خطبة : ( ستكتب شهادتهم ويسألون )
عبدالله البصري
1438/08/16 - 2017/05/12 03:41AM
ستكتب شهادتهم ويسألون 16 / 8 / 1438
الخطبة الأولى :
أَمَّا بَعدُ ، فَـ" يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم وَالَّذِينَ مِن قَبلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ "
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، تَعجَبُ مِن تَسَارُعِ بَعضِ النَّاسِ إِلى ارتِكَابِ كَبَائِرَ وَمُوبِقَاتٍ ، وَوُقُوعِهِم وَهُم يَتَعَامَلُونَ مَعَ إِخوَانِهِمُ المُسلِمِينَ في مَآخِذَ وَمُهلِكَاتٍ ، وَتَجَاوُزِهِم في ذَلِكَ حُدُودَ الشَّرعِ وَالأَدَبِ وَالمُرُوءَةِ ، فَإِذَا تَأَمَّلتَ وَتَفَكَّرتَ ، وَجَدتَ اللهَ – تَعَالَى – يَقُولُ عَن أَهلِ النَّارِ إِذَا دَخَلُوهَا : " وَقَالُوا لَو كُنَّا نَسمَعُ أَو نَعقِلُ مَا كُنَّا في أَصحَابِ السَّعِيرِ "
وَيَقُولُ – سُبحَانَهُ - : " وَلَقَد ذَرَأنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الجِنِّ وَالإِنسِ لَهُم قُلُوبٌ لا يَفقَهُونَ بِهَا وَلَهُم أَعيُنٌ لا يُبصِرُونَ بِهَا وَلَهُم آذَانٌ لا يَسمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنعَامِ بَل هُم أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الغَافِلُونَ "
وَيَقُولُ – تَبَارَكَ وَتَعَالى - : " وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللهُ قَالُوا بَل نَتَّبِعُ مَا أَلفَينَا عَلَيهِ آبَاءَنَا أَوَلَو كَانَ آبَاؤُهُم لا يَعقِلُونَ شَيئًا وَلا يَهتَدُونَ "
أَجَل – أَيُّهَا الإِخوَةُ – إِنَّهَا العُقُولُ إِذَا عُطِّلَت عَمَّا خُلِقَت لَهُ ، وَالبَصَائِرُ إِذَا صُرِفَت إِلى مَا لم تُكَلَّفْ بِهِ ، وَالأَفكَارُ إِذَا سُلِّمَت لِعَادَاتِ الآبَاءِ وَرُسُومِ الأَجدَادِ ، وَاتَّبَعَ النَّاسُ بَعضُهُم بَعضًا ، وَجَامَلَ كُلٌّ مِنهُمُ الآخَرَ ، وَصَارَ اهتِمَامُ أَحَدِهِم بِمَا يُمدَحُ بِهِ في هَذِهِ الدُّنيَا أَو يُذَمُّ ، وَالتَفَتَ عَمَّا يُسَجَّلُ لَهُ أَو عَلَيهِ مِن حَسَنَاتٍ أَو سَيِّئَاتٍ ، فَحِينَئِذٍ فَلا عَجَبَ مِن تَعَجُّلِهِ في هَدمِ بِنَاءِ الأُخُوَّةِ الإِسلامِيَّةِ ، وَمُسَارَعَتِهِ إِلى قَطعِ الرَّوَابِطِ الإِيمَانِيَّةِ ، وَاندِفَاعِهِ مَعَ أَبنَاءِ العَمِّ وَالأَقَارِبِ ، وَتَعَصُّبِهِ لِلقَبِيلَةِ وَالعَشِيرَةِ ، وَظُلمِ الأَبَاعِدِ وَبَهتِهِم ، وَالبَغيِ عَلَيهِم وَبَخسِهِم حُقُوقَهُم ، وَالإِعَانَةِ عَلَيهِم بِغَيرِ حَقٍّ وَاحتِقَارِهِم ، وَهَضمِهِم وَتَجَاهُلِهِم وَاستِصغَارِهِم ...
أَلا وَإِنَّ في مُجتَمَعَاتِنَا مِن ذَلِكَ مُمَارِسَاتٍ جَاهِلِيَّةً مُوجِعَةً ، وَتَصَرُّفَاتٍ شَيطَانِيَّةً مُؤسِفَةً ، أَعظَمُهَا الاعتِدَاءُ عَلَى النُّفُوسِ وَإِزهَاقُ الأَروَاحِ ، لا لِشَيءٍ إِلاَّ لِلتَّعَصُّبِ وَالانتِصَارِ لِلنُّفُوسِ وَاتِّبَاعِ الهَوَى ، وَأَمَّا مَا دُونَ ذَلِكَ مِن هَتكِ حُقُوقِ الأُخُوَّةِ الإِسلَامِيَّةِ ، لأَجلِ التَّعَصُّبِ القَبَلِيِّ وَالتَّنَاصُرِ العُنصُرِيِّ ، فَحَدِّثْ عَنهُ وَلا حَرَجَ ، مِمَّا يَشُكُّ المُسلِمُ مَعَهُ هَل دَخَلَ الإِيمَانُ قُلُوبَ أُولَئِكَ المُتَعَصِّبِينَ أَم لم يَدخُلْهَا ؟! وَهَل عَرَفُوا حَقَّ المُسلِمِ عَلَى أَخِيهِ المُسلِمِ أَم جَهِلُوهُ ؟! وَهَل هُم مُصَدِّقُونَ بِأَنَّهُم مَبعُوثُونَ لِيَومِ عَظِيمٍ " يَومَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ العَالَمِينَ " أَم هُوَ التَّجَاهُلُ وَالتَّعَامِي عَنِ الحَقِّ ، وَرَفضُ مَا جَاءَ بِهِ الشَّرعُ وَنِسيَانُ الدَّارِ الآخِرَةِ ؟!
وَإِذَا صَرَفنَا الكَلامَ عَن عُمُومِ مَا يَتَنَاصَرُ بِهِ النَّاسُ تَعَصُّبًا لِكَثرَتِهِ وَتَشَعُّبِهِ ، فَلْنَأخُذْ آفَةً وَاحِدَةً تَظهَرُ في مُجتَمَعِنَا بَينَ حِينٍ وَحِينٍ ، هِيَ كَبِيرَةٌ مِنَ الكَبَائِرِ المُهلِكَةِ ، وَمُوبِقَةٌ مِنَ المُوبِقَاتِ المُردِيَةِ ، وَجَرِيمَةٌ في حَقِّ الأُخُوَّةِ فَادِحَةٌ مُخزِيَةٌ ، يُرفَعُ بِهَا مَن لا يَستَحِقُّ الرِّفعَةَ ، وَيُوضَعُ بِهَا مَن هُوَ حَقِيقٌ بِالإِشَادَةِ ، وَيُمنَعُ بِهَا حَقٌّ بَيِّنٌ ، وَيَتَظَالَمُ النَّاسُ بِسَبَبِهَا وَيَبغِي بَعضُهُم عَلَى بَعضٍ ، وَيَتَبَاغَضُونَ وَيَتَنَافَرُ وُدُّهُم ، وَبَدَلاً مِن أَن يَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقوَى ، إِذَا هُم في البَاطِلِ يَتَنَاصَرُونَ ، وَإِلى الجَاهِلِيَّةِ يَخِفُّونَ وَيَطِيشُونَ ، قُرِنَت هَذِهِ المَعصِيَةُ في الذَّمِّ بِالإِشرَاكِ بِاللهِ وَعُقُوقِ الوَالِدَينِ وَقَتلِ النَّفسِ ، وَعَدَّهَا الحَبِيبُ – عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ – في عَلامَاتِ السَّاعَةِ ، أَتَدرُونَ مَا هَذِهِ الجَرِيمَةُ المُنكَرَةُ ؟!
إِنَّهَا شَهَادَةُ الزُّورِ وَقَولُ الزُّورِ ، قَالَ – سُبحَانَهُ - : " فَاجتَنِبُوا الرِّجسَ مِنَ الأَوثَانِ وَاجتَنِبُوا قَولَ الزُّورِ "
وَفي الصَّحِيحَينِ عَن أَبي بَكرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنهُ – قَالَ : قَالَ النَّبيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - : " أَلا أُنَبِّئُكُم بِأَكبَرِ الكَبَائِرِ ثَلَاثًا " قَالُوا : بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ . قَالَ : " الإِشرَاكُ بِاللهِ وَعُقُوقُ الوَالِدَينِ " وَجَلَسَ وَكَانَ مُتَّكِئًا فَقَالَ : " أَلا وَقَولُ الزُّورِ " قَالَ : فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلنَا لَيتَهُ سَكَتَ "
وَفي الصَّحِيحَينِ أَيضًا عَن أَنَسِ بنِ مَالِكٍ – رَضِيَ اللهُ عَنهُ - عَنِ النَّبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ – قَالَ : " أَكبَرُ الكَبَائِرِ الإِشرَاكُ بِاللهِ وَقَتلُ النَّفسِ وَعُقُوقُ الوَالِدَينِ ، وَقَولُ الزُّورِ أَو قَالَ وَشَهَادَةُ الزُّورِ "
وَقَالَ – عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ - : " إِنَّ بَينَ يَدَيِ السَّاعَةِ تَسلِيمَ الخَاصَّةِ ، وَفُشُوَّ التِّجَارَةِ ، حَتَّى تُعِينَ المَرأَةُ زَوجَهَا عَلَى التِّجَارَةِ ، وَقَطعَ الأَرحَامِ وَشَهَادَةَ الزُّورِ ، وَكِتمَانَ شَهَادَةِ الحَقِّ وَظُهُورَ القَلَمِ " أَخرَجَهُ الإِمَامُ أَحمَدُ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ .
وَحِينَمَا يَتَحَدَّثُ مُتَحَدِّثٌ عَن قَولِ الزُّورِ وَشَهَادَةِ الزُّورِ ، يَتَبَادَرُ إِلى الأَذهَانِ مَحكَمَةٌ وَقَاضٍ وَخُصُومٌ ، وَشُهُودٌ يُدلُونَ بِشَهَادَتِهِم وَهُم كَاذِبُونَ ، وَالحَقُّ أَنَّ قَولَ الزُّورِ وَشَهَادَةَ الزُّورِ أَعَمُّ مِن ذَلِكَ وَأَوسَعُ ، وَخَاصَّةً في عَصرِنَا الَّذِي صَارَتِ الكَلِمَةُ فِيهِ تَطِيرُ في الجَوِّ وَتَبلُغُ الآفَاقَ في ثَوَانٍ مَعدُودَةٍ ، وَتَصِلُ إِلى المَشَارِقِ وَالمَغَارِبِ في لَحَظَاتٍ قَلِيلَةٍ ، فَتَتَنَاوَلُهَا الأَلسِنَةُ في كُلِّ مَجلِسٍ ، وَتَخُوضُ فِيهَا الأَقلامُ في كُلِّ وَقتٍ ، تَصوِيرًا وَتَعلِيقًا ، وَسُخرِيَةً وَاستِهزَاءً ، وَهَمزًا وَلَمزًا ، وَإِعَادَةً وَزِيَادَةً ، وَلا تَسَلْ عَن تَأثِيرِهَا في النُّفُوسِ بَعدَ ذَلِكَ ، وَمَا قَد يُبنَى عَلَيهَا مِن قَرَارَاتٍ أَو يُصدَرُ بِسَبَبِهَا مِن أَحكَامٍ . وَيَنسَى الكَاتِبُ مَا كَتَبَهُ ، وَيَغفَلُ المُتَحَدِّثُ عَمَّا تَحَدَّثَ بِهِ ، وَيَتَجَاهَلُ النَّاسُ أَثَرَ مَا خَاضُوا فِيهِ أَو كَتَبُوهُ بِأَيدِيهِم في لَحظَةِ تَعَصُّبٍ ، أَو نَشَرُوهُ عَلَى مَوَاقِعِ التَّوَاصُلِ الاجتِمَاعِيِّ لإِسقَاطِ فُلانٍ ، أَو وَقَّعُوا عَلَيهِ في عَرَائِضِ الشَّكَاوَى الجَمَاعِيَّةِ العُنصُرِيَّةِ ضِدَّ شَخصٍ أَو أَشخَاصٍ ، نَعَم – أَيُّهَا الإِخوَةُ - يَنسَى الجَمِيعُ أَنَّ كُلَّ هَذَا مُندَرِجٌ تَحتَ قَولِهِ – تَعَالى - : " سَتُكتَبُ شَهَادَتُهُم وَيُسأَلُونَ " فَالكَلِمَةُ مَسؤُولِيَّةٌ ، وَالحُكمُ عَلَى النَّاسِ أَمَانَةٌ ، وَالإِدلاءُ بِالرَّأيِ في شَخصٍ في مَجلِسٍ أَو بَرنَامَجِ تَوَاصُلٍ أَو في شَكوَى جَمَاعِيَّةٍ عُنصُرِيَّةٍ ، كُلُّ ذَلِكَ شَهَادَةٌ سَيُسأَلُ عَنهَا صَاحِبُهَا أَمَامَ اللهِ : هَل كَتَبَهَا لِوَجهِ اللهِ نُصرَةً لِمَظلُومٍ ، أَو أَبدَاهَا إِحقَاقًا لِحَقٍّ أَو إِزهَاقًا لِبَاطِلٍ ، أَم أَنَّهَا مِن قَبِيلِ (سَمِعتُ النَّاسَ يَقُولُونَ قَولاً فَقُلتُهُ) أَجَل - أَيُّهَا الإِخوَةُ - هَل يَستَطِيعُ الكَاتِبُ وَالمُتَحَدِّثُ وَالشَّاهِدُ وَالمُدلِي بِرَأيِهِ في أَمرٍ مَا ، هَل يَستَطِيعُ إِذَا سُئِلَ عَمَّا قَالَ وكَتَبَ أَن يَقُولَ : نَعَم رَأَيتُ وَسَمِعتُ ، وَعَايَشتُ بِنَفسِي وَعَلَى ذَلِكَ وَقَفتُ ، وَمَا شَهِدتُ إِلاَّ بِمَا عَلِمتُ وَتَيَقَّنتُ ، وَمَا قُلتُ إِلاَّ حَقًّا لا شَكَّ فِيهِ ، هَل سَيَقُولُ ذَلِكَ بِثِقَةٍ وَعَن عِلمٍ وَدِرَايَةٍ ، أَم أَنَّهُ سَيَتَلعثَمُ وَيُغلَقُ عَلَيهِ لَو سُئِلَ في تَحقِيقٍ دُنيَوِيٍّ ؟!
أَلا فَمَا أَسرَعَ كَثِيرًا مِنَ الغَوغَاءِ اليَومَ إِلى اتِّخَاذِ مَوقِفِهِ وَإِعلانِ حُكمِهِ عَلَى النَّاسِ وَالإِفصَاحِ عَن رَأيِهِ ، لا عَن عِلمٍ وَيَقِينٍ وَبَصِيرَةٍ ، وَلَكِنْ بِنَاءً عَلَى ظَنٍّ كَاذِبٍ ومَعلُومَاتٍ مُلَفَّقَةٍ ، وَأَحَادِيثِ مَجَالِسَ مُزَوَّرَةٍ ، وَغِيبَةٍ فَاحِشَةٍ وَأَقوَالٍ مُرَدَّدَةٍ ، وَفَزعَةٍ مَعَ أَبنَاءِ العَمِّ أَوِ العَشِيرَةِ ، وَنُصرَةٍ لِلجَمَاعَةِ أَوِ القَبِيلَةِ ، وَمَا عَلِمَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ أَنَّهُ سَيَحتَاجُ يَومًا إِلى تَبدِيلِ مَوقِفِهِ ، أَو مَسحِ صُورَةٍ نَشَرَهَا ، أَو إِلغَاءِ تَعلِيقٍ كَتَبَهُ ، أَو سَحبِ شَكوَى قَدَّمَهَا فَظُلِمَ مُسلِمٌ بِسَبَبِهَا ، وَأَمَّا النَّدَمُ كُلُّ النَّدَمِ فَهُوَ يَومَ الحَسَابِ ، يَومَ " لا تُظلَمُ نَفسٌ شَيئًا وَلا تُجزَونَ إِلاَّ مَا كُنتُم تَعمَلُونَ "
وَتَلتَفِتُ يَمنَةً وَيَسرَةً ، لِتَرَى صَاحِبَ مَكتَبِ عَقَارٍ جَاهِلاً ، يُحَرِّرُ لِشَخصٍ عَقدَ إِيجَارٍ مُزَوَّرًا ؛ وَرَجُلاً يُزَكِّي آخَرَ وَهُوَ يَعلَمُ بِحَالِهِ ، وَطَبِيبًا أَو مُوَظَّفَ مُستَشفَى يُزَوِّرُ تَقرِيرًا مَرَضِيًّا ، لِيَتَقَدَّمَ كُلُّ مَن شُهِدَ لَهُ بِهَذِهِ الشَّهَادَاتِ المُزَوَّرَةِ إِلى جِهَةِ تَوظِيفٍ لِتَوظِيفِهِ أَو جَمعِيَّةٍ خَيرِيَّةٍ فَيَنَالَ مِنهَا لُعَاعَةً مِنَ الدُّنيَا قَلِيلَةً ، أَو لِيَتَخَلَّصَ مِن أَثَرِ غِيَابِهِ عَن عَمَلِهِ وَتَقصِيرِهِ فِيهِ وَظُلمِهِ لِعِبَادِ اللهِ .
وَتَوَغَّلْ في المُجتَمَعِ قَلِيلاً ؛ لِتَجِدَ مُهَندِسًا لا يَعِي في تَخَصُّصِهِ شَيئًا ، وَطَبِيبًا يَقتُلُ النَّاسَ بِأَخطَائِهِ الطِّبِّيَّةِ الفَادِحَةِ ، وَمُعَلِّمًا يُضِلُّ جِيلاً كَامِلاً ، وَصَاحِبَ صَنعَةٍ أَو مِهنَةٍ دَقِيقَةٍ يُفسِدُ عَلَى النَّاسِ آلاتِهِم وَمَشرُوعَاتِهِم ، فَإِذَا تَحَقَّقتَ وَبَحَثتَ ، وَجَدتَ كُلَّ أُولَئِكَ نَتَائِجَ شَهَادَاتِ زُورٍ مِن مُعَلِّمٍ أَو أُستَاذٍ أَو مُدَرِّبٍ ، خَانُوا الأَمَانَةَ وَلم يُتقِنُوا مَا كَلِّفُوا بِهِ ، فَتَهَاوَنُوا بَعدُ وَلَم يُقَيِّمُوا طُلاَّبَهُم تَقيِيمًا صَحِيحًا ، ثم جَاءَت لَجنَةُ تَعيِينٍ مُتَسَاهِلَةٌ مُجَامِلَةٌ ، وَسَمَحَت بِتَوظِيفِ هَؤُلاءِ عَلَى ضَعفِهِم ، وَابتَلَتِ المُسلِمِينَ بِفَسَادِهِم . وَخُذْ إِلى عَالَمِ الصَّحَافَةِ وَالإِعلامِ ؛ لِتَجِدَ الزُّورَ يُكتَبُ عَلانِيَةً وَيُنشَرُ بِلا حَيَاءٍ وَلا وَجَلٍ ، لِتُمَرَّرَ بِهِ مَشرُوعَاتٌ تَخرِيبِيَّةٌ ، وَيُشَادَ فِيهِ بِبَرَامِجَ إِفسَادِيَّةٍ ، وَيُدَافَعَ عَن أَصحَابِهَا بِالكَذِبِ الصُّرَاحِ وَالنِّفَاقِ المَمجُوجِ ، وَتُسَمَّى المُنكَرَاتُ بِغَيرِ اسمِهَا ، وَتُعطَى صُورَةً غَيرَ صُورَتِهَا ، وَتُلَمَّعَ أَمَاكِنُ الزُّورِ وَتُحَسَّنَ ، وَيُسَاقَ النَّاسُ إِلَيهَا لِيَشهَدُوهَا ، فَمَا أَعظَمَ جُرمَ هَؤُلاءِ عِندَ رَبِّهِم إِذ يُضِلُّونَ النَّاسَ بِعِلمٍ أَو بِغَيرِ عِلمٍ ، وَيَصرِفُونَهُم عَنِ الحَقِّ إِلى البَاطِلِ ، وَعَنِ التَّدَيُّنِ إِلى التَّسَاهُلِ ، وَمِنَ الاستِقَامَةِ وَالسِّترِ إِلى الضَّلالِ وَالوَقَاحَةِ .
إِنَّ اللهَ يَأمُرُ بِالعِدلِ وَالإِحسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي القُربَى ، وَيَنهَى عَنِ الفَحشَاءِ وَالمُنكَرِ وَالبَغيِ ، وَالشَّهَادَةُ إِمَّا أَن تَكُونَ بِحَقٍّ لِنَصرِ مَظلُومٍ أَو إِظهَارِ حَقٍّ مَكتُومٍ ، أَو لِتَأيِيدِ ضَعِيفٍ أَو مَغمُوطٍ أَو مَهضُومٍ ، فَهَذِهِ تَرفَعُ قَائِلَهَا وَيَعظُمُ لَهُ بِهَا الأَجرَ ، وَإِمَّا أَن تَكُونَ بِبَاطِلٍ لإِرضَاءِ حَاكِمٍ أَو إِعَانَةِ ظَالِمٍ ، أَو لِلَطَّعنَ في عِرضِ عَالِمٍ أَو غَافِلٍ مُسَالِمٍ ، فَهَذِهِ تَهوِي بِصَاحِبِهَا وَتَقصِمُ عُمَرَهُ وَتَمحُو أَثَرَهُ ، يَقُولُ – سُبحَانَهُ - : " وَإِذَا قُلتُم فَاعدِلُوا " وَيَقُولُ - تَعَالى – : " وَلا تَكتَمُوا الشَّهَادَةَ وَمَن يَكتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلبُهُ "
وَيَقُولُ – جَلَّ وَعَلا - : " وَاجتَنِبُوا قَولَ الزُّورِ "
وَيَقُولُ – سُبحَانَهُ - : " وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ للهِ "
وَعَنِ النُّعمَانِ بنِ بَشِيرٍ - رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا – قَالَ : سَأَلَت أُمِّي أَبي بَعضَ المَوهِبَةِ لي مِن مَالِهِ ، ثُمَّ بَدَا لَهُ فَوَهَبَهَا لي ، فَقَالَت : لا أَرضَى حَتَّى تُشهِدَ النَّبيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ، فَأَخَذَ بِيَدِي وَأَنَا غُلامٌ فَأَتَى بِيَ النَّبيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ – فَقَالَ : إِنَّ أُمَّهُ بِنتَ رَوَاحَةَ سَأَلَتني بَعضَ المَوهِبَةِ لِهَذَا . قَالَ : " أَلَكَ وَلَدٌ سِوَاهُ ؟ " قَالَ : نَعَم . قَالَ فَأُرَاهُ قَالَ : " لا تُشهِدْني عَلَى جَورٍ " رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ .
أَلا فَلْنَتَّقِ اللهَ – عِبَادَ اللهِ - وَلْنُقِمِ الشَّهَادَةَ للهِ " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالقِسطِ شهَدَاءَ للهِ وَلَو عَلَى أَنفُسِكُم أَوِ الوَالِدَينِ وَالأَقرَبِينَ إِن يَكُن غَنِيًّا أَو فَقِيرًا فَاللهُ أَولى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الهَوَى أَن تَعدِلُوا وَإِن تَلوُوا أَو تُعرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعمَلُونَ خَبِيرًا "
الخطبة الثانية :
أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ – تَعَالى – حَقَّ التَّقوَى ، وَتَمَسَّكُوا مِنَ الإِسلامِ بِالعُروَةِ الوُثقَى " وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجعَلْ لَهُ مَخرَجًا "
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، مِن أَعظَمِ مَا يَدفَعُ النَّاسَ لِشَهَادَةِ الزُّورِ وَيُؤُزُّهُم عَلَيهَا أَزًّا ، الفَهمُ الضَّالُّ لِمَبدَأِ التَّنَاصُرِ ، إِذْ مَا زَالَ مَفهُومُهُ الجَاهِلِيُّ مُعَشِّشًا في قُلُوبٍ لم تَذُقْ طَعمَ الإِيمَانِ ، بَعِيدًا عَنِ المَفهُومِ الصَّحِيحِ الَّذِي جَاءَ بِهِ الإِسلامُ ، عَن أَنَسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنهُ - قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - : " اُنصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَو مَظلُومًا " فَقَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللهِ ، أَنصُرُهُ إِذَا كَانَ مَظلُومًا ، أَفَرَأَيتَ إِذَا كَانَ ظَالِمًا كَيفَ أَنصُرُهُ ؟! قَالَ : " تَحجُزُهُ أَو تَمنَعُهُ مِنَ الظُّلمِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ نَصرُهُ " رَوَاهُ البُخَارِيُّ .
وَيَا للهِ كَم يَهلَكُ أَقوَامٌ وَيَتَحَمَّلُونَ مِنَ الإِثمِ وَالوِزرِ بِسَبَبِ اندِفَاعِهِمُ الشَّدِيدِ لِنُصرَةِ أَقوَامِهِم بِالبَاطِلِ ، فَعَنِ ابنِ مَسعُودٍ – رَضِيَ اللهُ عَنهُ - عَنِ النَّبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : " مَن نَصَرَ قَومَهُ عَلَى غَيرِ الحَقِّ فَهُوَ كَالبَعِيرِ الَّذِي رَدَى فَهُوَ يُنزَعُ بِذَنَبِهِ " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ . وَمَعنَى الحَديثِ أَنَّ مَن أَرَادَ أَن يَرفَعَ نَفسَهُ بِنُصرَةِ قَومِهِ عَلَى البَاطِلِ ، فَقَد وَقَعَ في الإِثمِ وَهَلَكَ بِسَبَبِ تِلكَ النُّصرَةِ البَاطِلَةِ ، وَصَارَ كَالبَعِيرِ إِذَا سَقَطَ في بِئرٍ فَصَارَ يُنزَعُ وَيُجذَبُ بِذَنَبِهِ ، وَلا يَقدِرُ أَحَدٌ عَلَى تَخلِيصِهِ مِن مَهلَكَتِهِ مَهمَا اجتَهَدَ بِنَزعِهِ بِالذَّنَبِ . وَقِيلَ إِنَّ المَعنى أَنَّهُ شَبَّهَ القَومَ بِبَعِيرٍ هَالِكٍ ; لأَنَّ مَن كَانَ عَلَى غَيرِ حَقٍّ فَهُوَ هَالِكٌ ، وَشَبَّهَ نَاصِرَهُم بِذَنَبِ هَذَا البَعِيرِ ، فَكَمَا أَنَّ نَزعَهُ بِذَنَبِهِ لا يُخَلِّصُهُ مِنَ الهَلَكَةِ ، فكَذَلِكَ هَذَا النَّاصِرُ لا يُخَلِّصُهُم عَن بِئرِ الهَلاكِ الَّتي وَقَعُوا فِيهَا .
أَلَا فَلْنَتَّقِ اللهَ – أَيُّهَا المُسلِمُونَ – وَلْنَحذَرِ المُخَاصَمَةَ بِالبَاطِلِ وَقَولَ الزُّورِ ، فَعَنِ ابنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا – قَالَ : سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ " مَن حَالَت شَفَاعَتُهُ دُونَ حَدٍّ مِن حُدُودِ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - فَقَد ضَادَّ اللهَ ، وَمَن خَاصَمَ في بَاطِلٍ وَهُوَ يَعلَمُ لم يَزَلْ في سَخَطِ اللهِ حَتَّى يَنزِعَ ، وَمَن قَالَ في مُؤمِنٍ مَا لَيسَ فِيهِ أَسَكَنَهُ اللهُ رَدغَةَ الخَبَالِ حَتَّى يَخرُجَ مِمَّا قَالَ " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانِيُّ .
المرفقات
ستكتب شهادتهم ويسألون.doc
ستكتب شهادتهم ويسألون.doc
ستكتب شهادتهم ويسألون.pdf
ستكتب شهادتهم ويسألون.pdf
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
تعديل التعليق