خطبة خلق التغافل

Abosaleh75 Abosaleh75
1446/02/04 - 2024/08/08 02:24AM

إن الحمد لله نحمده ونستعينُه ونستغفِرُه ونتوبُ إليه، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضلَّ له، ومن يُضلل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُ الله ورسولُه صلى الله عليه وعلى اله وصحبه وسلم تسليما كثيرا الى يوم الدين .
اما بعد : أوصيكم ونفسي بتقوى الله ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].
عباد الله :
إن مِن جليلِ الخُلُقِ الذي رغَّبتِ الشريعةُ في التحلِّي به، وامتطاءِ صَهْوةِ شَرَفِه في التعاملِ مع أخطاءِ البَشرِ خلق التغافلَ ذلكم الخلُقٌ الكريمٌ الجامعٌ بين أمهاتِ المحاسنِ؛ من الفطنةِ، والحِلْمِ، والرفقِ، والعفوِ، والحكمةِ؛

والتغافل يعني: "تكلف الغفلة مع العلم والإدراك لما يتغافل عنه تكرماً وترفعاً عن سفاسف الأمور"،

, ان التغافُل أدبٌ جميلٌ يحملُ صاحبَه على تعمُّد الغفلة والتغابِي، مع علمِه بما هو مُتغافلٌ عنه جلبًا لمصلحةٍ راجحةٍ، أو درءً لمفسدةٍ راجحةٍ أيضًا وحفظا لحبل المودة..

لأن اتِّساع الأذن لكل مسموع، واتِّساع العين لكل مرئيٍّ كفيلان في تكدير الصفو، وتفريق المُجتمع، ونصب خِيام سوء الظنِّ في القلب وسط عواصِف الشُّكوك والإحَن والشَّحناء والبغضاء.

عباد الله: ان التغافلُ كان سجيةَ أصفياءِ اللهِ من أنبيائه وأوليائه؛ حكاها اللهُ عن نبيِّه يوسفَ –عليه السلامُ-إثْرَ إمعانِ إخوتِه في ظلمِهم له، وتوجيه تهمةِ السرقةِ له في قولِهم: ﴿ إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أخو له من قبل... ﴾ [يوسف: 77]، فما كان من خُلُقِه الزاكي إلا أنْ جادَ بمُزنةِ التغافلِ الكريمِ، وأَمَرَّ إساءةِ ذوي القربى مرورَ الكرامِ المتغافلين حين أسرَّها في نفسِه ولم يُبْدِها لهم، وكأنها لا تعنيه.

وعلى دربِ الاقتداءِ وَرِثَ النبيُّ محمدٌ ﷺ ذلك الخُلقَ الكريمَ، فحين عاتب إحدى زوجاتِه لإفشائِها سرَّه ما استقصى في عتابِه، بل ﴿ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ ﴾ [التحريم: 3].

وعلى رسْمِ الاهتداءِ سارَ عبادُ الرحمنِ الذين وصَفَهمُ اللهُ بقولِه: ﴿ وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ﴾ [الفرقان: 63]،
وقولِه: ﴿ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا ﴾ [الفرقان: 72]،

عباد الله: والتغافلُ أمارةُ استواءِ العقْلٍ والرشد، قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ –" الْكَيِّسُ الْعَاقِلُ هُوَ الْفَطِنُ الْمُتَغَافِلُ "،

وقال ابنُ المُقَفَّعِ: " ما رأيتُ حكيمًا إلا وتغافلُه أكثرُ من فطنتِه ".

عباد الله: والتغافل كساء سابغٌ؛ يواري عيبَ صاحبِه، ويُظْهِرُ جميلَ خصالِه؛ وبه يقلُّ الخُصوم، وتسمُو النفسُ إلى معالِي الأمور، وتنأَى عن سفسافِها، وهو أقومُ سُبُلِ العافيةِ والراحةِ النفسيةِ من رَهَقِ المَنَاكِدِ والمخاصماتِ وهو سر من أسرار محبة الناس للعبد وانجذابهم اليه.

قيل للإمام أحمد - رحمه الله -: العافيةُ عشرة أجزاء تسعةٌ منها في التغافُل، فقال: "العافيةُ عشرةُ أجزاء كلُّها في التغافُل".

وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ - رَحِمَهُ اللهُ - : مَا يَزَالُ التَّغَافُلُ عَنِ الزَّلْاتِ مِنْ أَرْقَى شِيَمِ
الْكِرَامِ، فَإِنَّ النَّاسَ مَجْبُولُونَ عَلَى الزَّلْاتِ وَالْأَخْطَاءِ، فَإِنِ اهْتِمَّ الْمَرْءُ بِكُلِّ زَلَّةٍ
وَخَطِيئَةٍ تَعِبَ وَأَتْعَبَ، وَالْعَاقِلُ الذَّكِيُّ مَنْ لا يُدَقِّقُ فِي كُلِّ صَغِيرَةٍ وَكَبِيرَةٍ ، مَعَ أَهْلِهِ، وَأَحْبَابِهِ، وَأَصْحَابِهِ، وَجِيرَانِهِ، وَزُمَلائِهِ ، كَيْ تَحْلُو مُجَالَسَتُهُ، وَتَصْفُو عِشْرَتُهُ.

عباد الله :لا يُحسِن التغافُل إلا ذوو العقول النيِّرة والقلوب الكبيرة، ومن سِواهم فإن بينهم وبين خُلق التغافُل بُعد المشرقَين، فبئس القلوب قلوبُهم، وبئس العقول عقولُهم، يُحصُون الزلَّة، ويعُدُّونها عدًّا، يجعلون الحبَّةَ قُبَّة، فيزيدون الطينَ بلَّة،

فَكَمْ وَقَعَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ أَوْ بَيْنَ الْأَقَارِبِ وَالْأَصْحَابِ مِنَ مَشَاكِلَ كَانَ سَبَبُهَا تَقَصِّيَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ وَتَتَبُّعَ الْأَخْطَاءِ وَالْبَحْثَ عَنِ الْمَقَاصِدِ! وَلَوْ أَنَّهُمْ رُزِقُوا التَّغَافُلَ لَزَالَ عَنْهُمْ شَرٌّ كَثِيرٌ، قَالَ الْأَعْمَشُ -رَحِمَهُ اللهُ-: التَّغَافُلُ يُطْفِئُ شَرَّاً كَثِيرَاً.

أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتغفرُ اللهَ العَظِيمَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ فَاسْتَغْفِروهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.


الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

الحمد لله على إحسانِه، والشُّكرُ له على توفيقِه وامتِنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه الداعِي إلى رضوانه، فصلواتُ الله وسلامُه عليه وعلى آله وصحبِه وإخوانه.

عباد الله كم نَحْنُ بِحِاجَةٍ إِلَى التَّغَافُلِ في بيوتنا مع زوجاتنا و أَوْلادِنَا وَغَضِّ الطَّرْفِ عَنْ أَخْطَائِهِمْ! خُصُوصَاً مَا يَقَعُ مِنْهُمْ عَفْوِيَّا وَلَمْ يَكُنْ مُتَكَرِّرَا، وَكَمْ نَحْتَاجُ لِلتَّغَافُلِ مَعَ أَصْحَابِنَا فَلا نُحَاسِبُهُمْ عَلَى كُلِّ كَلِمَةٍ خَرَجَتْ مِنْهُمْ، وَلا نُحْصِي عَلَيْهِمْ كُلَّ فِعْلٍ صَدَرَ عَنْهُمْ؛ لِأَنَّنَا إِنْ فَعَلْنَا ذَلِكَ فَقَدْنَا مَحَبَّتَهُمْ وَزَالَتْ عَنَّا أُخُوَّتُهُمْ، وَقَدْ قِيلَ: تَنَاسَ مَسَاوِئَ الْإِخْوَانَ تَسْتَدِمْ وُدّهُم.

عباد الله: التغافل الذي نقصده أن يتغافل وألا يدقق الإنسان في الحقوق الشخصية، وليس أن نتغافل عن التقصير في حقوق الله، ونتَرْكَ النَّصِيحَةِ وَالتَّنْبِيهِ عَلَى الْمُخَالَفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ، وَإِنْكَارِهَا ! لِأَنَّ هَذَا أَمْرٌ وَاجِبٌ لِمَنْ يَسْتَطِيعُهُ ؛ فَعَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: « الدِّينُ النَّصِيحَةُ قُلْنَا لِمَنْ؟ قَالَ : « لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ » [ رَوَاهُ مُسْلِمٌ ]

هَذَا، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب : ٥٦ ].

المشاهدات 566 | التعليقات 0