خطبة : ( رمضان والذين جاهدوا ومن يمنون )
عبدالله البصري
1433/09/14 - 2012/08/02 14:04PM
رمضان والذين جاهدوا ومن يمنون 15 / 9 / 1433
الخطبة الأولى :
أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ " وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجعَلْ لَهُ مَخرَجًا . وَيَرزُقْهُ مِن حَيثُ لا يَحتَسِبُ " " وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجعَلْ لَهُ مِن أَمرِهِ يُسرًا " " وَمَن يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعظِمْ لَهُ أَجرًا "
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، وَفي وَقتِ الفِتَنِ الَّتي تَمُوجُ بِالأُمَّةِ وَتَعصِفُ بِالقُلُوبِ ، وَيَتَطَلَّعُ المُؤمِنُ الصَّادِقُ الإِيمَانِ إِلى النَّجَاةِ مِنهَا وَالخَلاصِ مِن مُضِلاَّتِهَا ، وَلُقيَا رَبِّهِ عَلَى العَهدِ مُستَقِيمًا عَلَى الصِّرَاطِ ، فَإِنَّهُ لا عِلاجَ وَلا دَوَاءَ ، وَلا مَخرَجَ وَلا مَنجَى ، إِلاَّ الفِرَارُ إِلى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ " فَفِرُّوا إِلى اللهِ إِني لَكُم مِنهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ "
نَعَم ـ عِبَادَ اللهِ ـ لا مُخَلِّصَ إِلاَّ الإِخلاصُ ، وَلا مُنجِيَ إِلاَّ صِدقُ اللُّجُوءِ إِلى اللهِ ، وَلا سَبِيلَ إِلاَّ اتِّبَاعُ السُّنَنِ وَاقتِفَاءُ الأَثَرِ ، وَمَن صَدَقَ في ذَلِكَ وَكَانَ فِيهِ جَادًّا ، أَكثَرَ مِنَ العِبَادَةِ ، وَجَاهَدَ نَفسَهُ عَلَى الطَّاعَةِ ، عَمَلاً بِقَولِ الهَادِي البَشِيرِ وَالسِّرَاجِ المُنِيرِ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " العِبَادَةُ في الهَرجِ كَهِجرَةٍ إِليَّ " رَوَاهُ مُسلِمٌ وَغَيرُهُ . وَقَد قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ في سُورَةِ العَنكَبُوتِ " الم . أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُترَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُم لا يُفتَنُونَ . وَلَقَد فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبلِهِم فَلَيَعلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعلَمَنَّ الكَاذِبِينَ "
وَفي هَذِهِ السُّورَةِ الَّتي بَيَّنَت سُنَّةَ الابتِلاءِ وَحَتمِيَّتَهَا ، وَأَنَّهُ لا بُدَّ مِنهَا لِلمُؤمِنِينَ لِيَتَمَيَّزَ الصَّادِقُونَ مِنَ الكَاذِبِينَ ، وَلِيَظهَرَ أَهلُ الجِدِّ وَالفَصلِ مِن أَهلِ الكَسَلِ وَالهَزْلِ ، نَجِدُ أَنَّ المَولى ـ سُبحَانَهُ ـ يُبَيِّنُ لِعِبَادِهِ مُبَاشَرَةً طَرِيقَ النَّجَاةِ وَالخَلاصِ ، لِيَسلُكَهُ مَن كَانَ صَادِقًا وَبِلِقَاءِ اللهِ مُوقِنًا ، حَيثُ يَقُولُ ـ سُبحَانَهُ ـ : " مَن كَانَ يَرجُو لِقَاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ . وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفسِهِ إِنَّ اللهَ لَغَنيٌّ عَنِ العَالمِينَ . وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنهُم سَيِّئَاتِهِم وَلَنَجزِيَنَّهُم أَحسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعمَلُونَ "
إِنَّهَا المُجَاهَدَةُ ـ يَا عِبَادَ اللهِ ـ نَعَم ، إِنَّهَا المُجَاهَدَةُ ، لا بُدَّ لِلمُؤمِنِ مِنهَا مَا دَامَت رُوحُهُ في جَسَدِهِ ، إِذِ الأَعدَاءُ مِن حَولِهِ كَثِيرُونَ ، وَالمُشغِلاتُ وَالمُلهِيَاتُ أَكثَرُ وَأَشَدُّ تَنَوُّعًا وَتَلَوُّنًا ، أَقرَبُهَا نَفسُهُ الَّتي بَينَ جَنبَيهِ ، وَشَرُّهَا شَيطَانُهُ الَّذِي يَجرِي مِنهُ مَجرَى الدَّمِ ، ثم هَوَى النَّفسِ الأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ ، ثم الدُّنيَا الغَرَّارَةُ الخَدَّاعَةُ ، وَلا خَلاصَ مِن ضَلالٍ وَغِوَايَةٍ ، وَلا سَبِيلَ إِلى استِقَامَةٍ وَهِدَايَةٍ ، إِلاَّ بِالإِيمَانِ وَالمُجَاهَدَةِ ، وَالصَّبرِ وَالمُصَابَرَةِ ، وَالثَّبَاتِ وَالمُرَابَطَةِ ، وَمِن ثَمَّ نَجِدُ أَنَّ المَولى ـ تَبَارَكَ وَتَعَالى ـ كَمَا بَدَأَ سُورَةَ العَنكَبُوتِ بَعدَ ذِكرِ الفِتَنِ بِذِكرِ المُجَاهَدَةِ ، فَقَد خَتَمَهَا بِبَيَانِ ثَمرَةِ المُجَاهَدَةِ ، فَقَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهدِيَنَّهُم سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ المُحسِنِينَ " كُلَّ ذَلِكَ ـ عِبَادَ اللهِ ـ لِيَتَبَيَّنَ لِلمُؤمِنِ أَنَّ طَرِيقَ الجَنَّةِ لَيسَ كَمَا تَتَصَوَّرُ بَعضُ النُّفُوسِ الضَّعِيفَةُ أَو تَتَمَنَّى وَتَتَشَهَّى ، يُنَالُ بِأَقَلِّ الجُهدِ وَأَيسَرِ العَمَلِ ، أَو بِاتَّبِاعِ هَوَى النُّفُوسِ وَكَثرَةِ التَّلَفُّتِ ، دُونَ صَبرٍ وَمُصَابَرَةِ وَمُجَاهَدَةِ ، وَاستِمرَارِ عَلَى الطَّاعَةِ وَاستِقَامَةٍ عَلَى الصِّرَاطِ ، وَإِكرَاهٍ لَهَا لِتَسِيرَ عَلَى مَا سَارَ عَلَيهِ الصَّادِقُونَ المُشَمِّرُونَ .
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِنَّ المُؤمِنَ الصَّادِقَ عَالي الهِمَّةِ ، عَظِيمُ الرَّغبَةِ فِيمَا عِندَ اللهِ مِنَ الجَزَاءِ ، وَمِن ثَمَّ فَهُوَ لا يَقنَعُ بِالدُّونِ ، وَلا يَمِيلُ إِلى الأَقَلِّ وَالأَصغَرِ وَالأَدنى ، بَل هُوَ دَائِمُ التَّطَلُّعِ إِلى الأَكمَلِ وَالأَحسَنِ وَالأَعلَى ، يَستَشعِرُ وَلا سِيَّمَا في مَوَاسِمِ الخَيرَاتِ وَالطَّاعَاتِ كَهَذَا الشَّهرِ الكَرِيمِ أَنَّهُ في مَيدَانِ سِبَاقٍ وَمُنَافَسَةٍ وَمُسَارَعَةٍ ، وَزَمَانِ اغتِنَامٍ لِلأَجرِ وَاستِكثَارٍ مِنَ الأَعمَالِ الفَاضِلَةِ ، وَلِذَا فَهُوَ آخِذٌ إِهبَتَهُ مُعِدٌّ عِدَّتَهُ ، مُشَمِّرٌ عَن سَاعِدِ الجِدِّ وَالاجتِهَادِ ، مُستَعِدٌّ لِيُسَابِقَ إِلى الخَيرِ وَيُنَافِسَ فِيهِ ، مُمتَثِلاً أَمرَ رَبِّهِ حِينَ دَعَا المُؤمِنِينَ المُتَّقِينَ فَقَالَ : " وَسَارِعُوا إِلى مَغفِرَةٍ مِن رَبِّكُم وَجَنَّةٍ عَرضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرضُ أَعِدَّت لِلمُتَّقِينَ "
وَقَالَ : " سَابِقُوا إِلى مَغفِرَةٍ مِن رَبِّكُم وَجَنَّةٍ عَرضُهَا كَعَرضِ السَّمَاءِ وَالأَرضِ أُعِدَّت لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضلُ اللهِ يُؤتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الفَضلِ العَظِيمِ " وَحِينَ قَالَ بَعدَ أَن وَصَفَ شَيئًا مِن نَعِيمِ الجَنَّةِ : " وَفي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المُتَنَافِسُونَ " وَالمُؤمِنُ حِينَ يَفعَلُ ذَلِكَ إِنَّمَا يَفعَلُه أَمَلاً في أَن يَكُونَ ممَّنَ امتَدَحَهُمُ اللهُ ـ تَعَالى ـ حَيثُ قَالَ : " وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ . أُولَئِكَ المُقَرَّبُونَ . في جَنَّاتِ النَّعِيمِ "
إِنَّ المُؤمِنَ العَاقِلَ لَيَعلَمُ أَنَّهُ لا بُدَّ في هَذَا السِّبَاقِ العَظِيمِ وَالسُّوقِ الرَّابِحَةِ وَالمُوسِمِ الكَرِيمِ ، مِن مُجَاهَدَةِ النَّفسِ وَمُغَالَبَتِهَا ، وَحَملِهَا عَلَى مَا تَكرَهُ وَنَهيِهَا عَنِ الهَوَى ، وَعَدَمِ التَّنَازُلِ مَعَهَا فِيمَا تَشتَهِي ، إِذْ هُوَ يَعلَمُ أَنْ لا سَبِيلَ لِنَجَاتِهَا إِلاَّ بِتَجَرُّعِهَا مَرَارَةَ الصَّبرِ وَتَحَمُّلِهَا مَشَقَّةَ الطَّاعَةِ ، وَأَنَّ تَركَهَا تَتَمَتَّعُ بِحَلاوَةِ الشَّهَوَاتِ العَاجِلَةِ وَلَذَّةِ الرَّغَبَاتِ القَرِيبَةِ ، إِنَّمَا هُوَ الرِّضَا بِانزِلاقِهَا لِلحَضِيضِ بَعدَ حِينٍ ، وَمَن كَانَ في شَكٍّ مِن ذَلِكَ أَو نِسيَانٍ لَهُ ، فَلْيَستَمِعْ قَولَ النَّاصِحِ الصَّادِقِ المُشفِقِ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ في الحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ البُخَارِيُّ : " حُجِبَتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ ، وَحُجِبَتِ الجَنَّةُ بِالمَكَارِهِ "
وَعِندَ مُسلِمٍ : " حُفَّتِ الجَنَّةُ بِالمَكَارِهِ ، وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ "
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِنَّكُم في مَوسِمٍ عَظِيمٍ مَضَى نِصفُهُ وَذَهَبَ شَطرُهُ ، وَيُوشِكُ أَن تَتَصَرَّمَ أَيَّامُهُ سَرِيعًا وَتَنقَضِي لَيَالِيهِ جمِيعًا ، وَالغَافِلُ في غَفلَتِهِ وَالمُفَرِّطُ في سِنَتِهِ ، أَلا فَلا تُغلَبُنُّ عَلَى مُجَاهَدَةِ النُّفُوسِ عَلَى الخَيرِ ، وَتَصبِيرِهَا في مَوَاطِنِ العِبَادَةِ ، وَرَبطِهَا في مَيَادِينِ الطَّاعَةِ ، فَإِنَّ بَينَ أَيدِيكُم فُرَصًا لِلتَّنَافُسِ وَالمُسَابَقَةِ لا تُنَالُ بِالرَّاحَةِ ، وَصُوَرًا جَلِيلَةً مِنَ القُربَةِ وَالعِبَادَةِ لا يَصبِرُ عَلَيهَا إِلاَّ السَّابِقُونَ المُجَاهِدُونَ ، كَالتَّبكِيرِ إِلى الصَّلَوَاتِ المَكتُوبَاتِ ، وَالحِرصِ عَلَى الصَّفِّ الأَوَّلِ في الجُمَعِ وَالجَمَاعَاتِ ، وَالقُربِ مِنَ الإِمَامِ وَإِدرَاكِ تَكبِيرَةِ الإِحرَامِ ، قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " لَو يَعلَمُ النَّاسُ مَا في النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الأَوَّلِ ثم لم يَجِدُوا إِلاَّ أَن يَستَهِمُوا عَلَيهِ لاستَهَمُوا ، وَلَو يَعلَمُونَ مَا في التَّهجِيرِ لاستَبَقُوا إِلَيهِ ، وَلَو يَعلَمُونَ مَا في العَتَمَةِ وَالصُّبحِ لأَتوهُمَا وَلَو حَبوًا " مُتَّفَقٌ عَلَيهِ .
ثم إِنَّ دُونَ ذَلِكَ وَقَرِيبًا مِنهُ عِبَادَاتٍ وَطَاعَاتٍ وَنَوَافِلَ وَقُرُبَاتٍ ، تَحتَاجُ إِلى صَبرٍ وَمُصَابَرَةٍ وَمُجَاهَدَةٍ ، مِن أَدَاءِ الزَّكَاةِ لِمَنِ اعتَادَ إِخَرَاجَهَا في هَذَا الشَّهرِ الكَرِيمِ ، وَتَفطِيرِ الصَّائِمِينَ ، وَبَذلِ الصَّدَقَاتِ وَتَفرِيجِ الكُرُبَاتِ ، وَالمُحَافَظَةِ عَلَى السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ وَالإِكثَارِ مِنَ النَّوَافِلِ ، وَزَمِّ الأَلسِنَةِ عَنِ الهَمزِ وَاللَّمزِ وَالغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ وَقَولِ الزَّورِ ، وَإِلزَامَهَا قِرَاءَةَ القُرآنِ وَذِكرَ اللهِ وَالدُّعَاءَ ، وَأَدَاءِ صَلاةِ القِيَامِ وَإِتمَامِهَا مَعَ الإِمَامِ ، وَعَدَمِ التَّضَجُّرِ ممَّن يَحرِصُ مِن مُوَفَّقِي الأَئِمَّةِ عَلَى إِتمَامِهَا في القِرَاءَةِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالذِّكرِ وَالدُّعَاءِ ، وَالأَهَمُّ مِن ذَلِكَ وَالأَعظَمُ ، شُكرُ اللهِ عَلَى مَا مَنَّ بِهِ وَوَفَّقَ إِلَيهِ وَهَدَى ، وَالحَذَرُ مِنَ استِكثَارِ العَمَلِ أَوِ المَنِّ بِهِ وَالأَذَى ، أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ : " قَالَتِ الأَعرَابُ آمَنَّا قُلْ لم تُؤمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسلَمنَا وَلَمَّا يَدخُلِ الإِيمَانُ في قُلُوبِكُم وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتكُم مِن أَعمَالِكُم شَيئًا إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ . إِنَّمَا المُؤمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لم يَرتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَموَالِهِم وَأَنفُسِهِم في سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ . قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُم وَاللهُ يَعلَمُ مَا في السَّمَاوَاتِ وَمَا في الأَرضِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمٌ . يَمُنُّونَ عَلَيكَ أَنْ أَسلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسلامَكُم بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيكُم أَنْ هَدَاكُم لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُم صَادِقِينَ . إِنَّ اللهَ يَعلَمُ غَيبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ وَاللهُ بَصِيرٌ بما تَعمَلُونَ "
الخطبة الثانية :
أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ حَقَّ التَّقوَى ، وَتَمَسَّكُوا مِنَ الإِسلامِ بِالعُروَةِ الوُثقَى ، وَاحذَرُوا أَسبَابَ سَخَطِ المَولى ـ جَلَّ وَعَلا ـ فَإِنَّ أَجسَامَكُم عَلَى النَّارِ لا تَقوَى ، وَجَاهِدُوا النُّفُوسَ عَلَى مَا يُنجِيهَا وَيُورِدُهَا جَنَّةَ المَأوَى ، فَإِنَّهُ لا نَجَاةَ وَلا خَلاصَ إِلاَّ بِالمُجَاهَدَةِ ، قَالَ الإِماَمُ ابنُ القَيِّمِ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ : مُعَلِّقًا عَلَى قَولِهِ ـ تَعَالى ـ : " وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهدِيَنَّهُم سُبُلَنَا " قَالَ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ : عَلَّقَ ـ سُبحَانَهُ ـ الهِدَايَةَ بِالجِهَادِ ، فَأَكمَلُ النَّاسِ هِدَايَةً أَعظَمُهُم جِهَادًا ، وَأَفرَضُ الجِهَادِ جِهَادُ النَّفسِ وَجِهَادُ الهَوَى وَجِهَادُ الشَّيطَانِ وَجِهَادُ الدُّنيَا ، فَمَن جَاهَدَ هَذِهِ الأَربَعَةَ في اللهِ ، هَدَاهُ اللهُ سُبُلَ رِضَاهُ المُوصِلَةَ إِلى جَنَّتِهِ ، وَمَن تَرَكَ الجِهَادَ فَاتَهُ مِنَ الهُدَى بِحَسَبِ مَا عَطَّلَ مِنَ الجِهَادِ . اِنتَهَى كَلامُهُ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ وَهُوَ كَلامُ إِمَامٍ عَالمٍ عَامِلٍ ، وَتَأَمَّلُوا مِنهُ قَولَهُ : فَأَكمَلُ النَّاسِ هِدَايَةً أَعظَمُهُم جِهَادًا ، وَكَأَنَّهُ أَخَذَهُ ـ وَاللهُ أَعلَمُ ـ مِن قَولِهِ ـ تَعَالى ـ في نِهَايَةِ الآيَةِ نَفسِهَا حَيثُ قَالَ : " وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ المُحسِنِينَ " وَالمُحسِنُونَ الَّذِينَ نَالُوا شَرَفَ مَعِيَّةِ اللهِ لهم بِالتَّأيِيدِ وَالعُونِ وَالنَّصرِ وَالهِدَايَةِ ، لَيسُوا هُمُ المُتَفَضِّلِينَ كَمَا قَد يُخَيَّلُ لِبَعضِ النُّفُوسِ الضَّعِيفَةِ الفَقِيرَةِ ، الَّتي بُلِيَت بِالمَنِّ عَلَى رَبِّهَا بما تَعمَلُ وَاستِكثَارِ مَا تُقَدِّمُ ، وَلَكِنَّ المُحسِنِينَ ـ وَرَبِّ الكَعبَةِ ـ هُمُ المُتقِنُونَ لأَعمَالِهِم ، المُخلِصُونَ فِيهَا لِرَبِّهِم ، الحَرِيصُونَ عَلَى الإِتيَانِ بها عَلَى سُنَّةِ نَبِيِّهِم ، وَهَؤُلاءِ هُمُ الحَقِيقُونَ بِأَن يَزِيدَهُمُ اللهُ تَوفِيقًا وَتَسدِيدًا جَزَاءً لإِحسَانِهِم ، حَيثُ قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَالَّذِينَ اهتَدَوا زَادَهُم هُدًى وَآتَاهُم تَقوَاهُم " وَالإِيمَانُ لَيسَ كَلِمَةً تُقَالُ بِاللِّسَانِ دُونَ أَن يَكُونَ لها حَقِيقَةٌ في القُلُوبِ وَأَثَرٌ في الجَوَارِحِ ، إِنَّهُ أَمَانَةٌ وَتَكَالِيفُ وَأَعبَاءٌ ، وَجِهَادٌ وَصبرٌ وَمُصَابَرَةٌ ، وَجُهدٌ يَحتَاجُ إِلى احتِمَالٍ ، فَأَينَ مِن ذَلِكَ مَن يَمضِي عَلَيهِمُ الشَّهرُ الكَرِيمُ وَهُم يُمَاطِلُونَ وَيُسَوِّفُونَ وَلا يُجَاهِدُونَ ؟ أَينَ مِنهُ مَن يَتَتَبَّعُونَ أَخَفَّ المَسَاجِدِ صَلاةً وَأَعجَلَهُمُ انصِرَافًا وَأَسرَعَهُم خُرُوجًا ؟ بَل أَينَ مِنهُ مَن لا يَكَادُونَ يُدرِكُونَ خَمسَ الفَرَائِضِ مَعَ الجَمَاعَةِ ؟ وَمَن قَد يَبخَلُونَ بِالزَّكَاةِ وَمَن لا يَتَصَدَّقُونَ وَلا يُفَطِّرُونَ ؟ أَلا فَاتَّقُوا اللهَ ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ " يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الفُقَرَاءُ إِلى اللهِ وَاللهُ هُوَ الغَنيُّ الحَمِيدُ . إِنْ يَشَأْ يُذهِبْكُم وَيَأتِ بِخَلقٍ جَدِيدٍ . وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ . وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزرَ أُخرَى وَإِنْ تَدعُ مُثقَلَةٌ إِلى حِملِهَا لا يُحمَلْ مِنهُ شَيءٌ وَلَو كَانَ ذَا قُربى إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخشَونَ رَبَّهُم بِالغَيبِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفسِهِ وَإِلى اللهِ المَصِيرُ "
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسأَلُكَ ثَبَاتًا عَلَى الحَقِّ وَنَجَاةً مِنَ الفِتَنِ ، اللَّهُمَّ أَعِنَّا عَلَى ذِكرِكَ وَشُكرِكَ وَحُسنِ عِبَادَتِكَ ، اللَّهُمَّ لَولاكَ مَا اهتَدَينَا وَلا تَصَدَّقنَا وَلا صُمنَا وَلا صَلَّينَا ، اللَّهُمَّ فَاغفِرْ لَنَا مَا قَدَّمنَا وَمَا أَخَّرنَا ، وَمَا أَسرَرنَا وَمَا أَعلَنَّا وَمَا أَسرَفَنَا ، وَمَا أَنتَ أَعلَمُ بِهِ مِنَّا ، أَنتَ المُقَدِّمُ وَأَنتَ المُؤَخِّرُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ .
الخطبة الأولى :
أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ " وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجعَلْ لَهُ مَخرَجًا . وَيَرزُقْهُ مِن حَيثُ لا يَحتَسِبُ " " وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجعَلْ لَهُ مِن أَمرِهِ يُسرًا " " وَمَن يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعظِمْ لَهُ أَجرًا "
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، وَفي وَقتِ الفِتَنِ الَّتي تَمُوجُ بِالأُمَّةِ وَتَعصِفُ بِالقُلُوبِ ، وَيَتَطَلَّعُ المُؤمِنُ الصَّادِقُ الإِيمَانِ إِلى النَّجَاةِ مِنهَا وَالخَلاصِ مِن مُضِلاَّتِهَا ، وَلُقيَا رَبِّهِ عَلَى العَهدِ مُستَقِيمًا عَلَى الصِّرَاطِ ، فَإِنَّهُ لا عِلاجَ وَلا دَوَاءَ ، وَلا مَخرَجَ وَلا مَنجَى ، إِلاَّ الفِرَارُ إِلى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ " فَفِرُّوا إِلى اللهِ إِني لَكُم مِنهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ "
نَعَم ـ عِبَادَ اللهِ ـ لا مُخَلِّصَ إِلاَّ الإِخلاصُ ، وَلا مُنجِيَ إِلاَّ صِدقُ اللُّجُوءِ إِلى اللهِ ، وَلا سَبِيلَ إِلاَّ اتِّبَاعُ السُّنَنِ وَاقتِفَاءُ الأَثَرِ ، وَمَن صَدَقَ في ذَلِكَ وَكَانَ فِيهِ جَادًّا ، أَكثَرَ مِنَ العِبَادَةِ ، وَجَاهَدَ نَفسَهُ عَلَى الطَّاعَةِ ، عَمَلاً بِقَولِ الهَادِي البَشِيرِ وَالسِّرَاجِ المُنِيرِ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " العِبَادَةُ في الهَرجِ كَهِجرَةٍ إِليَّ " رَوَاهُ مُسلِمٌ وَغَيرُهُ . وَقَد قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ في سُورَةِ العَنكَبُوتِ " الم . أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُترَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُم لا يُفتَنُونَ . وَلَقَد فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبلِهِم فَلَيَعلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعلَمَنَّ الكَاذِبِينَ "
وَفي هَذِهِ السُّورَةِ الَّتي بَيَّنَت سُنَّةَ الابتِلاءِ وَحَتمِيَّتَهَا ، وَأَنَّهُ لا بُدَّ مِنهَا لِلمُؤمِنِينَ لِيَتَمَيَّزَ الصَّادِقُونَ مِنَ الكَاذِبِينَ ، وَلِيَظهَرَ أَهلُ الجِدِّ وَالفَصلِ مِن أَهلِ الكَسَلِ وَالهَزْلِ ، نَجِدُ أَنَّ المَولى ـ سُبحَانَهُ ـ يُبَيِّنُ لِعِبَادِهِ مُبَاشَرَةً طَرِيقَ النَّجَاةِ وَالخَلاصِ ، لِيَسلُكَهُ مَن كَانَ صَادِقًا وَبِلِقَاءِ اللهِ مُوقِنًا ، حَيثُ يَقُولُ ـ سُبحَانَهُ ـ : " مَن كَانَ يَرجُو لِقَاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ . وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفسِهِ إِنَّ اللهَ لَغَنيٌّ عَنِ العَالمِينَ . وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنهُم سَيِّئَاتِهِم وَلَنَجزِيَنَّهُم أَحسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعمَلُونَ "
إِنَّهَا المُجَاهَدَةُ ـ يَا عِبَادَ اللهِ ـ نَعَم ، إِنَّهَا المُجَاهَدَةُ ، لا بُدَّ لِلمُؤمِنِ مِنهَا مَا دَامَت رُوحُهُ في جَسَدِهِ ، إِذِ الأَعدَاءُ مِن حَولِهِ كَثِيرُونَ ، وَالمُشغِلاتُ وَالمُلهِيَاتُ أَكثَرُ وَأَشَدُّ تَنَوُّعًا وَتَلَوُّنًا ، أَقرَبُهَا نَفسُهُ الَّتي بَينَ جَنبَيهِ ، وَشَرُّهَا شَيطَانُهُ الَّذِي يَجرِي مِنهُ مَجرَى الدَّمِ ، ثم هَوَى النَّفسِ الأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ ، ثم الدُّنيَا الغَرَّارَةُ الخَدَّاعَةُ ، وَلا خَلاصَ مِن ضَلالٍ وَغِوَايَةٍ ، وَلا سَبِيلَ إِلى استِقَامَةٍ وَهِدَايَةٍ ، إِلاَّ بِالإِيمَانِ وَالمُجَاهَدَةِ ، وَالصَّبرِ وَالمُصَابَرَةِ ، وَالثَّبَاتِ وَالمُرَابَطَةِ ، وَمِن ثَمَّ نَجِدُ أَنَّ المَولى ـ تَبَارَكَ وَتَعَالى ـ كَمَا بَدَأَ سُورَةَ العَنكَبُوتِ بَعدَ ذِكرِ الفِتَنِ بِذِكرِ المُجَاهَدَةِ ، فَقَد خَتَمَهَا بِبَيَانِ ثَمرَةِ المُجَاهَدَةِ ، فَقَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهدِيَنَّهُم سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ المُحسِنِينَ " كُلَّ ذَلِكَ ـ عِبَادَ اللهِ ـ لِيَتَبَيَّنَ لِلمُؤمِنِ أَنَّ طَرِيقَ الجَنَّةِ لَيسَ كَمَا تَتَصَوَّرُ بَعضُ النُّفُوسِ الضَّعِيفَةُ أَو تَتَمَنَّى وَتَتَشَهَّى ، يُنَالُ بِأَقَلِّ الجُهدِ وَأَيسَرِ العَمَلِ ، أَو بِاتَّبِاعِ هَوَى النُّفُوسِ وَكَثرَةِ التَّلَفُّتِ ، دُونَ صَبرٍ وَمُصَابَرَةِ وَمُجَاهَدَةِ ، وَاستِمرَارِ عَلَى الطَّاعَةِ وَاستِقَامَةٍ عَلَى الصِّرَاطِ ، وَإِكرَاهٍ لَهَا لِتَسِيرَ عَلَى مَا سَارَ عَلَيهِ الصَّادِقُونَ المُشَمِّرُونَ .
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِنَّ المُؤمِنَ الصَّادِقَ عَالي الهِمَّةِ ، عَظِيمُ الرَّغبَةِ فِيمَا عِندَ اللهِ مِنَ الجَزَاءِ ، وَمِن ثَمَّ فَهُوَ لا يَقنَعُ بِالدُّونِ ، وَلا يَمِيلُ إِلى الأَقَلِّ وَالأَصغَرِ وَالأَدنى ، بَل هُوَ دَائِمُ التَّطَلُّعِ إِلى الأَكمَلِ وَالأَحسَنِ وَالأَعلَى ، يَستَشعِرُ وَلا سِيَّمَا في مَوَاسِمِ الخَيرَاتِ وَالطَّاعَاتِ كَهَذَا الشَّهرِ الكَرِيمِ أَنَّهُ في مَيدَانِ سِبَاقٍ وَمُنَافَسَةٍ وَمُسَارَعَةٍ ، وَزَمَانِ اغتِنَامٍ لِلأَجرِ وَاستِكثَارٍ مِنَ الأَعمَالِ الفَاضِلَةِ ، وَلِذَا فَهُوَ آخِذٌ إِهبَتَهُ مُعِدٌّ عِدَّتَهُ ، مُشَمِّرٌ عَن سَاعِدِ الجِدِّ وَالاجتِهَادِ ، مُستَعِدٌّ لِيُسَابِقَ إِلى الخَيرِ وَيُنَافِسَ فِيهِ ، مُمتَثِلاً أَمرَ رَبِّهِ حِينَ دَعَا المُؤمِنِينَ المُتَّقِينَ فَقَالَ : " وَسَارِعُوا إِلى مَغفِرَةٍ مِن رَبِّكُم وَجَنَّةٍ عَرضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرضُ أَعِدَّت لِلمُتَّقِينَ "
وَقَالَ : " سَابِقُوا إِلى مَغفِرَةٍ مِن رَبِّكُم وَجَنَّةٍ عَرضُهَا كَعَرضِ السَّمَاءِ وَالأَرضِ أُعِدَّت لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضلُ اللهِ يُؤتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الفَضلِ العَظِيمِ " وَحِينَ قَالَ بَعدَ أَن وَصَفَ شَيئًا مِن نَعِيمِ الجَنَّةِ : " وَفي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المُتَنَافِسُونَ " وَالمُؤمِنُ حِينَ يَفعَلُ ذَلِكَ إِنَّمَا يَفعَلُه أَمَلاً في أَن يَكُونَ ممَّنَ امتَدَحَهُمُ اللهُ ـ تَعَالى ـ حَيثُ قَالَ : " وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ . أُولَئِكَ المُقَرَّبُونَ . في جَنَّاتِ النَّعِيمِ "
إِنَّ المُؤمِنَ العَاقِلَ لَيَعلَمُ أَنَّهُ لا بُدَّ في هَذَا السِّبَاقِ العَظِيمِ وَالسُّوقِ الرَّابِحَةِ وَالمُوسِمِ الكَرِيمِ ، مِن مُجَاهَدَةِ النَّفسِ وَمُغَالَبَتِهَا ، وَحَملِهَا عَلَى مَا تَكرَهُ وَنَهيِهَا عَنِ الهَوَى ، وَعَدَمِ التَّنَازُلِ مَعَهَا فِيمَا تَشتَهِي ، إِذْ هُوَ يَعلَمُ أَنْ لا سَبِيلَ لِنَجَاتِهَا إِلاَّ بِتَجَرُّعِهَا مَرَارَةَ الصَّبرِ وَتَحَمُّلِهَا مَشَقَّةَ الطَّاعَةِ ، وَأَنَّ تَركَهَا تَتَمَتَّعُ بِحَلاوَةِ الشَّهَوَاتِ العَاجِلَةِ وَلَذَّةِ الرَّغَبَاتِ القَرِيبَةِ ، إِنَّمَا هُوَ الرِّضَا بِانزِلاقِهَا لِلحَضِيضِ بَعدَ حِينٍ ، وَمَن كَانَ في شَكٍّ مِن ذَلِكَ أَو نِسيَانٍ لَهُ ، فَلْيَستَمِعْ قَولَ النَّاصِحِ الصَّادِقِ المُشفِقِ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ في الحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ البُخَارِيُّ : " حُجِبَتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ ، وَحُجِبَتِ الجَنَّةُ بِالمَكَارِهِ "
وَعِندَ مُسلِمٍ : " حُفَّتِ الجَنَّةُ بِالمَكَارِهِ ، وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ "
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِنَّكُم في مَوسِمٍ عَظِيمٍ مَضَى نِصفُهُ وَذَهَبَ شَطرُهُ ، وَيُوشِكُ أَن تَتَصَرَّمَ أَيَّامُهُ سَرِيعًا وَتَنقَضِي لَيَالِيهِ جمِيعًا ، وَالغَافِلُ في غَفلَتِهِ وَالمُفَرِّطُ في سِنَتِهِ ، أَلا فَلا تُغلَبُنُّ عَلَى مُجَاهَدَةِ النُّفُوسِ عَلَى الخَيرِ ، وَتَصبِيرِهَا في مَوَاطِنِ العِبَادَةِ ، وَرَبطِهَا في مَيَادِينِ الطَّاعَةِ ، فَإِنَّ بَينَ أَيدِيكُم فُرَصًا لِلتَّنَافُسِ وَالمُسَابَقَةِ لا تُنَالُ بِالرَّاحَةِ ، وَصُوَرًا جَلِيلَةً مِنَ القُربَةِ وَالعِبَادَةِ لا يَصبِرُ عَلَيهَا إِلاَّ السَّابِقُونَ المُجَاهِدُونَ ، كَالتَّبكِيرِ إِلى الصَّلَوَاتِ المَكتُوبَاتِ ، وَالحِرصِ عَلَى الصَّفِّ الأَوَّلِ في الجُمَعِ وَالجَمَاعَاتِ ، وَالقُربِ مِنَ الإِمَامِ وَإِدرَاكِ تَكبِيرَةِ الإِحرَامِ ، قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " لَو يَعلَمُ النَّاسُ مَا في النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الأَوَّلِ ثم لم يَجِدُوا إِلاَّ أَن يَستَهِمُوا عَلَيهِ لاستَهَمُوا ، وَلَو يَعلَمُونَ مَا في التَّهجِيرِ لاستَبَقُوا إِلَيهِ ، وَلَو يَعلَمُونَ مَا في العَتَمَةِ وَالصُّبحِ لأَتوهُمَا وَلَو حَبوًا " مُتَّفَقٌ عَلَيهِ .
ثم إِنَّ دُونَ ذَلِكَ وَقَرِيبًا مِنهُ عِبَادَاتٍ وَطَاعَاتٍ وَنَوَافِلَ وَقُرُبَاتٍ ، تَحتَاجُ إِلى صَبرٍ وَمُصَابَرَةٍ وَمُجَاهَدَةٍ ، مِن أَدَاءِ الزَّكَاةِ لِمَنِ اعتَادَ إِخَرَاجَهَا في هَذَا الشَّهرِ الكَرِيمِ ، وَتَفطِيرِ الصَّائِمِينَ ، وَبَذلِ الصَّدَقَاتِ وَتَفرِيجِ الكُرُبَاتِ ، وَالمُحَافَظَةِ عَلَى السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ وَالإِكثَارِ مِنَ النَّوَافِلِ ، وَزَمِّ الأَلسِنَةِ عَنِ الهَمزِ وَاللَّمزِ وَالغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ وَقَولِ الزَّورِ ، وَإِلزَامَهَا قِرَاءَةَ القُرآنِ وَذِكرَ اللهِ وَالدُّعَاءَ ، وَأَدَاءِ صَلاةِ القِيَامِ وَإِتمَامِهَا مَعَ الإِمَامِ ، وَعَدَمِ التَّضَجُّرِ ممَّن يَحرِصُ مِن مُوَفَّقِي الأَئِمَّةِ عَلَى إِتمَامِهَا في القِرَاءَةِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالذِّكرِ وَالدُّعَاءِ ، وَالأَهَمُّ مِن ذَلِكَ وَالأَعظَمُ ، شُكرُ اللهِ عَلَى مَا مَنَّ بِهِ وَوَفَّقَ إِلَيهِ وَهَدَى ، وَالحَذَرُ مِنَ استِكثَارِ العَمَلِ أَوِ المَنِّ بِهِ وَالأَذَى ، أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ : " قَالَتِ الأَعرَابُ آمَنَّا قُلْ لم تُؤمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسلَمنَا وَلَمَّا يَدخُلِ الإِيمَانُ في قُلُوبِكُم وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتكُم مِن أَعمَالِكُم شَيئًا إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ . إِنَّمَا المُؤمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لم يَرتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَموَالِهِم وَأَنفُسِهِم في سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ . قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُم وَاللهُ يَعلَمُ مَا في السَّمَاوَاتِ وَمَا في الأَرضِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمٌ . يَمُنُّونَ عَلَيكَ أَنْ أَسلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسلامَكُم بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيكُم أَنْ هَدَاكُم لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُم صَادِقِينَ . إِنَّ اللهَ يَعلَمُ غَيبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ وَاللهُ بَصِيرٌ بما تَعمَلُونَ "
الخطبة الثانية :
أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ حَقَّ التَّقوَى ، وَتَمَسَّكُوا مِنَ الإِسلامِ بِالعُروَةِ الوُثقَى ، وَاحذَرُوا أَسبَابَ سَخَطِ المَولى ـ جَلَّ وَعَلا ـ فَإِنَّ أَجسَامَكُم عَلَى النَّارِ لا تَقوَى ، وَجَاهِدُوا النُّفُوسَ عَلَى مَا يُنجِيهَا وَيُورِدُهَا جَنَّةَ المَأوَى ، فَإِنَّهُ لا نَجَاةَ وَلا خَلاصَ إِلاَّ بِالمُجَاهَدَةِ ، قَالَ الإِماَمُ ابنُ القَيِّمِ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ : مُعَلِّقًا عَلَى قَولِهِ ـ تَعَالى ـ : " وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهدِيَنَّهُم سُبُلَنَا " قَالَ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ : عَلَّقَ ـ سُبحَانَهُ ـ الهِدَايَةَ بِالجِهَادِ ، فَأَكمَلُ النَّاسِ هِدَايَةً أَعظَمُهُم جِهَادًا ، وَأَفرَضُ الجِهَادِ جِهَادُ النَّفسِ وَجِهَادُ الهَوَى وَجِهَادُ الشَّيطَانِ وَجِهَادُ الدُّنيَا ، فَمَن جَاهَدَ هَذِهِ الأَربَعَةَ في اللهِ ، هَدَاهُ اللهُ سُبُلَ رِضَاهُ المُوصِلَةَ إِلى جَنَّتِهِ ، وَمَن تَرَكَ الجِهَادَ فَاتَهُ مِنَ الهُدَى بِحَسَبِ مَا عَطَّلَ مِنَ الجِهَادِ . اِنتَهَى كَلامُهُ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ وَهُوَ كَلامُ إِمَامٍ عَالمٍ عَامِلٍ ، وَتَأَمَّلُوا مِنهُ قَولَهُ : فَأَكمَلُ النَّاسِ هِدَايَةً أَعظَمُهُم جِهَادًا ، وَكَأَنَّهُ أَخَذَهُ ـ وَاللهُ أَعلَمُ ـ مِن قَولِهِ ـ تَعَالى ـ في نِهَايَةِ الآيَةِ نَفسِهَا حَيثُ قَالَ : " وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ المُحسِنِينَ " وَالمُحسِنُونَ الَّذِينَ نَالُوا شَرَفَ مَعِيَّةِ اللهِ لهم بِالتَّأيِيدِ وَالعُونِ وَالنَّصرِ وَالهِدَايَةِ ، لَيسُوا هُمُ المُتَفَضِّلِينَ كَمَا قَد يُخَيَّلُ لِبَعضِ النُّفُوسِ الضَّعِيفَةِ الفَقِيرَةِ ، الَّتي بُلِيَت بِالمَنِّ عَلَى رَبِّهَا بما تَعمَلُ وَاستِكثَارِ مَا تُقَدِّمُ ، وَلَكِنَّ المُحسِنِينَ ـ وَرَبِّ الكَعبَةِ ـ هُمُ المُتقِنُونَ لأَعمَالِهِم ، المُخلِصُونَ فِيهَا لِرَبِّهِم ، الحَرِيصُونَ عَلَى الإِتيَانِ بها عَلَى سُنَّةِ نَبِيِّهِم ، وَهَؤُلاءِ هُمُ الحَقِيقُونَ بِأَن يَزِيدَهُمُ اللهُ تَوفِيقًا وَتَسدِيدًا جَزَاءً لإِحسَانِهِم ، حَيثُ قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَالَّذِينَ اهتَدَوا زَادَهُم هُدًى وَآتَاهُم تَقوَاهُم " وَالإِيمَانُ لَيسَ كَلِمَةً تُقَالُ بِاللِّسَانِ دُونَ أَن يَكُونَ لها حَقِيقَةٌ في القُلُوبِ وَأَثَرٌ في الجَوَارِحِ ، إِنَّهُ أَمَانَةٌ وَتَكَالِيفُ وَأَعبَاءٌ ، وَجِهَادٌ وَصبرٌ وَمُصَابَرَةٌ ، وَجُهدٌ يَحتَاجُ إِلى احتِمَالٍ ، فَأَينَ مِن ذَلِكَ مَن يَمضِي عَلَيهِمُ الشَّهرُ الكَرِيمُ وَهُم يُمَاطِلُونَ وَيُسَوِّفُونَ وَلا يُجَاهِدُونَ ؟ أَينَ مِنهُ مَن يَتَتَبَّعُونَ أَخَفَّ المَسَاجِدِ صَلاةً وَأَعجَلَهُمُ انصِرَافًا وَأَسرَعَهُم خُرُوجًا ؟ بَل أَينَ مِنهُ مَن لا يَكَادُونَ يُدرِكُونَ خَمسَ الفَرَائِضِ مَعَ الجَمَاعَةِ ؟ وَمَن قَد يَبخَلُونَ بِالزَّكَاةِ وَمَن لا يَتَصَدَّقُونَ وَلا يُفَطِّرُونَ ؟ أَلا فَاتَّقُوا اللهَ ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ " يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الفُقَرَاءُ إِلى اللهِ وَاللهُ هُوَ الغَنيُّ الحَمِيدُ . إِنْ يَشَأْ يُذهِبْكُم وَيَأتِ بِخَلقٍ جَدِيدٍ . وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ . وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزرَ أُخرَى وَإِنْ تَدعُ مُثقَلَةٌ إِلى حِملِهَا لا يُحمَلْ مِنهُ شَيءٌ وَلَو كَانَ ذَا قُربى إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخشَونَ رَبَّهُم بِالغَيبِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفسِهِ وَإِلى اللهِ المَصِيرُ "
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسأَلُكَ ثَبَاتًا عَلَى الحَقِّ وَنَجَاةً مِنَ الفِتَنِ ، اللَّهُمَّ أَعِنَّا عَلَى ذِكرِكَ وَشُكرِكَ وَحُسنِ عِبَادَتِكَ ، اللَّهُمَّ لَولاكَ مَا اهتَدَينَا وَلا تَصَدَّقنَا وَلا صُمنَا وَلا صَلَّينَا ، اللَّهُمَّ فَاغفِرْ لَنَا مَا قَدَّمنَا وَمَا أَخَّرنَا ، وَمَا أَسرَرنَا وَمَا أَعلَنَّا وَمَا أَسرَفَنَا ، وَمَا أَنتَ أَعلَمُ بِهِ مِنَّا ، أَنتَ المُقَدِّمُ وَأَنتَ المُؤَخِّرُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ .
المشاهدات 3979 | التعليقات 5
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا ونفع بعلمك
بارك الله فيك ياشيخ عبدالله
خطبة مفيدة وغزيرة بالفوائد
لاحرمك الله الأجر
جزاكم الله خيرا وإليكم الخطبة دون أي تعديل.
المرفقات
https://khutabaa.com/wp-content/uploads/attachment/7/1/4/رمضان%20والذين%20جاهدوا%20ومن%20يمنون.doc
https://khutabaa.com/wp-content/uploads/attachment/7/1/4/رمضان%20والذين%20جاهدوا%20ومن%20يمنون.doc
جزاك الله خيرا
الشمراني الشمراني
تعديل التعليق