خطبة د. محمود بن أحمد الدوسري (العمل والتطبيق عند أهل السنة)


العمل والتطبيق عند أهل السنة


د. محمود بن أحمد الدوسري


20/10/1438هـ


       الحمد لله ...


       إن أهل السنة والجماعة اتَّخذوا الاتباع لا الابتداع منهجاً لهم في تطبيق تعاليم الدين وشرائعه, فهم مُتَّبِعون في العمل هدي نبيهم صلى الله عليه وسلم, مُنطلقين من قوله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ) رواه البخاري ومسلم؛ لذا اتسم منهجهم في العمل والتطبيق بما يلي:


1- حرصهم على اتِّباع النبي صلى الله عليه وسلم:


       أمر الله تعالى باتِّباع نبيِّه الكريم صلى الله عليه وسلم في آيات كثيرة, منها: قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران: 31].


       فهذه الآية الكريمة حاكِمةٌ على كلِّ مَن ادَّعى محبَّة الله, وليس هو على هدي النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنه كاذب في دعواه, حتى يتَّبع النبي صلى الله عليه وسلم في جميع أقواله وأفعاله.


       وجعل الإسلامُ شروطاً لقبول العمل والعبادة؛ حيث دل الكتاب والسنة على أنَّ العبادة لا تصح إلاَّ إذا توفَّر فيها شرطان: الإخلاص والمتابعة؛ كما في قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110].


ومن أبرز نماذج الاتِّباع عند الصحابة:


       أ- عن عُمَرَ – رضي الله عنه؛ أَنَّهُ جَاءَ إلى الْحَجَرِ الأَسْوَدِ فَقَبَّلَهُ فقال: (إِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لاَ تَضُرُّ ولا تَنْفَعُ, وَلَوْلاَ أَنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ) رواه البخاري.


       ب- وعن ابنِ عُمَرَ – رضي الله عنهما - قال: (ما تَرَكْتُ اسْتِلاَمَ هَذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَ وَالْحَجَرَ مُذْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتَلِمُهُمَا فِي شِدَّةٍ وَلاَ رَخَاءٍ) رواه البخاري ومسلم.


       فنلحظ هنا حِرصَ ابن عمر – رضي الله عنهما - على اتِّباع سنَّة النبي صلى الله عليه وسلم حتى لو تعرَّض أحياناً للمزاحمة.


       ومن منهج أهل السنة في العمل والتطبيق:


2- اقتداؤهم بالسابقين الأوَّلين من الصحابة والتابعين:


       وهذا الاقتداء يرجع إلى عدة أسباب, منها:  


       أ- أن الصحابة الكرام – رضي الله عنهم - قد اقتدوا بالنبي صلى الله عليه وسلم في كلِّ شؤون حياتهم؛ حيث حفظوا عنه كلَّ صغير وكبير من أمر الدِّين, ورأوا أخلاقَه وتصرُّفاته, فليس بغريب أن يكونوا أعلمَ الناس بالله تعالى, وأعرَفَهم بسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم, ما يجعلهم أيضاً قدوةً لمَنْ بعدهم إلى يوم الدِّين.


       ب- تزكية القرآن وشهادته لهم بالعدالة وبالفضل, في عدة مواضع, ومنها قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 100].


       فمَن اتَّبع السابقين الأوَّلين – رضي الله عنهم - واقتدى بهم بإحسانٍ في الاعتقادات والأقوال والأعمال يكون داخلاً معهم في رضوانِ الله تعالى، والوعدِ بالخلود في الجنات, والفوزِ العظيم.


       إخوتي الكرام .. وقد أوصى النبيُّ صلى الله عليه وسلم الناسَ خيراً بالسَّابقين الأوَّلين من المهاجرين والأنصار, والذين اتَّبعوهم بإحسان؛ كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (اسْتَوْصُوا بِأَصْحَابِي خَيْرًا، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ) صحيح – رواه أحمد.


       ومن منهج أهل السنة في العمل والتطبيق:


3- ولاؤهم لأولياء الله وبراؤهم من أعدائه:


       فالولاء والبراء ركنٌ ركين وأصلٌ أصيل في عقيدة أهل السنة والجماعة؛ فبها يكون ولاء العبد لله سبحانه ولرسوله صلى الله عليه وسلم ولدينه وللمؤمنين, ويكون البراء من أعداء الله ورسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين, وأهل السنة والجماعة هم أكثر الخلق تطبيقاً لقضية الولاء والبراء, فهم يوالون في الله تعالى ويتبرَّؤون لله تعالى, معيارهم ومقياسهم واحد, وهو مدى التزام مَنْ يُوالونه بمنهج الله تعالى والتمسُّك بالعقيدة الصحيحة؛ مُعلين بذلك أواصر المودَّة والرحمة والمحبة في الله على كلِّ ما عداها من عصبيةٍ أو قبليةٍ أو حتى رحم.


       ومدار الولاء والبراء على المحبَّة والبغض؛ المحبَّة والوِلاية لله ورسوله ولأهل الإيمان, والكراهة والعداوة لعدوِّ الله ورسوله وللكفار.


       وهنا تنبيه مهم – إخوتي الكرام .. أنَّ أهل السنة يُفرِّقون بين أمرين: بين الولاء والبراء عقيدةً, وبين حسن التعامل وآداب التواصل مع غير المسلمين سلوكاً.


       فالولاء والبراء قضيةٌ عقدية, مُرتبطة بالنُّصرة للدِّين والمتابعة للحق, وهو أمرٌ لا تهاون فيه ولا تنازل؛ فالمسلم مُطالَب بنصرة أخيه المسلم وموالاته ضدَّ أعدائه من المحاربين سواء بالسلاح أو بالكلمة؛ من التشنيع والتشهير والتلبيس على الناس وبثِّ الشُّبه وغير ذلك من وسائل الغز الفكري والثقافي.


       فالبراء إذاً يكون من أعداء الدِّين الذين يُظهرون عداوتهم للدِّين ويحاربوه بأيِّ وسيلةٍ من الوسائل.


       وقد ندب الإسلام المسلمين إلى حسن معاملة غير المسلمين؛ بل والإحسان إليهم, إذا لم يُظهِروا عداوتهم للدِّين.


       وعلى هذا المنهج المعتدل المُتَّزن بميزان الشريعة سار أهل السنة والجماعة, وكتُبُهم خيرُ شاهدٍ على ذلك؛ لما فيها من تأصيل شرعي لفقه التعامل مع غير المسلمين, حتى شهد لهم به المُنصِفون من أصحاب الدِّيانات الأخرى.


       ومن منهج أهل السنة في العمل والتطبيق:


4- تحذيرهم من المحدثات والبدع:


سواء كانت في الاعتقاد أو العبادة أو السلوك, وذمُّهم لأهل البدع والأهواء والتحذير منهم, لا تأخذهم في الله تعالى لومة لائم.


س: ما هي البدعة؟


       (البدعة: طريقةٌ في الدِّين [ليست في الدنيا] مخترعة تُضاهي الشرعية, يُقصد بالسلوك عليها المبالغة في التَّعَبُّد لله سبحانه).


س: ما هو ضابط البدعة؟


       الأصل في ضوابط البدعة قوله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ أَحْدَثَ [أي: ابتدع] فِي أَمْرِنَا هَذَا [أي: ديننا هذا] مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ) رواه البخاري ومسلم.


       وقوله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ) رواه مسلم


       إذاً تُحصر البدعة في أمرين:


       1- الإحداث في الدِّين.


       2- ألاَّ يستند هذا الإحداث إلى أصل شرعي.


       فكلُّ مَنْ تعبَّد لله تعالى بشيءٍ لم يشرعه الله, أو بشيءٍ لم يكن عليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون فهو مُبتَدِع, سواء كان ذلك التَّعبُّد فيما يتعلَّق بأسماء الله وصفاته أو فيما يتعلَّق بأحكامه وشرعه, وأمَّا الأمور العادية التي تتَّبِع العادة والعرف فهذه لا تُسمَّى بدعةً في الدِّين, وإن كانت تُسمَّى بدعةً في اللغة.


       عباد الله .. وما سُمِّيَ أهل السنة والجماعة بهذا الاسم إلاَّ لا تِّباعهم سنة نبيِّهم وهديه صلى الله عليه وسلم ؛ لذا شَدَّدوا في التحذير من البدع والمحدثات في الدِّين وتناقلوا السُّنة خلف عن خلف, كما تناقلوا في الوقت ذاته التحذير من البدعة, وممَّا ورد في ذلك:


       1- قول ابن مسعودٍ – رضي الله عنه: (اتَّبِعُوا, ولا تَبْتَدِعُوا؛ فَقَدْ كُفِيتُمْ).


       2- قول ابن عمرَ – رضي الله عنهما: (كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ, وَإِنْ رَآهَا النَّاسُ حَسَنَةً).


       3- قول ابن عباسٍ – رضي الله عنهما: (عَلَيْكُمْ بِالاسْتِقَامَةِ وَالأَثَرِ, وَإِيَّاكُمْ وَالتَّبَدُّعَ).


 


 


الخطبة الثانية


       الحمد لله ...


       وينتقل بنا الحديث – إخوتي الكرام – إلى الآثار السيئة للبدعة:


فمن الآثار السيئة للبدعة:


       1- أن البِدعة ضلالٌ مَحْض: بمعنى: ليس فيها خير التبة, وليس فيها جانب مشرق أو جانب حسن؛ كما قال سبحانه: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ} [يونس: 32]؛ لأنَّ ما جاء به النبيُّ فهو الحقُّ الخالص, وضِدُّه الضَّلال, والله تعالى أخبر عن نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم بقوله: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 2-4].


       وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ) صحيح – رواه ابن ماجه؛ وكون كلِّ بدعة ضلالة يُبطِل كلَّ قولٍ بأنَّ هناك من البدع بدعة حسنة.


       2- البدعة خروجٌ عن اتِّباع النبي صلى الله عليه وسلم:


       البدعة تُنافي تحقيق شهادة "أنَّ محمداً رسول الله" , والعبد يدخل الإسلام بشهادة " أن لا إله إلاَّ الله, وأنَّ محمداً رسول الله" ولا يتم ذلك حقيقة إلاَّ بتحقيقها قولاً وعملاً واعتقاداً, فكيف يحقق العبد شهادة "أنَّ محمداً رسول الله" وهو لم يتَّبع هديه وسنَّته, فكيف بمَنْ يبتدع في الدِّين ثم هو يدَّعي أنه يتَّبع هدي النبي صلى الله عليه وسلم ؟ والله تعالى يقول لنبيه الكريم صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 31].


       3- البدعة تتضمَّن الطَّعن في الإسلام:


       إذ يزعم المبتدع ـ بلسان حاله: أنَّ الدِّين لم يكتمل بعد, وقد أتى هو بما يُكمِّل الدِّين, فابتدع شيئاً جديداً! والله تعالى يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3].


       ومما يتضمنه الابتداع في الدِّين: الطعن في رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ يزعم المُبتدع - بلسان حاله: أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم إمَّا أنه قد جهل هذه العبادة المُبتَدعة, أو قد علم بها, لكنه كتمها عن أُمَّته, ولازم ذلك أنْ يكون كاتماً للرسالة أو لبعضها! وحاشاه بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم.


       وكذا يزعم المبتدع ـ بلسان حاله: أنَّ الصحابة - رضي الله عنهم - كتموا شيئاً من الشريعة, أو جهلوا هذا الأمر الذي أحدثه المتأخرون! وحاشاهم - رضي الله عنهم.


       4- انتشار البدع يُفرِّق الأمة:


       في فتح باب البدع على مصراعيه تفريق لأمَّة محمدٍ صلى الله عليه وسلم, وفيه تشتيت للجهود, إذْ يُصبح كلُّ حزب بما لديهم فرحون.


       5- المُبتدِع عليه وِزْرُ مَن اتَّبَعَه:


       من شؤم الابتداع في الدِّين أنَّ المُبتدع عليه وِزْرُ وإثمُ مَن اتَّبعه إلى يوم القيامة, سواء ابتدعه هو أم كان مسبوقاً إليه؛ مِصداقاً لقوله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ سَنَّ في الإِسْلاَمِ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ كُتِبَ عَلَيْهِ مِثْلُ وِزْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا, وَلاَ يَنْقُصُ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ) رواه مسلم.


       الدعاء ...


 


المرفقات

الشيخ-د-محمود-الدوسري-العمل-والتطبيق-ع

الشيخ-د-محمود-الدوسري-العمل-والتطبيق-ع

المشاهدات 1076 | التعليقات 0