خطبة : ( رمضان ولذة العبادة )

عبدالله البصري
1432/09/04 - 2011/08/04 21:23PM
رمضان ولذة العبادة 5 / 9 / 1432


الخطبة الأولى :

أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ "

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، شَهرُ رَمَضَانَ المُبَارَكِ ، الَّذِي كَانَ وَمَا زَالَ لَدَى الصَّالحِينَ فُرصَةً ثَمِينَةً لِلتَعَامُلِ مَعَ اللهِ ، وَسُوقًا رَابِحَةً لِلمُتَاجَرَةِ مَعَ الغَنيِّ الكَرِيمِ ـ سُبحَانَهُ ـ أَصبَحَ لَدَى بَعضِ المُسلِمِينَ اليَومَ كَغَيرِهِ مِن أَيَّامِ العَامِ ، يَمُرُّ مُرُورَ الكِرَامِ وَلم يَتَزَوَّدُوا مِنهُ لآخِرَتِهِم شَيئًا ، وَتَتَصَرَّمُ أَيَّامُهُ وَلَيَالِيهِ وَهُم في لَهوٍ وَسَهوٍ وَغَفلَةٍ .
عِندَمَا يَدخُلُ رَمَضَانُ يَتَبَادَلُ النَّاسُ المُكَالَمَاتِ وَالرَّسَائِلَ مُهَنِّئِينَ بَعضَهُم بِدُخُولِهِ ، وَلا تَمَلُّ أَلسِنَتُهُم مِنَ اللَّهَجِ بِالشُّكرِ لِلمَولى إِذْ بَلَّغَهُم إِيَّاهُ ، فَإِذَا تَأَمَّلتَ الوَاقِعَ لم تَجِدْ لِذَاكَ الشُّكرِ القَوليِّ مِنَ الشُّكرِ العَمَليِّ نَصِيبًا كَافِيًا ، إِذْ تَرَى نَومًا عَنِ الصَّلَوَاتِ المَكتُوبَةِ ، وَتَركًا لِلسُّنَّنِ الرَّوَاتِبِ وَزُهدًا في النَّوَافِلِ ، وَإِحجَامًا عَنِ القِيَامِ مَعَ المُسلِمِينَ في صَلاةِ التَّرَاوِيحِ ، وَغَفلَةً شَنِيعَةً عَنِ الدُّعَاءِ وَهَجرًا طَوِيلاً لِلقُرآنِ ، وَقَبضًا لِلأَيدِي عَنِ الإِنفَاقِ في سَبِيلِ اللهِ ، وَغَفلَةً عَن قَضَاءِ الحَاجَاتِ وَتَفرِيجِ الكُرُبَاتِ . فَهَل هَذِهِ هِيَ حَالُ الشَّاكِرِينَ المُدرِكِينَ لأَهَمِّيَّةِ بُلُوغِ هَذَا الشَّهرِ الكَرِيمِ ؟
تَعَالَوا لِنَقرَأَ مَا رَوَاهُ الإِمَامُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ عَنِ المُغِيرَةِ بنِ شُعبَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : قَامَ النَّبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ حَتَّى تَوَرَّمَت قَدَمَاهُ ، فَقِيلَ لَهُ : لِمَ تَصنَعُ هَذَا وَقَد غُفِرَ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ؟ قَالَ : " أَفَلا أَكُونُ عَبدًا شَكُورًا ؟ "
أَرَأَيتُم كَيفِيَّةَ الشُّكرِ الحَقِيقِيِّ ؟ أَعَرَفتُم حَقِيقَتَهُ لَدَى مُحَمَّدِ بنِ عَبدِ اللهِ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ إِنَّهَا لَيسَت مُجَرَّدَ دَعَاوَى لِسَانٍ أَو حُرُوفٍ تُرَدِّدُهَا شَفَتَانِ ، بَل قِيَامٌ طَوِيلٌ وَقُنُوتٌ ، وَتَبَتُّلٌ وَرُكُوعٌ وَسُجُودٌ ، وَقِرَاءَةٌ وَذِكرٌ وَدُعَاءٌ ، وَتَعَبٌ في طَاعَةِ اللهِ وَنَصَبٌ ، يَصِفُ تِلكَ العِبَادَةَ الثَّقِيلَةَ حُذَيفَةُ بنُ اليَمَانِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ فَيَقُولُ : صَلَّيتُ مَعَ النَّبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ ذَاتَ لَيلَةٍ فَافتَتَحَ البَقَرَةَ ، فَقُلتُ يَركَعُ عِندَ المِئَةِ ثُمَّ مَضَى ، فَقُلتُ يُصَلِّي بها في رَكعَةٍ فَمَضَى ، فَقُلتُ يَركَعُ بها ، ثُمَّ افتَتَحَ النِّسَاءَ فَقَرَأَهَا ، ثُمَّ افتَتَحَ آلَ عِمرَانَ فَقَرَأَهَا ، يَقرَأُ مُتَرَسِّلاً ، إِذَا مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا تَسبِيحٌ سَبَّحَ ، وَإِذَا مَرَّ بِسُؤَالٍ سَأَلَ ، وَإِذَا مَرَّ بِتَعَوُّذٍ تَعَوَّذَ ، ثُمَّ رَكَعَ فَجَعَلَ يَقُولُ : سُبحَانَ رَبِّيَ العَظِيمِ ، فَكَانَ رُكُوُعُهُ نَحوًا مِن قِيَامِهِ ، ثُمَّ قَالَ : سَمِعَ اللهُ لِمَن حَمِدَهُ ، ثُمَّ قَامَ طَوِيلاً قَرِيبًا مِمَّا رَكَعَ ، ثُمَّ سَجَدَ فَقَالَ : سُبحَانَ رَبِّيَ الأَعلَى ، فَكَانَ سُجُودُهُ قَرِيبًا مِن قِيَامِهِ . رَوَاهُ مُسلِمٌ .
وَعَنِ ابنِ مَسعُودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : صَلَّيتُ مَعَ النَّبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ لَيلَةً ، فَلَم يَزَلْ قَائِمًا حَتَّى هَمَمتُ بِأَمرِ سُوءٍ . قُلنَا : وَمَا هَمَمتَ ؟ قَالَ : هَمَمتُ أَن أَقعُدَ وَأَذَرَ النَّبيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ رَوَاهُ البُخَارِيُّ . هَكَذَا كَانَ حَالُ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ في شُكرِهِ لِرَبِّهِ :
يَبِيتُ يُجَافي جَنبَهُ عَن فِرَاشِهِ
إِذَا استَثقَلَت بِالمُشرِكِينَ المَضَاجِعُ
فَمَا الَّذِي وَجَدَهُ رَسُولُ اللهِ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ حَتَّى بَلَغَ بِهِ طُولُ القِيَامِ ذَلِكَ المَبلَغَ ، وَفَقَدنَاهُ نَحنُ حَتَّى لا يَكَادُ بَعضُنَا يُصَلِّي الفَرِيضَةَ ، وَحَتَّى صَارَ هَمُّنَا التَّسَابُقَ في تَخفِيفِ صَلاةِ التَّرَاوِيحِ وَالخُرُوجَ مِنَ المَسَاجِدِ قَبلَ غَيرِنَا ؟!

لَقَدِ افتَقَدنَا لَذَّةَ الطَّاعَةِ وَلم نَجِدْ حَلاوَةَ المُنَاجَاةِ ، وَحُرِمنَا أُنسَ الخَلوَةِ بِاللهِ وَلم نَذُقْ سَعَادَةَ العَيشِ في مَرضَاتِهِ ، وَهِيَ الأُمُورُ الَّتي وَجَدَهَا مُحَمَّدُ بنُ عَبدِاللهِ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ وَذَاقَهَا سَائِرُ العَابِدِينَ الزَّاهِدِينَ ، فَصَارُوا لا يَألُونَ جُهدًا في عِبَادَةِ رَبِّهِم وَلا يَمَلُّونَ مِن طَاعَتِهِ .

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِنَّ لِلعِبَادَةِ لَذَّةً لا تَعدِلُهَا لَذَّةٌ ، وَإِنَّ لِلطَّاعَةِ حَلاوَةً لا تُشبِهُهَا حَلاوَةٌ ، مَن وَجَدَهُمَا وَجَدَ في نَفسِهِ سَكِينَةً وَأَحَسَّ في قَلبِهِ بِطُمَأنِينَةٍ ، وَلَقِيَ في رُوحِهِ خِفَّةً وَشَعَرَ في صَدرِهِ بِسَعَادَةٍ ، إِنَّهَا لَذَّةٌ تَفِيضُ عَلَى النَّفسِ فَتَزدَادُ مَحَبَّةً لِلعِبَادَةِ ، وَحَلاوَةٌ تَغمُرُ القَلبَ فَيَمتَلِئُ فَرَحًا بِالطَّاعَةِ وَطَرَبًا لها ، ثُمَّ لا يَزَالُ المَرءُ يَزدَادُ مِنهُمَا حَتَّى لا يَرَى لِعَينِهِ قُرَّةً وَلا لِنَفسِهِ رَاحَةً وَلا لِقَلبِهِ هُدُوءًا إِلاَّ فِيهَا ، كَمَا قَالَ إِمَامُ المُتَعَبِّدِينَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " حُبِّبَ إِليَّ مِن دُنيَاكُمُ النِّسَاءُ وَالطِّيبُ ، وَجُعِلَت قُرَّةُ عَيني في الصَّلاةِ " رَوَاهُ أَحمَدُ وَغَيرُهُ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ .
نَعَم ـ أَيُّهَا المُسلِمَونُ ـ لَقَد كَانَتِ العِبَادَةُ هِيَ مُنتَهَى سَعَادَتِهِ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ وَغَايَةَ لَذَّتِهِ ، فِيهَا يَجِدُ رَاحَةَ نَفسِهِ ، وَبهَا يَطمَئِنُّ قَلبُهُ ، فَكَانَ إِذَا حَزَبَهُ أَمرٌ أَو أَصَابَهُ ضِيقٌ أَو أَرهَقَهُ عَمَلٌ ، نَادَى بِلالاً فَقَالَ : " يَا بِلالُ ، أَقِمِ الَّصَلاةَ أَرِحْنَا بها " رَوَاهُ أَحمَدُ وَغَيرُهُ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ .

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، لَقَد جَاهَدَ المُوَفَّقُونَ أَنفُسَهُم عَلَى العِبَادَاتِ ، وَصَبَرُوا وَصَابَرُوا في مَيَادِينِ الطَّاعَاتِ ، وَرَابَطُوا وَثَابَرُوا عَلَى القُرُبَاتِ ، حَتَّى ذَاقُوا حَلاوَتَهَا وَوَجَدُوا لَذَّتَهَا ، فَمَا زَالُوا بَعدَ ذَلِكَ يَطلُبُونَ المَزِيدَ مِنَ اللَّذَّةِ بِزِيَادَةِ الطَّاعَةِ ، وَكُلَّمَا ازدَادَت عِبَادَتُهُم زَادَت لَذَّتُهُم ، فَاجتَهَدُوا في العِبَادَةِ لِيَزدَادُوا لَذَّةً إِلى لَذَّتِهِم . قَالَ شَيخُ الإِسلامِ ابنُ تَيمِيَّةَ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ : إِنَّ في الدُّنيَا جَنَّةً مَن لم يَدخُلْهَا لم يَدخُلْ جَنَّةَ الآخِرَةِ . إِنَّهَا الجَنَّةُ الَّتي تُنسِي صَاحِبَهَا هُمُومَ الحَيَاةِ وَمَشَاقَّهَا ، بَل تُنسِيهِ تَعَبَ العِبَادَةِ وَنَصَبَهَا ، وَتُذهِبُ عَنهُ الكَلالَةَ وَالمَلَلَ ، بَلْ وَتُنسِيهِ الجُوعَ وَالظَّمَأَ ، فَتُغنِيهِ عَنِ الطَّعَامِ وَتُعَوِّضُهُ عَنِ الشَّرَابِ ، لَقَد ذَاقَهَا مُحَمَّدٌ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ فَجَعَلَ يُوَاصِلُ صِيَامَ اليَومَينِ وَالثَّلاثَةِ في رَمَضَانَ ، لا يَأكُلُ طَعَامًا وَلا يَشتَهِي شَرَابًا ، وَلَمَّا قِيَلَ لَهُ : إِنَّكَ تُوَاصِلُ . قَالَ : " إِنِّي أَبِيتُ يُطعِمُني رَبِّي وَيَسقِيني " رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ .
قَالَ ابنُ القَيِّمِ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ : المُرَادُ مَا يُغَذِّيهِ اللهَ بِهِ مِن مَعَارِفِهِ ، وَمَا يَفِيضُ عَلَى قَلبِهِ مِن لَذَّةِ مُنَاجَاتِهِ وَقُرَّةِ عَينِهِ بِقُربِهِ ، وَتَنَعُّمُهُ بِحُبِّهِ وَالشَّوقِ إِلَيهِ ، وَتَوَابِعُ ذَلِكَ مِنَ الأَحوَالِ الَّتي هِيَ غِذَاءُ القُلُوبِ وَنَعِيمُ الأَروَاحِ ، وَقُرَّةُ العَينِ وَبَهجَةُ النُّفُوسِ وَالرُّوحِ وَالقَلبِ ، بما هُوَ أَعظَمُ غِذَاءٍ وَأَجوَدُهُ وَأَنفَعُهُ ، وَقَد يَقوَى هَذَا الغِذَاءُ حَتَّى يُغنيَ عَن غِذَاءِ الأَجسَامِ مُدَّةً مِنَ الزَّمَانِ . انتَهَى كَلامُهُ .

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، هَل وَجَدَ لَذَّةَ العِبَادَةِ مَن نَامَ عَنِ الصَّلاةِ المَكتُوبَةِ في رَمَضَانَ ؟
هَل وَجَدَ لَذَّةَ الطَّاعَةِ مَن لا يَقُومُ حَتَّى يَسمَعَ الإِقَامَةَ لِلِصَّلاةِ ؟
هَل وَجَدَهَا مَن يَتَمَلمَلُ في المَسجِدِ وَكَأَنَّهُ عُصفُورٌ في قَفَصٍ ؟
هَل وَجَدَهَا مَن إِذَا زَادَ الإِمَامُ في صَلاةِ التَّرَاوِيحِ دَقَائِقَ عَنِ المَسَاجِدِ الأُخرَى انسَحَبَ وَخَرَجَ ؟
هَل وَجَدَ لَذَّةَ المُنَاجَاةِ مَن يَستَثقِلُ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ ؟
هَل أَحَسَّ بِطَعمِ العِبَادَةِ مَن لا يَختِمُ كِتَابَ اللهِ في شَهرِ رَمَضَانَ وَلَو مَرَّةً وَاحِدَةً ؟
إِنَّ الجَنَّةَ غَالِيَةُ الثَّمَنِ ، وَطَرِيقُهَا مَحفُوفَةٌ بِمَكَارِهِ النُّفُوسِ ، قَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ : " مَن خَافَ أَدلَجَ ، وَمَن أَدلَجَ بَلَغَ المَنزِلَ ، أَلا إِنَّ سِلعَةَ اللهِ غَالِيَةٌ ، أَلا إِنَّ سِلعَةَ اللهِ الجَنَّةُ " رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ .
وَقَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " حُجِبَتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ ، وَحُجِبَتِ الجَنَّةُ بِالمَكَارِهِ " مُتَّفَقٌ عَلَيهِ ، وَهَذَا لَفظُ البُخَارِيِّ .
أَلا فَاتَّقُوا اللهَ ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ وَاسلُكُوا سَبِيلَ المُوَفَّقِينَ ، وَابذُلُوا الأَسبَابَ الَّتي تُكسِبُكُم لَذَّةَ العِبَادَةِ ، جَاهِدُوا النُّفُوسَ وَعَوِّدُوهَا الطَّاعَةَ ؛ فَقَد قَالَ رَبُّكُم ـ تَعَالى ـ : " وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهدِيَنَّهُم سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ المُحسِنِينَ " تَدَرَّجُوا في الطَّاعَةِ شَيئًا فَشَيئًا حَتَّى تَألَفُوهَا وَتُحِبُّوهَا ، اِصبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا ، فَإِنَّ هَذِهِ سَبِيلُ الفَلاحِ ، وَقَد قَالَ مَولاكُم ـ جَلَّ وَعَلا ـ : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ " وَاعلَمُوا أَنَّ التَّعَبَ وَمَا قَد يَعتَرِي العَابِدَ مِن مَلَلٍ وَكَلالَةٍ ، إِنَّمَا يَكُونُ في البِدَايَةِ ، ثُمَّ تَأتي اللَّذَّةُ بَعدَ ذَلِكَ ، قَالَ ابنُ القَيِّمِ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ : السَّالِكُ في أَوَّلِ الأَمرِ يَجِدُ تَعَبَ التَّكَالِيفِ وَمَشَقَّةَ العَمَلِ لِعَدَمِ أُنسِ قَلبِهِ بِمَعبُودِهِ ، فَإِذَا حَصَلَ لِلقَلبِ رُوحُ الأُنسِ زَالَت عَنهُ تِلكَ التَّكَالِيَفُ وَالمَشَاقُّ ، فَصَارَت قُرَّةَ عَينٍ لَهُ وَقُوَّةً وَلَذَّةً . انتَهَى كَلامُهُ .
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ " وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لا نُكَلِّفُ نَفسًا إِلاَّ وُسعَهَا أُولَئِكَ أَصحَابُ الجَنَّةِ هُم فِيهَا خَالِدُونَ . وَنَزَعنَا مَا في صُدُورِهِم مِن غِلٍّ تَجرِي مِن تَحتِهِمُ الأَنهَارُ وَقَالُوا الحَمدُ للهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهتَدِيَ لَولا أَنْ هَدَانَا اللهُ لَقَد جَاءَت رُسُلُ رَبِّنَا بِالحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلكُمُ الجَنَّةُ أُورِثتُمُوهَا بما كُنتُم تَعمَلُونَ "


الخطبة الثانية :

أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ حَقَّ تَقوَاهُ ، وَاستَعِدُّوا بِالأَعمَالِ الصَّالِحَةِ لِيَومِ لِقَاهُ " وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجعَلْ لَهُ مَخرَجًا " ثُمَّ اعلَمُوا ـ رَحِمَكُمُ اللهُ ـ أَنَّ مِمَّا يُعِينُ عَلَى مَحَبَّةِ العَبدِ لِلعِبَادَةِ وَاستِكثَارِهِ مِنَ الطَّاعَةِ حَتَّى يَجِدَ لَذَّتَهَا ، أَن يَأخُذَ بِحَقِّهِ مِنَ النَّوَافِلِ بِكُلِّ أَنوَاعِهَا ، وَأَن يَكُونَ لَهُ حَظٌّ مِنَ السُّنَنِ عَلَى اختِلافِ صِفَاتِهَا وَأَحوَالِهَا ، وَالمُؤمِنُ كَالنَّحلَةِ ، يَتَنَقَّلُ في بَسَاتِينِ العِبَادَةِ وَبينَ زُهُورِ الطَّاعَةِ ، فَتَارَةً تَرَاهُ مُصَلِّيًا ، وَتَارَةً تَجِدُهُ لِلقُرآنِ تَالِيًا ، وَحِينًا يُسَبِّحُ وَيُكَبِّرُ ، وَحِينًا يُهَلِّلُ وَيَستَغفِرُ ، وَلَهُ في الصَّدَقَةِ يَدٌ نَدِيَّةٌ ، وَهُوَ مَعَ أَهلِ البِرِّ وَالإِحسَانِ ضَارِبٌ بِسَهمٍ ، وَمَعَ الدُّعَاةِ بِالحِكمَةِ وَالمَوعِظَةِ الحَسَنَةِ آخِذٌ بِنَصِيبٍ ، إِنْ طَلَبتَهُ مَعَ القَائِمِينَ وَجَدتَهُ ، وَإِنِ التَمَستَهُ مَعَ الذَّاكِرِينَ وَقَعتَ عَلَيهِ ، وَهَكَذَا لا يَزَالُ يُكثِرُ مِنَ الطَّاعَاتِ وَيُنَوِّعُ النَّوَافِلَ ، وَيَتَقَرَّبُ إِلى رَبِّهِ حَتَّى يُحِبَّهُ ـ سُبحَانَهُ ـ فَإِذَا أَحَبَّهُ وَهَبَهُ أَجزَلَ الهِبَاتِ وَمَنَحَهُ أَكمَلَ الأُعطِيَاتِ ، في الحَدِيثِ القُدسِيِّ : " وَمَا يَزَالُ عَبدِي يَتَقَرَّبُ إِليَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ ، فَإِذَا أَحبَبتُهُ كُنتُ سَمعَهُ الَّذِي يَسمَعُ بِهِ ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبصِرُ بِهِ ، وَيَدَهُ الَّتي يَبطِشُ بها وَرِجلَهُ الَّتي يَمشِي بها ، وَإِنْ سَأَلَني لأُعطِيَنَّهُ ، وَإِنِ استَعَاذَني لأُعِيذَنَّهُ " رَوَاهُ البُخَارِيُّ .
وَمِمَّا يُورِثُ لَذَّةَ العِبَادَةِ وَيُحَبِّبُ المَرءَ في الطَّاعَةِ أَن يَقتَدِيَ بِالصَّالِحِينَ المُجتَهِدِينَ ، وَيَتَشَبَّهَ بِالمُسَابِقِينَ وَالمُفلِحِينَ ، وَأَن يَحذَرَ صُحبَةَ الكُسَالى وَالبَطَّالِينَ ، فَإِنَّ مِن بَرَكَةِ صُحبَةِ أَهلِ الصَّلاحِ الاقتِدَاءَ بهم وَالتَّأَسِّيَ بِحَالِهِم ، وَالانتِفَاعَ بِكَلامِهِم وَالتَّشَبُّهَ بِعَمَلِهِم . وَمِمَّا يَجلِبُ لَذَّةَ العِبَادَةِ وَيُهَوِّنُ طَرِيقَ الطَّاعَةِ تَركُ المَعَاصِي وَالذُّنُوبِ ، فَكَم مِن شَهوَةِ سَاعَةٍ أَورَثَت ذُلاًّ طَوِيلاً ، وَكَم مِن ذَنبٍ حَرَمَ عَبدًا قِيَامًا بَينَ يَدَي رَبِّهِ ، وَكَم مِن نَظرَةٍ حَرَمَت صَاحِبَهَا نُورَ البَصِيرَةِ ، وَهَذَا مَا نَرَاهَ اليَومَ في أَنفُسِنَا وَنَلمَسُهُ في مَسِيرِنَا ، فَقَد فَقَدنَا لَذَّةَ العِبَادَةِ وَاستَثقَلنَا الطَّاعَةَ ، وَكَثُرَ فِينَا التَّقَاعُسُ وَظَهَرَ مِنَّا التَّكَاسُلُ ، وَمَا ذَلِكَ إِلاَّ لأَنَّنَا تَسَاهَلنَا بِالذُّنُوبِ وَتَهَاوَنَّا بِالصَّغَائِرِ ، وَاعتَدنَا مُوَاقَعَةَ المَعَاصِي وَمُشَاهَدَةَ المُحَرَّمَاتِ وَاستِمَاعَهَا ، مِمَّا أَدَّى إِلى قَسوَةِ القُلُوبِ وَانتِكَاسِهَا ، وَتَقَاعُسِهَا عَنِ الطَّاعَاتِ وَمِيلِهَا إِلى الشَّهَوَاتِ ، وَفَقدِهَا لَذَّةَ الطَّاعَةِ وَعَدَمِ تَذَوُّقِهَا حَلاوَتَهَا ، قَالَ ـ تَعَالى ـ : " وَمَا أَصَابَكُم مِن مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَت أَيدِيكُم وَيَعفُو عَن كَثِيرٍ " وَرَحِمَ اللهُ القَائِلَ :
رَأَيتُ الذُّنُوبَ تُمِيتُ القُلُوُبَ
وَقَد يُورِثُ الذُّلَّ إدمَانُهَا
وَتَركُ الذُّنُوبِ حَيَاةُ القُلُوُبِ
وَخَيرٌ لِنَفسِكَ عِصيَانُهَا
اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَينَا الإِيمَانَ وَزَيِّنْهُ في قُلُوبِنَا ، وَكَرِّهْ إِلَينَا الكُفرَ وَالفُسُوقَ وَالعِصيَانَ ، وَاجعَلْنَا مِنَ الرَّاشِدِينَ .
المشاهدات 8858 | التعليقات 11

الشمراني;7764 wrote:
نفع الله بكم ، فكم استفدت من خطبكم جعل ذلك في ميزان أعمالكم..

وبكم ـ أخي الكريم ـ نفع الله ، وأسأل الله أن يجعلنا من المتعاونين على البر والتقوى وينفع بنا أمتنا ، ويعفو عن تقصيرنا ، إنه سميع قريب مجيب .


نفع الله بكم ، فكم استفدت من خطبكم جعل ذلك في ميزان أعمالكم..


شبيب القحطاني;7748 wrote:
جزاكم الله خيرا
لي طلب من فضيلة الشيخ لو تكرمتم بإنزال خطبة الأسبوع ليلة الجمعة لاختلاف التوقيت بين المناطق لأننا نستفيد من خطبكم وخطب إخواننا في هذا المنتدى المبارك
كتب الله أجركم

وجزاكم الله خيرًا ـ أخي الكريم شبيب ـ وكتب أجركم ونفع بنا وبكم ، وأعاننا على إجابة طلبكم ، إنه جواد كريم .


ابو عمر الطائفي;7742 wrote:
في الحديث الصحيح "الخير عادة والشر لجاجه"فمن تعود فعل الخير صار سجية وطبعا له ينشرح له قلبه وتطمئن له نفسه بخلاف الشر فلا يقع فيه العبد ويدخل قلبه الا بلجاجة الشيطان والنفس الامارة بالسوء لكن" من يرد الله به خيرا يفقه في الدين"

صدقت ـ أخي الكريم ـ فإن النفس إذا عودت الخير تعودته واطمأنت إليه ولم تمل منه ، ولكن الذي ينبغي على المسلمين في رمضان أن يعين بعضهم بعضًا ويحمل كل منهم أخاه على الخير .
فالأئمة ـ وهم القدوات في الخير ـ عليهم أن يعودوا الناس على فعل الخير والتعبد لربهم في شهرهم الكريم ؛ فإننا نلحظ ـ وللأسف ـ في متأخر السنوات أن كثيرًا من الأئمة يخففون الصلاة تخفيفًا مخلاًّ ، ونجد بينهم تسابقًا في هذا التخفيف لجذب الناس إليهم ، وما هكذا ينبغي أن يكون الأمر ، بل الواجب أن تكون الصلاة متوسطة ، وأن يطال فيها بما لا يشق على الناس ، فإن رمضان أيام معدودات وليال مباركة يجب ألا تفوت دون تعبد لله وتقرب إليه بصالح العمل ، وعلى أئمة الحي أن يتفقوا على صلاة متوسطة يختمون فيها كتاب الله ويعرضونه على المأمومين ، ولا مانع في المقابل أن يجعل أحد المساجد صلاته خفيفة بحيث يصلي معه المريض وصاحب الحاجة والمسافر أو المستعجل .
كما أن القدوات من طلاب العلم والمعلمين يجب أن يعودوا الناس على البقاء في المساجد بعد الصلوات لقراءة كتاب الله ، ولا سيما بعد الفجر والعصر لمن استطاع ، فإنهما وقتان مباركان ، وفيهما طول وكفاية لقراءة أجزاء كثيرة من كتاب الله ، والناس إذا اجتمعوا في المساجد ورأى بعضهم بعضًا فإن ذلك مما يشجعهم على التعبد وقراءة كتاب الله ، والاشتغال بالذكر والدعاء وما ينفعهم .
وقل مثل ذلك في سائر الأعمال الصالحة ، من تفطير وقضاء حاجات وتفريج كربات وإطعام مساكين وكفالة أيتام ونوافل صلوات واعتكاف ، فلا بد أن يفعلها القدوات أمام الناس ويحثوهم عليها ويشجعوهم ويذكروهم بالأجور والفضائل .
والمؤسسات الخيرية أيضًا لا بد أن تعرض برامجها للناس في رمضان بطرق مشوقة وجاذبة وواضحة ، وأن تلحظ قدراتهم المالية والجسمية والعلمية وغيرها ، فتعرض عليهم ما يناسبهم جميعًا .
إن رمضان فرصة لتذكير الناس بعضهم بعضًا بالخير والعبادة والطاعة ، أسأل الله أن يجعلنا من عباده الموفقين لما يحبه ويرضاه ، فها هي ثمان ليال قد انصرفت ، وكأنها ثمان ساعات ، والله المستعان .


عبدالله محمد الروقي;7734 wrote:
أثابك الله ورفع قدرك

وأثابك الله ورفع قدرك ، وغفر لنا ولك ، ووفقنا وإياك وجميع إخواننا المسلمين في هذا الشهر المبارك لما يرضيه عنا ، إنه جواد كريم .


ابو نايف الشامي;7740 wrote:
لا فض فوك

ولا فض الله فاك ـ أخي الكريم أبا نايف ـ وأسأله ـ تبارك وتعالى ـ أن يوفقني وإياك وجميع المسلمين في هذا الشهر الكريم لما يرضيه عنا ، إنه سميع قريب مجيب .


أثابك الله ورفع قدرك


لا فض فوك


نفع الله بك وجزاك خيرا


في الحديث الصحيح "الخير عادة والشر لجاجه"فمن تعود فعل الخير صار سجية وطبعا له ينشرح له قلبه وتطمئن له نفسه بخلاف الشر فلا يقع فيه العبد ويدخل قلبه الا بلجاجة الشيطان والنفس الامارة بالسوء لكن" من يرد الله به خيرا يفقه في الدين"