُم ، وَقَدِّمُوا لأَنفُسِكُم خَيرَ مَا تَجِدُونَ ، فَإِنَّ اللهَ لا يَمَلُّ حَتى تَمَلُّوا .
المشاهدات 8732 | التعليقات 9
خطبة ممتازة وموافقة للحدث
نفع الله بك وبعلمك ..
شهر الانتصار
تمت إضافتها في الخطب المختارة (شهر الانتصارات)
فضيلة الشيخ عبدالله البصري
خطبة قيمة
اسأل الله أن يكتب لكم الأجر وأن ينفع بجهودكم
أسأل الله أن يبلغك الفردوس الأعلى من الجنة
على ما تقدم أسأل الله أن يرزقك الإخلاص في القول والعمل
خطبة مميزة ومتميزة
كتب الله أجرك وأحسن إليك
ومبارك عليكم العشر شيخ عبدالله وجميع إخواننا الخطباء
بارك الله لك في كل ما وهبك وزادك من كل خير
بارك الله في علمك وعملك ووقتك و صحتك وزوجك وولدك
شكر الله لك صنيعك في هذه الخطبة
جزى الله خيرًا كل من مر وقرأ ودعا .
وأسأل الله أن يعيننا جميعًا على ما يحبه وأن يوفقنا لما يرضيه ، وألا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين .
" رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ . رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ "
وإن غزوة بدر الكبرى ، والتي وقعت في مثل هذا اليوم ، والفتوح العظيمة التي قدرها العزيز الحكيم في هذا الشهر ، والأحداث التي سُرِدَ قليلٌ منها إجمالاً في هذه الخطبة ، إنما هي في الحقيقة داع للأمة للانتصار في شهر الانتصار ، والذي جعلته في أعقاب الزمن ومتأخر السنوات شهر خمول وكسل وبطالة ، وموسم لهو ولعب وضحك ، وميدان تنافس في أنواع المآكل وألوان المشارب ، وساعات جوع وخواء نهاري ولحظات شبع وعب شهوات ليلية .
بل إن الصيام الذي كتبه الله علينا وعلى من قبلنا ، والذي هو أظهر عبادات رمضان هو ذاته نوع من التغلب والانتصار ، وتحطيم أصنام العادات والمشتهيات والرغبات ، وفيه أكبر الدروس لتعليم النفوس معاني عظيمة لا يتحقق النصر إلا بها كالتسليم والانقياد والطاعة ، والصبر والمصابرة والمرابطة ، وتقديم ما يريده الرب ويرضاه على ما يشتهيه العبد ويهواه ، وتنظيم الوقت وترتيبه والتعود على الجد والأخذ بالعزائم من الأمور .
إن غزوة بدر وغيرها من الغزوات التي وقعت في هذا الشهر المبارك ، وإن كان فيها دروس وعبر وفوائد لا تحصى ، غير أن موضوع الانتصار الداخلي مما يجب أن يركز عليه دائمًا ، خاصة ونحن نرى في عصرنا هزائم داخلية متعددة ، يوقعها بنا أضعف الأعداء وأحقرهم يومًا بعد يوم في قعر بيوتنا ، لتعطي مؤشرًا على أن إعدادنا الداخلي ما زال ضعيفًا جد ضعيف . انظر إلى :
· النوم عن الصلوات المكتوبة في رمضان .
· التهاون بما يقرب إلى الله وعدم التزود من التقوى في شهر التقوى .
· سوء الخلق من بعض الصائمين .
· الشح وعدم البذل في تفطير الصائمين وقضاء الحاجات وتفريج الكربات ، بل البخل بالزكوات .
· تتبع المساجد التي تخفف صلاة التراويح تخفيفًا مخلاًّ .
· عدم التمكن من ختم كتاب الله ولو مرة واحدة .
· التسمر أمام القنوات والمسلسلات مع ما فيها من منكرات ومخالفات ، ولا سيما ما كان منها عقديًّا كالاستهزاء بالدين ولمز الصالحين .
· التشاحن والتباغض والتقاطع والتدابر وعدم التسامح .
· إطلاق الأبصار والأسماع في الأسواق وعدم إنكار المنكرات وتضييع أنفس الساعات في التسوق .
إن هذه وأمثالها تدل على أن بين الأمة وبين النصر مفازات ومهاوي لا تقطعها أسرع الرواحل ولا تردمها أكبر الجبال ، ومن ثم فإنه يجب أن نسعى بكل ما أوتينا من قوى لتحطيم الأصنام التي في النفوس ، وأن نستنهض قوانا ونحيي العزة في نفوسنا ونعيد لها الكرامة التي أرادها الله بنا حين جعلنا مسلمين ؟!
يا إخوتاه !!
يا قوماه !!
يا أمتاه !!
أنلوم الأعداء ونحن من انهزمنا لهم وكشفنا لهم الصدور ؟!
متى ننتصر على هذه الشراذم التي أحاطت بنا وأوهمتنا بالضجيج والجلبة أن لها علينا النصر والغلبة ، من ممثلين وصحفيين وإعلاميين وكتاب فسقة وشياطين إنس وجن ؟!
متى نعود إلى جند الله وأنصار دينه ، فننضم إلى ركبهم ونسير تحت لوائهم ؟!
متى نطيع الله فيما أمرنا حيث قال : " يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله " ؟!
متى نحقق الشرط " إن تنصروا الله " ليتحقق لنا الجزاء " ينصركم ويثبت أقدامكم " ؟!
" رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ "
" رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ "
اللهم تقبل صيامنا وقيامنا وصالح أعمالنا ، وتجاوز عن تقصيرنا ، واستر عيوبنا واغفر ذنوبنا .
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار .
نزولاً عند رغبة الشيخ الكريم إبراهيم الحقيل التي فهمتها من مراسلة خاصة دارت بيني وبينه ، فإني أنبه إلى أنه تم تعديلٌ يسيرٌ في هذه الخطبة بتصحيح كريم من فضيلته ، ونصح لطيف أرسله إلي إثر نشرها أول مرة ، فزعمت في ردي عليه حينها أن الأصل في النصيحة أن تكون سرًّا ، مع أني لم أكن أجهل أن ما انتشر وظهر فالنصح يكون فيه ظاهرًا ولا غضاضة في ذلك ولا كرامة لأحد ، وكنت في ذلك ملتمسًا لنفسي العذر وطالبًا لكريم تلطفه وجهًا ، غير أنه أبى إلا الصراحة ، وها هي بين أيديكم .
فلعيتمد كل من أخذ الخطبة أول مرة ما هو مرقومٌ الآن ، وهو سرد الغزوات والمعارك التي وقعت في رمضان ، حيث أضيفت إليها معركتا الزلاقة وبلاط الشهداء ، وحذفت حطين وفتح بيت المقدس وفتح القسطنطينية ؛ لأنها تاريخيًّا لم تقع في رمضان .
وأعلن من الآن أن سرد هذه الوقعات والمعارك على ذمة الشيخ إبراهيم ـ وفقه الله ـ فما يكن من تصحيح فهو عليه ، وأنا برييييييييييييء .:p
وأذكر بأن الواجب على الإخوة جميعًا ممن يقرأ أن ينصح ، وعلى الكاتب القبول والإذعان للحق .
ولكن بآداب النصيحة المعروفة ، وبالأسلوب المناسب الذي لا يجرح :(
فأنتم تعرفون أننا في زمن القلوب فيه رقيقة :)
والخواطر من زجاج .;)
أسأل الله أن يجعلنا وإياكم من المتبعين للحق المذعنين له .
عبدالله محمد الروقي
أثابك الله ورفع درجاتك وسدد خطاك شيخنا الفاضل
تعديل التعليق