خطبة رمضان وفرصة زيادة الإيمان.
عادل بن عبد العزيز الجهني
الحمد لله الذي هيأ لعباده مواسم الخيرات، وجعلها موعدًا للتزوُّد من الباقيات الصالحات، وأشهد أن لا إله إلا الله الكبير المتعال، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله...
أما بعد عباد الله، فإنا نحمد اللهَ على بلوغ شهر رمضان، فبلوغ هذا الشهر، نعمة كبيرة حقها الشكر، وأعظم الشكر هو القيام بطاعة الله وتحقيق العبودية له، فبذلك يُتَوَصَّلُ لأعظم مقاصد الصيام وهي تقوى الله، وبتقوى الله والإيمان والعمل الصالح، تثقل موازين العبد إذا نُصبت الموازين، ويُسَرُّ ويَستبشر إذا نُشِرَتِ الدَّواوين، وبها يرفع في الجنان درجاتٍ ويقرب من منازل الأنبياء والصديقين، وذلك وربي هو غاية ما يرجوه المؤمن وتصبو إليه نفسه ويشتاق إليه. قال اللهُ تعالى: ﴿یَرۡفَعِ ٱللهُ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ مِنكُمۡ وَٱلَّذِینَ أُوتُوا۟ ٱلۡعِلۡمَ دَرَجَـٰتࣲۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِیرࣱ﴾ [المجادلة ١١] أما وقد بلغنا شهر رمضان وموسم الطاعة والإيمان، فحريٌ بالمؤمن الصادق الناصح لنفسه، أن يسعى جهده لتحقيقه هذه الغاية وبلوغ تلك الدرجة الرفيعة؛ فإنَّ رفعة الدرجات في الجنَّة تعني زيادة النعيم، وما جعلت الجنة درجات بين كل درجة والتي تليها كما بين السماء والأرض، إلا ليأخذ كل فردٍ نصيبه على قدر عمله واجتهاده، عَن أَبِي سَعِيدٍ الخُدرِيِّ رضي اللهُ عنهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قَالَ : "إِنَّ أَهلَ الجَنَّةِ يَتَرَاءَونَ أَهلَ الغُرَفِ مِن فَوقِهِم كَمَا تَتَرَاءَونَ الكَوكَبَ الدُّرِّيَّ الغَابِرَ في الأُفُقِ مِنَ المَشرِقِ أَو المَغرِبِ لِتَفَاضُلِ مَا بَينَهُم" قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تِلكَ مَنَازِلُ الأَنبِيَاءِ لا يَبلُغُهَا غَيرُهُم. قَالَ: "بَلَى وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ، رِجَالٌ آمَنُوا باللَّهِ وصدَّقوا المُرسلين" مُتَّفق عَلَيهِ.
إنه ينبغي للعبد أن يغتنم هذه الأجواء الإيمانية، والتي لا يضمن تكرارها وعودتها عليه، فالأعمار بيد الله، وكُلَّ يوم نُواري حبيبًا ونَدفن قريبًا، ونُشَيِّعُ صديقًا ونُوَدِّعُ رفيقًا، قد فقد كُلٌّ منهم فُرصةَ العمل، وذهب عنه ما يرجو من الاجتهاد في الطاعات والقربات، وأصبح مرتهنًا بما قدمه.
عباد الله، من رحمة الله أنْ نوَّعَ لعباده الطاعات حتى لا تملَّ النفوس، ولِيَأخُذَ المؤمنُ منها ما تميل إليه نفسُهُ، وإنَّ رمضانَ لَهُوَ فُرصةٌ للالتزام بعباداتٍ كان المرءُ مُقَصِّرًا فيها، ألا وإنَّ أفضل الطاعات والقربات التي ينبغي للعبد الزيادة منها الصلاة، فالصلاةُ جمعت عبادات كثيرة، ولم يأتِ مِنَ النصوص كمثلِ ما جاء في الحثِّ عليها والبشارة لأهلها، وبيان فضائلها وآثارها على صاحبها. والصلاةُ الخاشعةُ من أعظم أسباب زيادة الإيمان، ولذا كان مما ينبغي للصائم أن يُولِيَها فَائِقَ عنايته ، وأن يُكثِرَ منها قَدرَ استطاعته، ومن فضل الله أن جعل صلاة النافلة مُتَنَوِّعَة، فمنها ما يكون جماعةً كصلاة التروايح والقيام، ومنها ما يفعلها صاحبُها منفردًا.
ثم إن الله قد جعلها في أوقات متفاوتة من ساعات الليل والنهار، وعلى ذلك حمل بعض المفسرين قولَ الله تعالى :﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيلَ وَالنَّهَارَ خِلفَةً لِمَن أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَو أَرَادَ شُكُورًا﴾ فمن فاتته العبادة في الليل فله أن يُعَوِّضَها بالنهار، ومن فاتته في النهار فله أن يُعَوِّضَها في الليل، فينبغي للحريص على الخير الراغب في الرفعة، أن يسعى جهده للإكثار منها.
ولعل من الأيسر أن يبدأ المرء بالمحافظة على صلاة التراويح مع الإمام، خاصةً أنه قد جاء بيان فضلها بِعَينِها، قال عليه الصلاة والسلام: "مَن قَامَ رَمَضَانَ إيمَانًا واحتِسَابًا، غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنبِهِ" رواه البخاري ومسلم.
وقال عليه الصلاة والسلام: "مَن قَامَ مَعَ الإِمَامِ حَتَّى يَنصَرِفَ كُتِبَ لَهُ قِيَامُ لَيلَةٍ" رواه الترمذي وأحمد.
ومما على المرءِ أن يجتهد في المحافظة عليه مِنَ السُّنَنِ المؤكدةِ السُّنَنُ الرَّواتِبُ، وهي: (ركعتان قبل الفجر، وأربعٌ قبل الظهر وركعتانِ بعدَها ، وركعتانِ بعدَ المغرب وركعتان بعد العشاء) فهذه ثنتى عشرة ركعة، من حافظ عليها بُني له بيتٌ في الجنة، وهل يبُنى بيتٌ في الجنة إلا لمن كان من أهلها؟!
وأمَّا أهل النفوس التوَّاقة لدرجات الجِنان العالية، فإنَّهم لا يكادون يشبعون من الصلاة ولا يملون من تكرارها والإكثار منها، فهم يُصَلُّونَ أغلب الليل، ويُكثرون من نوافل الصلاة في النهار، في الضحى، وبين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، كُلٌّ حسب ما يَسَّرَ اللهُ له وما تهيأ له من أسباب، وهذه الزيادة في الصلاة يا عباد الله من أعظم أسباب القرب من النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلم في الجنّة، وهذا لعمر الله هو الشرف الرفيع، والخير الكثير، عن ربيعة بن كعب الأسلمي رضي اللهُ عنه قال: كُنتُ أبِيتُ مع رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ فأتَيتُهُ بوَضُوئِهِ وحَاجَتِهِ فَقالَ لِي: سَل. فَقُلتُ: أسأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ في الجَنَّةِ. قالَ: أو غيرَ ذلكَ؟! قُلتُ: هو ذَاكَ. قالَ: "فأعِنِّي علَى نَفسِكَ بكَثرَةِ السُّجُودِ" والمراد كثرة صلاة النافلة؛ لأَنَّ صلاة الفريضة عددها محدود.
ومن سُبُلِ زيادة الإيمان في رمضان، الإكثار من تلاوة القرآن، فهو شهرُ القرآن، وقد كان أفضل الرسل من البشر وأفضل الرسل من الملائكة يجتمعان في رمضان فيتدارسان القرآن، عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ القُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدُ بِالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ. رواه البخاري وغيره. فما أجمله بالصائم أن يكثر من تلاوة القرآن، في ذهابه ومجيئه، وفي ليله ونهاره، وفي كل وقت فراغ له ، بل ما أجمله أن يفرّغ له ما استطاع من وقته، وأن يتدارسه مع غيره؛ فالأجر عظيم، والزمان فاضل، والموسم فرصة كبيرة، ووقت الرحيل قريب، وإذا وضع الميت في قبره، تمنَّى أن لو استطاع قراءةَ آيةٍ أو تلاوةَ سورةٍ. ولذا جمع النَّبيُّ صلى اللهُ عليه وسلم الصيام مع القرآن في محاجتهما عن صاحبهما بين يدي الله، يقول عليه الصلاة والسلام: "الصيامُ والقرآنُ يَشفَعانِ للعبدِ، يقولُ الصيامُ: أَيْ رَبِّ، إني مَنَعتُهُ الطعامَ والشهواتِ بالنهارِ فشَفِّعنِي فيه، ويقولُ القرآنُ: مَنَعتُهُ النَّومَ بالليلِ فشَفِّعنِي فيه ؛ فَيُشَفَّعَانِ" رواه أحمد.
فانظر كيف انتفع صاحبُ القرآن من هذه العبادة العظيمة؟!
وفي رمضان يُكثر المسلم من تلاوة القرآن ولو بدون تَدَبُّرٍ لأَنَّهُ زمن فاضل، ولكن ينبغي للقارئ أن يقف عند بعض الآيات التي يرى أَنَّها أَثَّرت في نفسه لينتفع بها قلبُه، على أَنَّ مُجَرَّدَ التلاوة نافع للقلب بأي صورة كانت، وهذا ما مَيَّزَ اللهُ به كتابه.
أَيُّها الصائمون ، من سُبُلِ زيادة الإيمان كثرة ذكر الله تعالى، فالذِّكرُ عبادةٌ عظيمة، لها أثرها العجيب في صلاح القلب ونزول الطمأنينة، وإزالة الوحشة وحلول السكينة، وله تأثيره الكبير في زيادة إيمان صاحبه، ورمضانُ فرصة لِشَغلِ اللِّسانِ بكثرة الذكر، بدَلاً من الانشغال بساقط القول الذي أسرف النَّاسُ فيه، فصار فاسده يُظلم القلب ويُقَسِّيهِ، فكثرةُ الكلام بغير ذكر الله من أسباب قسوة القلب، وإن أبعد القلوب من الله القلب القاسي.
ورمضانُ أيُّها الصائم، فرصةٌ لتعويد النفس على كثرة الذكر، وترطيب اللسان به على الدوام، ولعل من قَصَّرَ فيه أن يبدأَ مُستَعينًا بالله بالمحافظة على أذكار الصباح والمساء، ويحرص على قول سبحان الله وبحمده في الصباح والمساء مئة مرة، فمن فضلها ماجاء في حديث أَبِي هُرَيرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: "مَن قَالَ حِينَ يُصبِحُ وَحِينَ يُمسِي سُبحَانَ اللهِ وَبِحَمدِهِ مِائَةَ مَرَّةٍ لَم يَأتِ أَحَدٌ يَومَ القِيَامَةِ بِأَفضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ إِلا أَحَدٌ قَالَ مِثلَ مَا قَالَ أَو زَادَ عَلَيه" رواه مسلم. وقال صلى اللهُ عليه وسلم في ثوابها: "مَن قَالَ سُبحَانَ اللهِ وَبِحَمدِهِ فِي يَومٍ مِائَةَ مَرَّةٍ حُطَّت خَطَايَاهُ وَإِن كَانَت مِثلَ زَبَدِ البَحرِ" رواه البخاري.
أَيُّها الصائم، احرص على أداء العمرة في رمضان، فعمرةٌ في رمضان كحجةٍ مع النَّبيِّ صلى اللهُ عليه وسلم كما صحّ بذلك الحديث؛ فاغتنم هذا الفضل الكبير للعمرة في رمضان، واعلم أن من خير فضائل العمرة، والتي قد يجهلها كثير من المسلمين أَنَّها سببٌ لتكفير جميع الخطايا صغائرها وكبائرها، يقول صلى الله عليه وسلم: "من أَتَى هذا البيتَ فلم يَرفُثْ ولم يَفسُقْ رَجَع كما ولَدَته أمُّهُ" أخرجه البخاري. قال الشيخُ ابنُ باز رحمه الله: وهذا شامل للحجِّ والعمرة. وظاهر الحديث أنّها سبب لمغفرة جميع الذنوب.
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة.
الخطبة الثانية :
عباد الله، اعلموا رحمني اللهُ وإيَّاكم أَنَّ مِن أعظم الأسباب لإدراك الخير في رمضان وفي غيره كثرة الدُّعاء، فالدُّعاء هو البابُ المفتوح الذي وهبه الله لعباده، وقد جاء قولُه تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِی عَنِّی فَإِنِّی قَرِیبٌۖ أُجِیبُ دَعۡوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِۖ فَلۡیَسۡتَجِیبُوا۟ لِی وَلۡیُؤۡمِنُوا۟ بِی لَعَلَّهُمۡ یَرۡشُدُونَ﴾ [البقرة ١٨٦] في وسط آيات الصيام، ممَّا يدُلُّ على مكانة الدُّعاء للصائم وفضله وأثره وكثرة ثمرته، فينبغي له أن يغتنم هذا الفضل ويُكثر منه. فالدُّعاء ليس مسألةً وَطَلَبًا ورَفعَ حَوَائِجَ فَحَسبُ، وَلكنَّه عبادةٌ جليلة لها أثرها الكبير على صاحبها، فالبدُّعاء يزداد الإيمان، وبه تنزل السكينة والطمأنينة، وبه تحقق المطالب، وبه يذهب أثر الذنوب عن صاحبها.
والصوم من أعظم أسباب إجابة الدُّعاءِ، يقول عليه الصلاة والسلام: "ثلاثة لا تُرَدُّ دَعوَتُهُم: الإِمَامُ العَادِلُ، وَالصَّائِمُ حِينَ يُفطِرُ، وَدَعوَةُ المَظلُومِ" رواه الترمذي. والمقصود الدُّعاءُ في كل ساعات الصيام، لا كما يَظُنُّ الكثيرُ أَنَّهُ عند الفطر فحسبُ، وإن كان فضل الدُّعاء عند الفطر قد جاء فيه حث على الخصوص وفضيلة، عَن جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ لِلَّهِ عِندَ كُلِّ فِطرٍ عُتَقَاءَ، وَذَلِكَ فِي كُلِّ لَيلَةٍ" رواه ابن ماجه وصححه الألباني. وقال صلى الله عليه وسلم: "إن لله عتقاء في كل يوم وليلة، لكل عبد منهم دعوة مستجابة رواه أحمد، وصححه الألباني.
أَيُّها الصائم، لا تُفَوِّتْ على نفسك فرصة رمضان، ولا تُضيِّعْ أكبر الرغائب في الزمن الفاضل؛ فأنت في أَيَّامٍ شريفةِ المكانة عالية القدر رفيعةِ الشَّأنِ، لا يُفَوِّتُ فَضلَها إِلاَّ محرومٌ، ولا يُقصّر فيها إلا مخذول، وأُعيذ نفسي وإيَّاك أن نكون أخسر النَّاس في رمضان.
ألا وصلوا على البشير النذير...