خطبة : ( رمضان قد أزف الرحيل فرفقا)
عبدالله البصري
الخطبة الأولى :
أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنظُرْ نَفسٌ مَا قَدَّمَت لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بما تَعمَلُونَ "
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، في اليَومِ السَّادِسِ وَالعِشرِينَ مِن رَمَضَانَ ، وَفي آخِرِ جُمُعَةٍ في شَهرِ الرَّحمَةِ وَالغُفرَانِ ، مَا الَّذِي يَجُولُ بِخَاطِرِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنكُم وَفِيمَ تُفَكِّرُونَ ؟!
هَا هِيَ أَيَّامُ الشَّهرِ الفَضِيلِ تُسَارِعُ بِالرَّحِيلِ ، كَانَت كَمَا وَصَفَهَا اللهُ ـ تَعَالى ـ أَيَّامًا مَعدُودَاتٍ ، مَضَت سَرِيعَةً وَكَأَنَّهَا سُوَيعَاتٌ !
فَلِلَّهِ الحَمدُ عَلَى مَا بَلَّغَنَا مِنهَا ، وَلَهُ الشُّكرُ عَلَى مَا وَفَّقَنَا إِلَيهِ مِن عَمَلٍ صَالِحٍ فِيهَا ، وَنَسأَلُهُ ـ تَعَالى ـ قَبُولَ مَا فَاتَ وَانقَضَى ، وَالتَّوفِيقَ لِلازدِيَادِ مِنَ الصَّالِحَاتِ فِيمَا بَقِيَ .
أَزِفَ الرَّحِيلُ ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ وَاقتَرَبَ النَّفِيرُ ، فَهَلاَّ وَقَفنَا مَعَ أَنفُسِنَا وَساءَلْنَاهَا : مَا الَّذِي خَرَجنَا بِهِ مِن رَمَضَانَ ؟
وَكَيفَ غَدَا لَدَينَا مُستَوَى الإِيمَانِ ؟
مَا الَّذِي كَسِبنَاهُ في رَصِيدِ حَسَنَاتِنَا ؟
وَمَا الَّذِي أَضَفنَاهُ لِصَحَائِفِ أَعمَالِنَا ؟
مَاذَا تَغَيَّرَ في دَوَاخِلِنَا ؟
وَمَاذَا عَدَّلْنَا في أَنفُسِنَا ؟
مَن مِنَّا نَالَ الرَّحمَةَ وَمَن ذَاكَ المَغفُورُ لَهُ ؟
وَمَن هُوَ عَتِيقُ رَبِّهِ مِنَ النَّارِ بِفَضلِهِ ؟
مَن ذَلِكَ المُوَفَّقُ الَّذِي أَفلَحَ إِذْ أَعطَى وَاتَّقَى ، وَتَزَكَّى وَذَكَرَ اسمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ؟
وَمَن ذَاكَ الخَائِبُ الَّذِي بَخِلَ وَاستَغنى ، وَتَدَسَّى وَتَرَدَّى وَانسَاقَ وَرَاءَ النَّفسِ وَالهَوَى ؟
مَن مِنَّا شَمَّرَ وَشَدَّ المِئزَرَ وَصَامَ وَقَامَ إِيمَانًا وَاحتِسَابًا ؟
وَمَن مِنَّا شَغَلَهُ النَّومُ عَن شُهُودِ لَيلَةٍ هِيَ خَيرٌ مِن أَلفِ شَهرٍ ؟
مَن هُوَ صَاحِبُ الذِّكرِ وَتَالي الآيَاتِ ؟
وَمَن هُوَ مُرتَادُ الأَسوَاقِ وَالمُتَسَمِّرُ أَمَامَ القَنَوَاتِ ؟
مَنِ الَّذِي أَطَالَ الدُّعَاءَ وَبَالَغَ في الرَّجَاءِ ؟
مَنِ الَّذِي أَحسَنَ وَمَن ذَاكَ الَّذِي أَسَاءَ ؟
هَا هِيَ الرِّحلَةُ الرَّمَضَانِيَّةُ قَد أَوشَكَت عَلَى الانتِهَاءِ ، فَاسأَلْ نَفسَكَ وأَجِبْهَا بِصِدقٍ : هَل كُنتُ مِنَ المُسَدِّدِينَ المُقَارِبِينَ ، أَم أَنَّي مَا زِلتُ مِنَ المُطَفِّفِينَ المُخسِرِينَ ؟!
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، لَقَد كَانَ فِينَا مَن أَقبَلَ وَمِنَّا مَن أَقصَرَ ، وَوُجِدَ بَينَنَا مَن أَتَمَّ وَمَن قَصَّرَ ، وَكَانَ هُنَاكَ مُقِلٌّ وَمُكثِرٌ ومُتَعثِّرٌ وَمُستَغفِرٌ ، مِنَّا مَن أَذهَبَت حَسَنَاتُهُ سَيِّئَاتِهِ ، وَفِينَا مَن لم يَزَلْ يَحمِلُ عَلَى جَسَدِهِ جِبَالاً مِنَ الذُّنُوبِ تُثقِلُ كَاهِلَهُ ، وَمَعَ هَذَا فَقَد بَقِيَت في الشَّهرِ بَقِيَّةٌ مُبَارَكَةٌ ، وَالأَعمَالُ بِالخَوَاتِيمِ ، وَمَن أَحسَنَ فِيمَا بَقِيَ غُفِرَ لَهُ مَا مَضَى ، وَمَن أَسَاءَ فِيمَا بَقِيَ أُخِذَ بما مَضَى وَمَا بَقِيَ .
سَلامٌ عَلَى شَهرِ الصِّيَامِ فَإِنَّهُ ** أَمَانٌ مِنَ الرَّحمَنِ كُلَّ أَمَانِ
لَئِن فَنِيَت أَيَّامُكَ الغُرُّ بَغتَةً ** فَمَا الحُزنُ مِن قَلبي عَلَيكَ بِفَانِ
عِبَادَ اللهِ ، مَا أَسرَعَ أَيَّامَ السُّرُورِ وَأَعجَلَ انقِضَاءَهَا !
وَمَا أَشَدَّ فَوَاتَ لَحَظَاتِ الفَرَحِ وَأَقسَى زَوَالَهَا !
وَاللهِ لَكَأَنَّنَا نَتَذَكَّرُ يَومَ هَلَّ بِالأَمسِ هِلالُهُ ، وَتَبَاشَرَ النَّاسُ بِنَسِيمِهِ وَظِلالِهِ ، وَهَا هِيَ سَفِينَتُهُ اليَومَ تَسِيرُ سَرِيعًا ، وَسَاعَاتُهُ تَمضِي جَمِيعًا ، هَا هُوَ قَدِ اقتَرَبَ رَحِيلُهُ وَأَزِفَ تَحوِيلُهُ ، فَيَا لَيتَ شِعرِي مَنِ المَقبُولُ مِنَّا فَيُهَنَّا ، وَمَنِ المَردُودُ فَيُعَزَّى ؟!
يَاقَومِ ، أَلا بَاكٍ عَلَى مَا ظَهَرَ مِن عُيُوبِهِ !
أَلا رَاغِبٌ إِلى اللهِ في غُفرَانِ ذُنُوبِهِ !
أَمَا هَذَا شَهرُ التَّوبَةِ وَالغُفرَانِ ؟!
أَمَا هَذَا مَعدِنُ العَفوِ وَالرِّضوَانِ ؟!
أَمَا فِيهِ فُتِحَت أَبوَابُ الجِنَانِ وَأُغلِقَت أَبوَابُ النِّيرَانِ ؟!
أَمَا فِيهِ صُفِّدَ كُلُّ مَارِدٍ وَشَيطَانٍ ؟!
أَمَا فِيهِ تُفَرَّقُ هِبَاتُ الإِحسَانِ وَتَكثُرُ عَطَايَا المَلِكِ المَنَّانِ ؟!
أَمَا للهِ في كُلِّ لَيلَةٍ مِنهُ عُتَقَاءُ يَنَالُونَ الرِّضوَانَ ؟!
فَمَا لَكُم عَن ثَوَابِهِ غَافِلُونَ ؟!
وَفي ثِيَابِ المُخَالَفَةِ رَافِلُونَ ؟!
" أَفَسِحرٌ هَذَا أَم أَنتُم لا تُبصِرُونَ "
أَلا فَانتَبِهُوا أَيُّهَا السَّادِرُونَ " وَتُوبُوا إِلى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا المُؤمِنُونَ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ "
أَيُّهَا الصَّائِمُونَ القَائِمُونَ ، لَقَد وَجَدْنَا في رَمَضَانَ مَا لم نَجِدْ في غَيرِهِ ، فَيَا لَيتَهُ يَبقَى فِينَا طَوِيلاً ولا يَرحَلُ عَنَّا سَرِيعًا ، لَقَد طَهَّرَنَا وَغَيَّرَنَا ، وَجَعَلَنَا عِندَ بُلُوغِنَا إِيَّاهُ عَلَى غَيرِ مَا كُنَّا ، لَقَد تَعَلَّمنَا مِنهُ الكَثِيرَ وَالكَثِيرَ ، وَحَصَّلْنَا مِن جُودِهِ العَطَاءَ الجَزِيلَ ، عَلَّمَنَا أَن نَتَغَلَّبَ عَلَى شَهَوَاتِ بُطُونِنَا وَفُرُوجِنَا ، وَأَن نُجَاهِدَ أَنفُسَنَا وَنَنتَصِرَ عَلَى أَلَدِّ أَعدَائِنَا ، عَلَّمَنَا الصَّبرَ وَالحِلمَ وَالأَنَاةَ ، وَأَن نُحسِنَ إِلى مَن أَسَاءَ إِلَينَا وَلا نَجهَلَ عَلَى مَن جَهِلَ عَلَينَا ، عَلَّمَنَا أَن نُنفِقَ في وُجُوهِ البِرِّ وَنَتَغَلَّبَ عَلَى دَوَاعِي الشُّحِّ ، وَأَن نَثِقَ بِرِزقِ اللهِ العَاجِلِ وَإِخلافِهِ عَلَينَا ، عَلَّمَنَا أَن نَشعُرَ بِجُوعِ الفُقَرَاءِ وَنُحِسَّ بِمُعَانَاةِ المَسَاكِينِ وَآلامِ المَحرُومِينَ ، فَنَمُدَّ لَهُم أَيدِيَنَا بِكُلِّ مَا نَستَطِيعُ مِن مُسَاعَدَةٍ ، زَكَاةً كَانَت أَو صَدَقَةً أَو عَطِيَّةً أَو هِبَةً ، عَلَّمَنَا أَن نَقتَرِبَ إِلى أَقَارِبِنَا وَنَصِلَ أَرحَامَنَا ، وَأَن نَبدَأَ صَفحَةً جَدِيدَةً مِنَ العِلاقَةِ الطَّيِّبَةِ مَعَ جِيرَانِنَا ، وَأَن نَنسَى رَوَاسِبَ الأَيَّامِ المَاضِيَةِ ، وَنُقبِلَ عَلَى بَعضِنَا بِقُلُوبٍ صَافِيَةٍ ، عَلَّمَنَا أَن نَتَلَذَّذَ بِكَلامِ رَبِّنَا ، وَأَن نُدِيمَ تِلاوَتَهُ آنَاءَ اللَّيلِ وَأَطرَافَ النَّهَارِ ، عَلَّمَنَا أَن نُحَافِظَ عَلَى الصَّلَوَاتِ جَمَاعَةً وَنَحرِصَ عَلَى إِدرَاكِ التَّكبِيرَةِ الأُولى مَعَ الإِمَامِ ، أَوقَفَنَا بَينَ يَدَي خَالِقِنَا في التَّرَاوِيحِ وَالتَّهَجُّدِ ، نُنَاجِيهِ وَنُنَادِيهِ وَنَدعُوهُ وَنَرجُوهُ ، وَنَشكُو لَهُ ضَعفَنَا وَعَجزَنَا وَقِلَّةَ حِيلَتِنَا ، وَنَستَغفِرُهُ مِن ذُنُوبِنَا وَخَطَايَانَا ، عُمِرَتِ المَسَاجِدُ بِأَصوَاتِ التَّالِينَ لِكِتَابِ اللهِ ، وَاصطَفَّتِ الصُّفُوفُ في الأَسحَارِ بَينَ يَدَيِ اللهِ ، رَأَينَا دُمُوعَ المُصَلِّينَ القَانِتِينَ ، وَسَمِعنَا بُكَاءَ الخَاشِعِينَ المُخبِتِينَ ، وَحَرَّكَت قُلُوبَنَا ابتِهَالاتُ الدَّاعِينَ ، وَهَيَّجَت أَفئِدَتَنَا تَضَرُّعَاتُ الطَّالِبِينَ ، شَعَرنَا فِيهِ بِالأَمَانِ وَالطُّمَأنِينَةِ ، وَذُقنَا الرَّاحَةَ النَّفسِيَّةَ وَالسَّكِينَةَ ، وَبِقَدرِ مَا تَعِبَت أَجسَامُنَا بِالصِّيَامِ وَالقِيَامِ والطَّاعَةِ ، بِقَدرِ مَا تَنَعَّمَت قُلُوبُنَا وَأَروَاحُنَا وَذَاقَتِ الرَّاحَةَ ، فَيَا أُمَّةَ الإِسلامِ ، يَا مَن كُنتُم في رَمَضَانَ خَلقًا آخَرَ ، حَاسِبُوا أَنفُسَكُم فِيمَا أَنتُم عَلَيهِ قَادِمُونَ ، وَاستَمِرُّوا عَلَى طَهَارِةِ القُلُوبِ وَتَمَسَّكُوا بِصَفَاءِ النُّفُوسِ ، وَلْيَكُنْ رَمَضَانُ مُنطَلَقًا لَكُم لِحَيَاةٍ إِيمَانِيَّةٍ مُستَمِرَّةٍ ، حَيَاةٍ تُودِّعُونَ فِيهَا ذَنُوبًا طَالَمَا اقتَرَفتُمُوهَا ، وَتُبَادِرُونَ فِيهَا صَالِحَاتٍ طَالَمَا هَجَرتُمُوهَا ، المَسَاجِدُ الَّتي عُمِرَت بِالصَّلاةِ مَعَ الجَمَاعَةِ ، النُّفُوسُ الَّتي خَفَّت لِرَبِّهَا بِالطَّاعَةِ ، المَصَاحِفُ الَّتي قُلِّبَت صَفَحَاتُهَا وَخُتِمَت مَرَّاتٍ وَمَرَّاتٍ , السُّنَنُ الرَّوَاتِبُ الَّتي حُوفِظَ عَلَيهَا وَأُكمِلَت , الأَيدِي الَّتي بُسِطَت بِالإِنفَاقِ وَالعَطَاءِ ، الجَوَارِحُ الَّتي حُفِظَت مِنَ اللَّغوِ وَالهُرَاءِ ، الهِمَمُ الَّتي زَادَت وَالفُرَصُ الَّتي اغتُنِمَت ، الحَسَنَاتُ الَّتي جُمِعَت وَالسَّيِّئَاتُ الَّتي مُحِيَت , إِنَّ هَذِهِ لَهِيَ الحَالُ الَّتي يَجِبُ أَن يَكُونَ عَلَيهَا المُؤمِنُ في دُنيَاهُ كُلِّهَا ، إِنَّهَا الخِطَّةُ الَّتي يَجِبُ أَن يَمضِيَ عَلَيهَا في أَيَّامِ عُمُرِهِ المُبَارَكِ ، إِنَّهَا الطَريِقَةُ الَّتي يَجِبُ أَن تَتَسَابَقَ عَلَيهَا سُوَيعَاتُ حَيَاتِهِ العَطِرَةِ ، وَكَمَا انقَضَى رَمَضَانُ سَرِيعًا ، فَمَا أَسرَعَ وَاللهِ مَا سَيَنقَضِي العُمُرُ كُلُّهُ !!
أَلا فَلا يَرْكَنَنْ قَلبٌ إِلى الرَّاحَةِ وَالدَّعَةِ ، بَعدَ أَن ذَاقَ لَذَّةَ النَّشَاطِ وَوَجَدَ فِيهَا السَّعَةَ !
أَلا لا يَهجُرَنَّ أَحَدٌ كِتَابَ رَبِّهِ أَو يَتَرَاجَعَ عَن صَفِّ مَسجِدِهِ ، بَعدَ أَنِ اقتَرَبَ مِن رَبِّهِ في سُجُودِهِ مَعَ السَّاجِدِينَ ، وَبَعدَ أَنِ استَطَعَمَ عُذُوبَةَ كَلامِ الخَالِقِ في تِلاوَتِهِ مَعَ التَّالِينَ ، مَن رَاقَبَ لِسَانَهُ وَحَفِظَ جَوَارِحَهُ , وَحَرِصَ عَلَى الحَلالِ وَاجتَنَبَ الحَرَامَ ، فَذَاقَ بِذَلِكَ حَلاوَةَ الإِيمَانِ ، وَوَجَدَ طُمَأنِينَةَ قَلبِهِ في رِضَا الرَّحمَنِ ، فَكَيفَ يَعُودُ إِلى سَبَبِ مَوتِ قَلبِهِ وَقَتلِهِ ، أَو يَنقُضُ الغَزلَ بَعدَ إِحكَامِ فَتلِهِ ؟!
عَبدَ اللهِ ، يَا مَن قَصَّرتَ فِيمَا مَضَى أَو تَكَاسَلتَ ، لا تَقُلْ فَاتَ الأَوَانُ ! نَعَم ، لا تَقُلْ فَاتَ الأَوَانُ ، فَوَاللهِ مَا فَاتَ ، وَلَقَد بَقِيَ مِن هَذَا الشَّهرِ أَيَّامٌ مُبَارَكَاتٌ ، وَلَيَالٍ فَاضِلاتٌ وَسَاعَاتٌ غَالِيَاتٌ ، بَقِيَت مِنَحٌ إِلَهِيَّةٌ وَهِبَاتٌ وَأُعطِيَاتٌ ، وَأَنتَ تَتَعَامَلُ مَعَ رَبٍّ رَحِيمٍ جَوَادٍ كَرِيمٍ ، وَلَو لم يَبقَ في هَذَا الشَّهرِ المُبَارَكِ إِلاَّ دَقِيقَةٌ وَاحِدَةٌ , فَمَا الَّذِي يَصرِفُكَ عَنِ اغتِنَامِهِا ؟
كَيفَ وَقَد بَقِيَت بَقِيَّةٌ صَالِحَةٌ مِن خَيرِ الأَيَّامِ وَأَشرَفِ اللَّيَالي ؟ وَمَا يُدرِيكَ فَلَعَلَّ لَيلَةَ القَدرِ لم تَأتِ بَعدُ ، وَقَد قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " مَن قَامَ لَيلَةَ القَدرِ إِيمَانًا وَاحتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِهِ " مُتَّفَقٌ عَلَيهِ .
أَلا فَلا تُضَيِّعِ الوَقتَ ـ رَحِمَكَ اللهُ ـ وَإِنْ كُنتَ قَد قَصَّرتَ في بِدَايَةِ الشَّهرِ وَفَرَّطتَ ، أَو أَسَأتَ في أَوَّلِهِ وَتَعَدَّيتَ ، فَأَحسِنِ العَمَلَ في آخِرِهِ وَاصدُقِ الطَّلَبَ ، وَاجعَلْ مِن هَذِهِ اللَّيَالي القَلِيلَةِ مَطِيَّتَكَ إِلى الجِنَانِ ، وَسَابِقْ إِخوَانَكَ بِهِمَّةٍ وَنَافِسْهُم بِعَزِيمَةٍ ، فَعَسَى أَن تَكُونَ مِمَّن قِيلَ فِيهِم : " وَفي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المُتَنَافِسُونَ "
تَذَكَّرْ قَولَ الحَبِيبِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " إِنَّ العَبدَ لَيَعمَلُ عَمَلَ أَهلِ النَّارِ وَإِنَّهُ مِن أَهلِ الجَنَّةِ ، وَيَعمَلُ عَمَلَ أَهلِ الجَنَّةِ وَإِنَّهُ مِن أَهلِ النَّارِ ، وَإِنَّمَا الأَعمَالُ بِالخَوَاتِيمِ " رَوَاهُ البُخَارِيُّ . فَاختِمْ شَهرَكَ بِخَيرٍ ، عَسَى اللهُ أَن يَشمَلَكَ بِالخَيرِ وَيُوَفِّقَكَ لِلخَيرِ وَيَجعَلَكَ مِن أَهلِ الخَيرِ .
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ : " شَهرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ القُرآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الهُدَى وَالفُرقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَو عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِن أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ اليُسرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ العُسرَ وَلِتُكمِلُوا العِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُم وَلَعَلَّكُم تَشكُرُونَ . وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَستَجِيبُوا لي وَليُؤمِنُوا بي لَعَلَّهُم يَرشُدُونَ "
الخطبة الثانية :
أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ وَأَطِيعُوهُ ، وَاشكُرُوهُ وَلا تَكفُرُوهُ ، اِستَدرِكُوا بَقِيَّةَ شَهرِكُم بِكَثرَةِ الطَّاعَاتِ ، وَاعمُرُوا سَاعَاتِهِ بِالذِّكرِ وَتِلاوَةِ الآيَاتِ ، وَأَخرِجُوا الزَّكَاةَ وَأَكثِرُوا الصَّدَقَاتِ ، وَتُوبُوا إِلى اللهِ مِمَّا سَلَفَ مِنَ الزَّلاتِ ؛ وَاعلَمُوا أَنَّ الحَسَنَاتِ يُذهِبنَ السَّيِّئَاتِ ، وَأَنَّ عَمَلَ المُؤمِنِ لا يَنقَضِي بِانقِضَاءِ رَمَضَانَ ، بَل هُوَ مُستَمِرٌّ في كُلِّ وَقتٍ وَأَوَانٍ ، قَالَ ـ تَعَالى ـ : " وَاعبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأتِيَكَ اليَقِينُ "
وَقَالَ عَن عِيسَى ـ عَلَيهِ السَّلامُ ـ : " وَأَوصَاني بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمتُ حَيًّا "
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِنَّ لَكُم في خِتَامِ شَهرِكُم عِبَادَاتٍ جَلِيلَةً ، تَعمَلُونَ بهَا شُكرًا لِرَبِّكُم ، فَتَزدَادُونَ مِنهُ قُربًا وَيَمنَحُكُم وُدًّا وَحُبًّا ؛ مِن ذَلِكَ التَّكبِيرُ لَيلَةَ العِيدِ إِلى صَلاةِ العِيدِ ، قَالَ ـ تَعَالى ـ : " وَلِتُكمِلُوا العِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُم وَلَعَلَّكُم تَشكُرُونَ "
وَالتَّكبِيرُ شَعِيرَةٌ عَظِيمَةٌ وَسُنَّةٌ كَرِيمَةٌ ، يَنبَغِي إِعلانُهُ إِذَا ثَبَتَ العِيدُ ، وَرَفعُهُ في المَسَاجِدِ وَالأَسوَاقِ وَالبُيُوتِ ، يَجهَرُ بِهِ الرِّجَالُ وَتُسِرُّ بِهِ النِّسَاءُ ؛ إِعلانًا لِلشَّعِيرَةِ وَشُكرًا لِلنِّعمَةِ ، وَإِغَاظَةً لِلكَفَرَةِ وَالمُنَافِقِينَ .
وَمِمَّا شُرِعَ لَكُم في خِتَامِ الشَّهرِ زَكَاةُ الفِطرِ ، وَهِيَ صَاعٌ مِن قُوتِكُم ، عَلَى الصَّغِيرِ وَالكَبِيرِ وَالذِّكرِ وَالأُنثَى وَالغَنيِّ وَالفَقِيرِ ، شَرَعَهَا اللهُ ـ تَعَالى ـ تَكمِيلاً لِلصِّيَامِ وَشُكرًا لَهُ عَلَى إِكمَالِ العِدَّةِ ، وَطُهرَةً لِلصَّائِمِ مِنَ اللَّغوِ وَالرَّفَثِ ، وَمُوَاسَاةً لِلفُقَرَاءِ وَالمَسَاكِينِ ، وَإِغنَاءً لَهُم عَن ذُلِّ الحَاجَةِ وَالسُّؤَالِ يَومَ العِيدِ ، وَوَقتُ إِخرَاجِهَا مِن ثُبُوتِ خَبَرِ العِيدِ إِلى صَلاةِ العِيدِ ، وَيَجُوزُ إِخرَاجُهَا قَبلَ العِيدِ بِيَومٍ أَو يَومَينِ ، فَأَخرِجُوهَا مِن طَيِّبِ قُوتِكُم ، وابذُلُوهَا طَيِّبَةً بها نُفُوسُكُم ، فَإِنَّكُم " لَن تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ " وَاعلَمُوا أَنَّهُ لا يُجزِئُ إِخرَاجُ القِيمَةِ بَدَلاً عَنِ الطَّعَامِ ، كَيفَ وَقَد أَخرَجَهَا النَّبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ وَأَصحَابُهُ طَعَامًا مَعَ وُجُودِ القِيمَةِ في عَهدِهِم ، وَقَد قَالَ ـ تَعَالى ـ : " لَقَد كَانَ لَكُم في رَسُولِ اللهِ أُسوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرجُو اللهَ وَاليَومَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا "
وَمِمَّا شُرِعَ لَكُم في خِتَامِ شَهرِكُم صَلاةُ العِيدِ ، أَمَرَ بها رَسُولُ اللهِ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ ، بَلْ حَتَّى العَوَاتِقُ وَذَوَاتُ الخُدُورِ وَالحُيَّضُ ، أُمِرنَ بِشُهُودِهَا لِيَشهَدْنَ الخَيرَ وَدَعوَةَ المُسلِمِينَ ، فَهَنِيئًا لِمَنِ احتَسَبَ صِيَامَهُ وَقِيَامَهُ ، وَعَمَّرَ بِالطَّاعَاتِ لَيَالِيَهُ وَأَيَّامَهُ ، وَتَابَ تَوبَةً نَصُوحًا يُكَفِّرُ اللهُ بها ذُنُوبَهُ وَآثَامَهُ ، ذَاكَ وَاللهِ هُوَ الَّذِي يَحِقُّ لَهُ الفَرَحُ بِالعِيدِ وَالسُّرُورُ بِلِبسِ الجَدِيدِ ، فَاللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِمَا وَفَّقتَ إِلَيهِ عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ ، وَاغفِرْ لَنَا وَلِوَالِدِينَا وَلِجَمِيعِ المُسلِمِينَ .
المرفقات
رمضان قد أزف الرحيل فرفقا.doc
رمضان قد أزف الرحيل فرفقا.doc
المشاهدات 6716 | التعليقات 9
في الخطبة لفتات جميلة ، ويناسب أيضا طرحها أول جمعة بعد رمضان .
جزاك الله خيرا .
ولا شك أن خطبكم لا ينقصها ما أشرتم إليه من لفتات جميلة ، وفيها بلاغة وحسن بيان .
والأمة بحاجة إلى من يسد هذا الثغر العظيم بالخطب البليغة المؤثرة ، وأنتم من خير من تتولون ذلك مع إخوانكم من فرسان هذا الملتقى وغيره من منابر الخطب .
وفقكم الله وسددكم ونفع بكم .
بارك الله فيك وزادك من واسع فضله نعم في الخطبة لفتات جميلة تهيب بالمسلم على المداومة على العمل الصالح وكما تفضل الشيخ حسام بارك الله فيه تصلح أيضا لأول جمعة في شهر شوال
أسأل الله أن يعظم أجرك ويرفع درجاتك ويكفر سيئاتك
أسأل الله أن يعظم أجرك ويرفع درجاتك ويكفر سيئاتك
حياكم الله جميعًا ـ إخوتي الكرام ـ وشكر لكم كريم مروركم وعاطر ثنائكم ، وأجاب خالص دعائكم ، وأسأله ـ تعالى ـ أن يختم لنا ولكم شهرنا الكريم بالعفو والغفران .
وطلبك ـ أخي الكريم شبيب القحطاني ـ ليس مما تضيق به الصدور قطعًا ، بل هو رأي مبارك وطلب غالٍ من أخ مبارك غالٍ .
وأما أني لا أذكر الحمد في خطبي ، فهو منهج اتخذته لئلا تطول الخطبة ، وأنا أبدأ خطبي دائمًا إذا ألقيتها بخطبة الحاجة ، وهي المقدمة النبوية المعروفة ، وأما الخطبة الثانية فقد حفظت لها عدة مقدمات وتحميدات أخذتها من أفواه الخطباء ، وأنا أُنَوِّعُ بينها مرة ومرة ، وأرى لإخواني الخطباء أن البدء بخطبة الحاجة في الخطبة الأولى أولى ، ومن لم يرد ذلك فدونه قلمه فليكتب ما يراه مناسبًا .
وفقك الله ـ أخي شبيب ـ وسددك ، ووفق الإخوة جميعًا لما يرضيه .
شبيب القحطاني
عضو نشط
جزاك الله خيرا شيخ عبدالله
على كلامك الطيب وتقبلك لطلبات إخوانك وسرعة تجاوبك معهم وهذا يدل على حسن خلقٍ ونبل صفات زادك الله من فضله
شبيب القحطاني
عضو نشط
جزاكم الله خيرا يا شيخ عبدالله
كما عودتمونا بارك الله في علمكم
لي طلب من فضيلتكم أرجو أن يتسع صدركم لي لِمَ لا تذكرون الحمد في أول الخطبة الأولى والثانية لتكمل لنا بذلك
أسأل الله أن يجعل ما قدمتم في موازين حسناتكم
شيخنا الكريم أسأل الله لنا ولوالدينا وأحبابنا غفران الزلات ، ومضاعفة الله الحسنات ، ورفعة الدرجات ، وإجابة الدعوات .إنه ربي قريب مجيب .
وبخصوص ما ذكرت أشكرك لك أولا حرصك على إثراء هذا المنتدى المبارك ، بخطبك وتعليقاتك ، وتحفيز غيرك ، وأسأل الله عز وجل أن يعينني ويسددني على نفع نفسي وإخواني ، بالمفيد والجديد .
حسام بن عبدالعزيز الجبرين
ما شاء الله .. بارك الله لك وزادك من فضله .
في الخطبة لفتات جميلة ، ويناسب أيضا طرحها أول جمعة بعد رمضان .
جزاك الله خيرا .
تعديل التعليق