خطبة خلق الرحمة

عبدالوهاب بن محمد المعبأ
1438/02/17 - 2016/11/17 20:17PM
خطبة الجمعة
خلق الرحمة
عبدالوهاب المعبأ
الخطبة الأولى
الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أحاط بكل شيء علماً، ورحمته وسعت كل شيء، ورحمة ربك خير مما يجمعون. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وأحرص الناس على هداية أمته، وجاء في صفته: (بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ) [التوبة:128].
اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، الذين كانوا رحمة مهداة من الله لأممهم، أنقذ الله بهم من شاء من الغواية إلى الهدى، ومن دركات الجحيم إلى درجات الجنان، ومن يضلل الله فما له من هاد، وارض اللهم عن آل محمد المؤمنين وعن صحابته أجمعين و التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فاتقوا الله عبادَ الله، واستجلِبوا رحمتَه بتقواه، يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَءامِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ [الحديد: 28]. اتّقوا الله تعالى وراقِبوه، ولا تركَنوا إلى الدنيا وزينتِها، فإنّ الدنيا عرَضٌ حاضر، يأكل منها البرّ والفاجر، والآخرة أجلٌ صادق، يحكم فيها ملِك قادر، يفصل بين الحقّ والباطل عدلاً وعلمًا.
وبعد: أيّها المسلمون، في زمن الإحباط واليأس، في سنواتِ الشدّة والبأس، في عصر تقلُّبات القيَم والموازين، وفي أوقاتِ نَكس المبادئ والمفاهيم، في ساعات قعققةِ السّلاح واسترخاص المُهَج والأرواح، في زمنِ قهرِ الأقوياء للضعفاء واستطالة الأغنياء على الفقراء وتعالي الأثرياء على التُعسَاء، في موج هذه الحضارة ولُجَجِها، ما أحوجَ الأممَ إلى أن يرسوَ مركبُ حضارتِها على ضِفاف المبادئ النبيلة، ويستوي فلكُها على جوديّ القيَم السامية الجميلة، فتضمَّد على تلك الضفاف المواجعُ والجروح، وتتسامى بنبيل الصفاتِ النفس والروح. ما أحوجَ الأممَ إلى أن يستدركوا نقصَ حضارتِهم ويبحثوا عن الخللِ الذي لحِق بحياتهم. قد آن لهم أن يتساءلوا: من أين أُتوا؟ وكيف أشقَوا بهذه الحضارة وشقُواولماذا تغدو الهموم على حياتهم ولا تروح؟ أسئلةٌ شتى وما مِن جواب إلا مَن رفع بصرَه للسماء، فيجد الجواب، وفي التنزيل: وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ٱلْقِيـٰمَةِ أَعْمَىٰ قَالَ رَبّ لِمَ حَشَرْتَنِى أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً قَالَ كَذٰلِكَ أَتَتْكَ ءايَـٰتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذٰلِكَ ٱلْيَوْمَ تُنْسَىٰ [طه:124-126].
لما استُلِب من الحضارة لبُّها وفقدت روحَها وجوهرَها، لما غُيِّبت كثير من القيَم والأخلاق، حينئذ جفّت الحياة ويبس نبتها، واكتأبت النّفوس وعلا بثُّها.
دعْك من هذا وأمعِن النظر ـ يا عبد الله ـ في سيرةِ محمّد رسول الله تجدْها ملأى بكريم الصّفات وجميلِ الأخلاق والمبادئ مُثلاً وتطبيقًا، ولأجل ذلك كانت حضارةُ شريعته هي الحضارة الوحيدة التي أسعدت العالَم،
وأعظم رحمة حظيتْ بها البشريةُ من ربِّها: إرسالُ نبي الرحمة والهدى محمدٍ صلى الله عليه وسلم قال - سبحانه - مبينًا هذه النعمة، وممتنًّا على عباده بها: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ فما من مخلوقٍ على هذه الأرض إلا وقد نال حظًّا من هذه الرحمة المهداة.

نالها المؤمن بهداية الله له، وأُعطِيها الكافر بتأخير العذاب عنه في الدنيا، وحصَّلها المنافق بالأمن من القتل، وجريان أحكام الإسلام في الدنيا عليه.

فجميع الخلق قد هنئوا وسعدوا برسالته - صلى الله عليه وسلم.

وإذا كانت بعثته - صلى الله عليه وسلم - ما هي إلا رحمة، فكيف كانت رحمةُ مَن هو في أصله رحمة؟! لقد تمثَّل نبي الهدى - صلى الله عليه وسلم - الرحمةَ في أكمل صُوَرها، وأعظم معانيها، ومظاهر رحمته - صلى الله عليه وسلم - قد حفلتْ بها سِيرتُه، وامتلأت بها شريعتُه.

فرحِم الصغيرَ والكبير، والقريب والبعيد، والعدو والصديق؛ بل شملت رحمته الحيوانَ والجماد، وما من سبيلٍ يوصل إلى رحمة الله، إلا جلاَّه لأمَّته، وحضَّهم على سلوكه، وما من طريق يبعد عن رحمة الله، إلا زجرهم عنها، وحذَّرهم منها؛ كل ذلك رحمةً بهم وشفقة عليهم.

وأسعد من حظي برحمته - صلى الله عليه وسلم - هم صحابته - رضي الله عنهم - فامتلأ قلبُه - صلى الله عليه وسلم - رحمةً بهم، وعطفًا عليهم، ولطفًا بهم، حتى شهد له ربه بقوله: ﴿ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ﴾، وبقوله: ﴿ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ ﴾؛ بل إن الله - تعالى - قد علم من شفقة رسوله صلى الله عليه وسلم على صحابته ما جعله أَوْلَى بهم من أنفسهم، وحُكْمه فيهم مقدَّمًا على اختيارهم لأنفسهم؛ قال - تعالى - ﴿ النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ﴾.
هذه الرحمة العالية، قد وسعتِ الكافرَ على كفره وعناده، يُضرَب أكرمُ الخلق عند الله، ويُبصَق في وجهه، ويُرمَى سلا الجزور على ظهره وهو ساجد، ويُخنَق بثوب حتى ضاقتْ بذلك نفسه، ويُضرَب أصحابه، ويهانون أمام ناظريه، فعرض عليه ربُّه إهلاكَهم، فقال في رحمة ورأفة وشفقة: ((بل أرجو أن يُخرِج الله من بين أصلابهم مَن يعبد الله وحده لا شريك له)).

وها هو رسول الرحمة - صلى الله عليه وسلم - عامَ فتح مكة يُقابِل أعداءه الذين طردوه وحارَبوه واتهموه في عقله، يُقابِلهم بالرحمة العظيمة التي مُلِئ بها قلبه، فيقول: ((اذهبوا فأنتم الطلقاء))، وسمَّى ذلك اليوم بيوم المرحمة.

بل إن صاحب هذا القلب الرحيم، والنفس المشفقة كان يستوصي بالمشركين إذا وقعوا أُسارى بيد المسلمين، ها هو أبو عزيز بن عمير - أخو مصعب بن عمير - يحدثنا عمَّا رآه، فيقول: كنت في الأسرى يوم بدرٍ، فسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول لأصحابه: ((استوصوا بالأسارى خيرًا))، قال: وكنت في رهطٍ من الأنصار، فكانوا إذا قدموا غداءهم وعشاءهم خصُّوني بالخبز، وأكلوا التمر؛ لوصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إياهم بنا.

وحينما رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - أسرى بني قريظة موقوفين في قيظ النهار تحت الشمس، قال: ((لا تجمعوا عليهم حرَّ هذا اليوم وحرَّ السلاح، قيلوهم حتى يبردوا)).

ولمّا ضيَّق عليه أهل مكّة الخناقَ وآذوه وعذّبوا أصحابَه، ثم طاردوه وطردوه، وقاتلوه وحاولوا قتلَه، وقتلوا أصحابَه في أحُد، وأدمَوا وجهَه الشريف، فكان يمسَح الدمَ عن وجهه ويقول: ((اللهمّ اغفِر لقومي فإنّهم لا يعلمون))
أيّها المسلمون، بهذه الرحمةِ والشفقة بُعثَ نبيّنا محمّد ، وبهذا العطف والرأفة عامل الرسول الرحيمُ خصومَه وأعداءَه كما عامَل بالرحمة أصحابَه.
عباد الله الرّحمة صفةٌ من صِفات المولى جلّ وعلا، فهو الرحمن الرحيم، وهو [الرؤوف] بعباده، وهو اللطيف بخلقِه، وقد بعث بها رسولَه الكريم، وَمَا أَرْسَلْنَـٰكَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَـٰلَمِينَ [الأنبياء:107]، وجاء بشريعةِ الإسلام على هذا المقتضى، لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ[التوبة:128] . لقد كان يشقّ عليه ويعزُّ عليه ما يشقّ على أمّته، فما خُيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرَهما ما لم يكن إثمًا، وكم من موقفٍ قال فيه: لولا أن أشقَّ على أمّتي لأمرتهم بكذا أو لفعلت كذا. ولقد كان يدخُل في الصّلاة يريد إطالتَها فيسمع بكاءَ الصبيّ، فيتجوّز في صلاتِه ممّا يعلم من شدّة وجدِ أمّه من بكائه
أيّها المسلمون، الرحمةُ رقَّة وعطفٌ وشفقة ولُطف وحنان ومروءة. الرحمةُ مشاعر تقوم بالقلبِ الرحيم، وعواطفُ تجيش من الفؤاد الكريم، صفةٌ من صفاتِ الأنبياء ودليلُ كمال الإيمان وحسنِ الإسلام، مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى ٱلْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ [الفتح:29].
عن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: كنّا عند النبي فأرسلت إليه إحدى بناتِه تدعوه وتخبِره أن صبيًّا لها أو ابنًا لها في الموت، فقال للرّسول: ((ارجِع إليها فأخبِرها أنّ لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكلُّ شيء عنده بأجلٍ مسمّى، فمُرها فلتصبِر ولتحتسِب))، فعاد الرسول فقال: إنّها قد أقسمَت لتأتينَّها، قال: فقام النبي وقام معه سعد بن عبادة ومعاذ بن جبل، وانطلقتُ معهم، فرُفِع إليه الصبيّ ونفسه تقعقَع كأنّها في شنّة، ففاضت عيناه، فقال له سعد: ما هذا يا رسول الله؟ فقال: ((هذه رحمة جعلها الله في قلوبِ عباده، وإنّما يرحم الله من عباده الرُّحماء)) رواه البخاري ومسلم
الرحمةُ تثمِر الألفةَ والمحبّة بين الخلق، وهي سعادةٌ في القلب وطريق إلى الجنة، وفي الحديث: ((أهل الجنة ثلاثة: ذو سلطانٍ مقسِط متصدِّق موفَّق، ورجل رحيم رقيقُ القلب لكلّ ذي قربى ومسلم، وضعيف متعفِّف ذو عيال)) رواه مسلم
الرّحمة ترقِّق القلب، فيرحمُ مَن دونَه حتى البهائم والطيور، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كنّا مع رسول الله في سفر، فانطلق لحاجتِه، فرأينا حمَّرَةً معها فرخان، فأخذنا فرخيها، فجاءت الحمَّرة فجعلت تفرِّش، فجاء النبيّ فقال: ((من فجع هذه بولدِها؟ ردُّوا ولدَها إليها)) رواه أبو داود بإسناد صحيح
وعن عبد الله بن جعفر قال: دخل النبيّ حائطًا لرجلٍ من الأنصار، فإذا جملٌ فلمّا رأى النبيَّ حنَّ وذرفت عيناه، فأتاه النبيّ فمسح ذِفراه فسكت، فقال: ((من ربُّ هذا الجمل؟ لمن هذا الجمل؟)) فجاء فتًى من الأنصار فقال: لي يا رسول الله، فقال: ((ألا تتَّقي الله في هذه البهيمة التي ملَّكك الله إياها؟! فإنّه شكا إليّ أنّك تجيعه وتُدئبه)) رواه أبو داود بإسناد صحيح وأصله عند مسلم
هذا في البهيمةِ، فما تقول لمن يؤذِي البشرَ ويهضِم حقوقَ الضعفاء ولا يرحَم صغيرًا ولا كبيرًا؟!
وأمّا الرّحمة في الحُكم والتّشريع فبابٌ يطول، فالشّريعة كلّها رحمة، رحمةٌ في مقاصدها وتطبيقاتها ووسائلها وغاياتِها.
أيّها المسلمون، هذه هي الرّحمة التي بُعِث بها سيّد البشر ، وهذا هو ديننا، دين الرّحمة والتّراحم في السّلم وفي الحرب، مع الأعداء والأصدقاء، مع الحيوان والطير، رحمة في العبادة والتّعامل والحُكم، ورحمة في كلّ تفاصيل التشريع
تقِف العبارات حائرةً والتعابير قاصِرة عن الإحاطة بوصف رحمةِ أكرمِ الخلق على الله، فأين مِن ذلك ما تدَّعيه الحضارات الزائفة الخاوِية من الرحمة والعدل، التي إذا ظهرت لم ترقُب في مؤمن إلاًّ ولا ذمّة، وإذا تولّت سعَت في الأرض لتفسِد فيها وتهلِك الحرثَ والنسل، والله لا يحبّ الفساد.
لقد كان النبيّ يتلمَّس العذرَ لقومه وهم يريدون قتلَه، ويشفِق عليهم وهم يحاربونه، يريد هدايتَهم وإسعادَهم، بينما يدَّعي الرحمةَ فاقدوها الذين يتلمّسون الأعذارَ للبطش، ويختلقون الأكاذيبَ للحرب والقتلِ والفساد والتدمير، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِى ٱلأرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ وَلَـٰكِن لاَّ يَشْعُرُونَ[البقرة:11، 12].
ألا وإنّ من الرّحمة بالبشريّة ردعَ هؤلاء وكفّهم، وإنّ الشدةَ عليهم هي الرّحمة التي جاء الإسلام بنشرها ووقَفَ الطغاةُ في وجهها.
أيها المسلمون، ألا ما أحوج البشرية إلى هذه المعاني الإسلامية السامية، وما أشد افتقار الناس إلى التخلق بالرحمة التي تضمّد جراح المنكوبين، والتي تواسي المستضعفين المغلوبين، ولا سيما في هذا العصر، الذي غاضت فيه الرحمة من أكثر الخلق، فلا يسمع في هذا العصر لصرخات الأطفال، ولا لأنين الثكلى، ولا لحنين الشيوخ، ولا لكلمة الضعفاء، ولا لتوجع المشردين والمهجرين
لا يسمع فيه إلا للغة القوة، ومنطق القدرة، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
عباد الله إذا استحكم الظلام في النفوس، وطغى طوفان المادة الجافة آذنت الرحمة بالرحيل، وقال قائلهم: " إن لم تكن ذئبا أكلتك الذئاب “، و " إن لم تجهل يُجهل عليك “، و " إن لم تتغدَ بِزَيدٍ تعشَّى بك “.
أحبتي في الله: عليكم بالرفق واللين والرحمة بجميع فئات المجتمع، الآباء والأمهات والصبيان والأرامل والعجزة والعمال والبنات والزوجات وغير ذلك مما ذكرنا، إننا إن فعلنا ذلك ننال رحمة الله عزوجل
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ ٱلْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَٱعْفُ عَنْهُمْ وَٱسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِى ٱلأمْرِ [آل عمران:159].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية
الحمد لله ربّ العالمين، الرّحمن الرّحيم، مالكِ يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله الملِك الحقّ المبين، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله النبيّ الأمين، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: أيّها المسلمون، تخلَّقوا بأخلاق نبيّكم الزّكيّة، وتمسّكوا بمبادئ دينكم الرضيّة، لقد جمع هذا الخلُق الرفيع الخيرَ كلَّه.
أمّة الإسلام، الرحمةُ تواضعُ النّفس وكسر الكبرياء. الرحمةُ بذل المعروف والإحسان ومواساةُ المحتاج وصِلة الأرحام. الرحمةُ تعني العطفَ على الضعفاء والمرضى وذوي الإعاقات واليتامى والمحرومين بمساعدتِهم وإسعادِهم وإدخال السرور على قلوبهم. الرحمة مقتضاها نصرةُ المظلوم وردع الظالم والأخذ على أيدي السفهاء. الرحمة تعني الاهتمام بشؤون المسلمين وأن تعيشَ قضاياهم وتشاركَهم آلامهم وآمالهم وتغيثهم.
ومَع أنَّ رحمة الخلقِ جالبة لرحمة الله للعبد ففي الصحيح: ((الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمْكم من في السماء))[8] فإنّها صفة هذه الأمة ((ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادِّهم وتعاطفِهم كمثل الجسد؛ إذا اشتكى عضو تداعى سائر جسده بالسهر والحمى)) رواه البخاري ومسلم
وكذلك فإنَّ الذي لا يرحم لا يُرحم كما نطق بذلك المصطفى
معاشر الفضلاء، إنّ مما تُستمطَر به الرحمات في الدنيا والآخرة رحمة الضعفاء وذوي الحاجة، إغاثة الملهوف وكفالة اليتيم والقيام على الأرملة وسدّ حاجة المسكين والعطف على الفقراء
الرحمة يعني التراحم بين الخلق يعني نشر الرحمة بينهم، يعني التآزر والتعاطف والتعاون، يعني بذل الخير والمعروف والإحسان لمن هو في حاجة إليه.
عباد الله أين الرحمة بين العباد؟
ومن الناس من يشبع وجاره جائع، ومنهم من يلبس أفخر الثياب وجاره لا يجد ما يستر عورته، ومنهم من يسكن القصور الشاهقة، والناس ينامون على الأرصفة، فهل هذه هي الرحمة التي أتى بها النبي صلى الله عليه وسلم؟ وهل هذا هو منهج الإسلام في التعامل مع الآخرين؟.
ألا فلْنَتَّقِ اللهَ - أيُّها المُسلِمونَ - ولْنَقتَدِ بِخَيرِ الأُمّة وأعلَمِها بِاللهِ، ولْنَتَراحَمْ ولَيُحسِنْ غَنيُّنا لِفقيرِنا، ولْيَرحَمْ قَوينا ضَعيفنا، فإنَّ الإحسانَ فوزٌ ونَجاةٌ، وتَركَهُ خَسارة وهَلَكة؛ قالَ سُبحانَهُ: ﴿ وَأَنفِقُوا في سَبِيلِ اللهِ وَلاَ تُلقُوا بِأَيدِيكُم إِلى التَّهلُكَةِ وَأَحْسِنُوَا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُحسِنِينَ ﴾.
فالعطفَ العطف، والرحمةَ الرحمة، مسحًا على رأس اليتيم، وأخْذًا على يد الفقير، وقضاءً لحاجة المسكين.
وما أشدَّ افتقارَ الناسِ اليوم إلى التخلُّق بالرّحمة التي تُضمِّد جراحَ المنكوبين، وتحثّ على القيامِ بحقوقِ الوالدَين والأقربين، والتي تواسِي المستضعَفين، وتحنو على اليتامَى والعاجِزين، وتحافِظ على حقوقِ الآخرين، وتحجز صاحبَها عن دِماء المعصومين من المسلمين وغير المسلمين، وتصون أموالَهم مِن الدّمار والهلاك، وتحثّ على فِعل الخيراتِ ومجانبَة المحرّمات.



اللهمّ أسبِغ علينا رحمةً من عندك تغنينا بها عمَّن سواك.
اللهم ارحمنا فأنت بنا أرحم الراحمين، ولا تعذبنا فأنت أكرم الأكرمين، واغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا، وما أسرنا وما أعلنا ، وما أنت به أعلم منا، أنت المقدم وأنت المؤخر، وأنت على كل شيء قدير.

اللهم أقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك, ومن طاعتك ما تبلّغنا به جنتَك, ومن اليقين ما تُهون به علينا مصائبَ الدنيا, ومتعنا اللهم بأسماعِنا وأبصارِنا وقواتنا ما أبقيتنا, واجعلهُ الوارثَ منا, واجعل ثأرنا على من ظلمنا, وانصُرنا على من عادانا, ولا تجعل مصيبتَنا في ديننا, ولا تجعل الدنيا أكبرَ همِنا, ولا مبلغَ علمِنا, ولا إلى النار مصيرنا, واجعل الجنة هي دارنا, ولا تُسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك فينا ولا يرحمنا.

اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمةُ أمرِنا, وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشُنا, وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا, واجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير, واجعل الموتَ راحةً لنا من كلِ شر.

اللهم انا نسألك فعلَ الخيرات, وتركَ المنكرات, وحبَ المساكين, وأن تغفر لنا وترحمنا وتتوب علينا, وإذا أردت بقومٍ فتنةً فتوَفنا غير مفتونين, ونسألك حبَك, وحبَ مَن يُحبك, وحب عملٍ يقربنا إلى حبك, يا رب العالمين.

اللهم اغفر لجميع موتى المسلمين, الذين شهدوا لك بالوحدانية, ولنبيك بالرسالة, وماتوا على ذلك, اللهم اغفر لهُم وارحمهُم وعافهم وأعفو عنهم, وأكرم نزلَهم, ووسِع مدخلهم, واغسلهم بالماء والثلج والبرَد, ونقهم كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس, وارحمنا اللهم برحمتك اذا صرنا الى ما صاروا إليه, تحت الجنادل والتراب وحدنا.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

اللهمّ صلِّ وسلّم وزِد وبارك على عبدك ورسولك محمّد صلاةً وسلامًا دائمين إلى يوم الدّين، وارضَ اللهمّ عن خلفائه الأربعة الراشدين...
اخوكم عبدالوهاب المعبأ
773027648
المشاهدات 1427 | التعليقات 0