خطبة خطر التعلق في الدنيا.
عادل بن عبد العزيز الجهني
أنا
خطبة خطر التعلق بالدنيا.
إنّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أمّا بعد/ فإنّ أصدق الحديث كتابُ الله، وأحسنُ الهدي هدي محمد، وشرُّ الأمور محدثاتها، وكلُّ محدثة بدعة، وكلُّ بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1]. ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70-71][1].
عباد الله/ أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فمنِ اتقى الله وقاه، ومن توكل عليه كفاه.
أيّها المؤمنون/ إنّ أعظم ما تعلّقت به القلوب هذه الأزمنة، وانشغلت به النفوس، هو الدنيا وما عليها من ملهيات ومغريات.
لقد أصبحتَ هي همّ الكثير منّا، فلا يُشغل فكرنا إلا الدنيا وما عليها، وحديثنا كله عنها، ومجالسنا عامرة بذكرها؛ فلا حديث إلا عن كيفية الكسب المادي، وتأمين مصدر الرزق، ويتبعه الحديث عن الصحة والعافية، والأخبار والأحداث، وغير ذلك من شؤونها وأحوالها. وكثيرًا ما يكون الحديث عن ملهيات لا طائل من ورائها ولا نفع فيها إلا لفئات مخصوصة.
إنّ الإسلام -أيّها المسلمون- لا ينهى عن الحديث عن الدنيا، ولا الاهتمام لشأنها، والبحث عن سبل العيش الهنيّ فيها، ففي كتاب الله: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾ فلم يأمر بترك الدنيا الترك الكلي، وإهمال شأنها الإهمال الذي يضرُّ بصاحبه، وتضييع الحقوق والواجبات فيها، ولذا وردت النقول عن ذمّ إهمال الدنيا الإهمال المنهيّ عنه، يقول أميرُ المؤمنين عليُّ ابنُ أبي طالب -رضي الله عنه- (إنّ الدنيا دارُ صدقٍ لمن صدقها، ودارُ عافية لمن فهم عنها، ودارُ غنى لمن تزوّد منها، ودارُ موعظة لمن اتّعَظ بها؛ مسجدُ أحبّاء الله، ومصلى ملائكته، ومهبطُ وحيه، ومتجرُ أولياءه، اكتسبوا فيها الرحمة وربحوا فيها الجنة) فالمذموم -يا عباد الله- هو الانغماسُ فيها، ونسيانُ الاخرة عندها، وإيثارها عليها، وجعلها هي الهمّ الأعظم، والمقصد الأوّل.
أيّها المؤمنون/
أصدق قيل هو قول الله تعالى، وأصدق حديث هو حديث المولى عز وجل، ﴿وَمَنۡ أَصۡدَقُ مِنَ ٱللَّهِ قِیلࣰا﴾ ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا﴾ ولقد بيّن اللهُ في كتابه حال الدنيا، وضرب لها الأمثال لتُدرك النفوس حقيقتها، فلا تلتفت لها الالتفات الذي لا تستحقه، قال الله تعالى: ﴿وَٱضۡرِبۡ لَهُم مَّثَلَ ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَا كَمَاۤءٍ أَنزَلۡنَـٰهُ مِنَ ٱلسَّمَاۤءِ فَٱخۡتَلَطَ بِهِۦ نَبَاتُ ٱلۡأَرۡضِ فَأَصۡبَحَ هَشِیمࣰا تَذۡرُوهُ ٱلرِّیَـٰحُۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ مُّقۡتَدِرًا ٤٥ ٱلۡمَالُ وَٱلۡبَنُونَ زِینَةُ ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَاۖ وَٱلۡبَـٰقِیَـٰتُ ٱلصَّـٰلِحَـٰتُ خَیۡرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابࣰا وَخَیۡرٌ أَمَلࣰا ٤٦﴾ فهذه هي حقيقتها التي يراها كلُّ أحد بأمّ عينيه، ولا يستطيع كائنٌ إنكارها. وقال اللهُ تعالى: ﴿ٱعۡلَمُوۤا۟ أَنَّمَا ٱلۡحَیَوٰةُ ٱلدُّنۡیَا لَعِبࣱ وَلَهۡوࣱ وَزِینَةࣱ وَتَفَاخُرُۢ بَیۡنَكُمۡ وَتَكَاثُرࣱ فِی ٱلۡأَمۡوَ ٰلِوَٱلۡأَوۡلَـٰدِۖ كَمَثَلِ غَیۡثٍ أَعۡجَبَ ٱلۡكُفَّارَنَبَاتُهُۥ ثُمَّ یَهِیجُ فَتَرَىٰهُ مُصۡفَرࣰّا ثُمَّیَكُونُ حُطَـٰمࣰاۖ وَفِی ٱلۡـَٔاخِرَةِ عَذَابࣱشَدِیدࣱ وَمَغۡفِرَةࣱ مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضۡوَ ٰنࣱۚوَمَا ٱلۡحَیَوٰةُ ٱلدُّنۡیَاۤ إِلَّا مَتَـٰعُ ٱلۡغُرُورِ﴾ يقول ابنُ كثير -رحمه الله-: (يَقُولُ تَعَالَى مُوهِنًا أَمْرَ الْحَيَاةِالدُّنْيَا وَمُحَقِّرًا لَهَا: ﴿أَنَّمَا الْحَيَاةُالدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌبَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأمْوَالِ وَالأوْلادِ﴾ أَيْ: إِنَّمَا حَاصِلُ أَمْرِهَا عِنْدَ أَهْلِهَا هَذَا) انتهى كلامه.
فهي قصيرةٌ جدًا، وقصيرٌ عمر أهلها فيها، ومع هذا القِصر، فإنّها مليئة بالغصص، مشوبة بالكدر، محاطة بالآلام.
إن أفرحت قليلًا، أحزنت كثيرًا.
وإن أسرّت يومًا، كدّرت دهرًا.
فصحيحها يمرض، وغنيه يفتقر، وحاضرها يغيب، وقويّها يضعف، وحيّها يموت.
إنّ عنايةَ العبد بشأن الدنيا عناية تصل به إلى حد الغلوّ فيها، والركون إليها، وتكون هي محل التفكير في ساعات الليل والنهار. يصحو عليها، وعليها ينام، ويُعادي ويوالي لأجلها، ويُحبُّ ويكرها بسببها، ويفعل ويترك من أجلها لهو نذير شؤم لصاحبها، وخسارة ما بعدها خسارة، فالمرءُ لم يُخلق لها، ولم يُوجدُ ليعمرها وإنّما ليعبرها، ويجعلها زاده للدار الآخرة، ومن نصيحة مؤمن آل فرعون لقومه: ﴿یَـٰقَوۡمِ إِنَّمَا هَـٰذِهِ ٱلۡحَیَوٰةُ ٱلدُّنۡیَا مَتَـٰعࣱ وَإِنَّ ٱلۡـَٔاخِرَةَ هِیَ دَارُ ٱلۡقَرَارِ ٣٩ مَنۡ عَمِلَ سَیِّئَةࣰ فَلَا یُجۡزَىٰۤ إِلَّا مِثۡلَهَاۖ وَمَنۡ عَمِلَ صَـٰلِحࣰا مِّن ذَكَرٍ أَوۡ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤۡمِنࣱ فَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ یَدۡخُلُونَ ٱلۡجَنَّةَ یُرۡزَقُونَ فِیهَا بِغَیۡرِ حِسَابࣲ﴾
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم-وهو أفقه الناس وأعلمهم- يقول بأبي هو وأمي: "مالي وللدنيا إنما مثلي ومثلُ الدُّنيا كراكبٍ استظلَّ تحت شجرةٍ ثم راحَ وتركها" رواه الترمذي.
فتخيّلوا -يا عباد الله- راحلٌ سافر من بلده قاصدًا بلدًا أخرى، وفي أثناء سفره استظلّ تحت ظل شجرة.
فهل سيركن لهذا الظل؟
وهل سيبقى تحته طويلًا؟
وهل سيعتني به عناية تامّة؟
وهل سُينزل حاجته كلها إن كان معه حوائج؟
كلا، لن يفعل شيئًا من ذلك البتة، بل سيبقى قليلًا ثمّ يواصل سيره.
وهكذا نحن في رحلتنا إلى الدار الآخرة، خلقنا اللهُ فترة قصيرة من الزمان، ستين سنة أو سبعين، -وقلّ من يصلها-، والأقلُّ من يتجاوزها ثمّ نعود إلى دارنا الحقيقة، ومآلنا الأبدي، فهل من العقل والنصح للنفس أن تكون سنوات عيشنا في الدنيا هي شغلنا الشاغل، وغايتنا التي لا غاية غيرها، أم أنّ العاقل من يجعلها زمان عمل، ووقت غنيمة للتزوّد لِما بعدها.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "واللَّهِ ما الدُّنْيا في الآخِرَةِ إلَّا مِثْلُ ما يَجْعَلُ أحَدُكُمْ إصْبَعَهُ هذِه -وأَشارَ يَحْيَى بالسَّبَّابَةِ- في اليَمِّ، فَلْيَنْظُرْ بمَ تَرْجِعُ؟" رواه مسلم.
فتأمّل كيف يُقسم نبينا -صلى الله عليه وسلم- وهو الصادق في قيله، الناصح في وعظه- أنّ الدنيا لا تساوي شيئا بجانب الآخرة، وهذا ما لا يستطيع أحد إنكاره.
فما عمر الدنيا القصير بجانب عمر الآخرة الذي لا نهاية له.
وما ملذات الدنيا المشوبة بالآلام بجوار ملذّات الآخرة التي لا أكمل منها ولا انقطاع لها.
وما منغصّات الدنيا التي لا يسلم منها شيء بجوار صفاء الآخرة وسلامتها من كلِّ مكدّر وهمّ. إنّ من يعمل مقارنة يسيرة بينهما يجد البون شاسعًا، والفارق بيّنًا. فاللهم ارزقنا فقه الأمور، ومعرفتها على حقيقتها. اللهم ارزقنا حسن الخاتمة، وتوفنا وأنت راض عنّا يا أرحم الراحمين. بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم....
الخطبة الثانية.
الحمد لله على إحسانه، والشكر على فضله وامتنانه، والصلاة والسلام على نبينا محمد الداعي إلى رضوانه،
وبعد فيا أيّها المؤمنون/ من نظر إلى فعل الدنيا بأهلها أيقن أنّه لا يأمنُ لها جانب، وأنّها متاع الغرور.
فكم من صحيحٍ أمرضته.
وكم من سليمٍ أهلكته على غِرّة.
وكم من مغرور سلبت منه أغلى ما يملك في لحظة.
ألا نرى إلى فعلها في أهلها.
شابٌ في عنفوان شبابه، وصحيحٌ في كامل صحته، الموت أبعد عنهم من كلِّ تفكير، يظنّون أنّ بينهم وبين الموت أعوامًا ومراحل، فإذا بهم في عِداد الموتى، ينقلُ الناسُ خبر موتهم، ويتفاجأ الجميعُ برحيلهم، فيُصبحون أثرًا بعد عين، وخبرًا بعد ذات.
استحضر الآن كثيرًا ممّن تعرف ممّن ماتوا وقضوا نحبهم في شبابهم، وكمال صحتهم، وتمام عافيتهم، فلم يدفع شبابُهم عنهم الموتَ، ولم تدفع عافيتهم وصحتهم عنهم الموتَ، لأنّ أمره لله وليس إليهم، والآجال بيده سبحانه، وليست في أيديهم.
وكم من متعافٍ في كمال عافيته، وصحيحٍ في أوجّ صحته، فإذا به طريح الفراش، قليل الحيلة، ضعيف الشأن. فأين تلك القوة؟ وأين ذلك العنفوان؟ وأين تلك الضحكات التي كانت تملأ الشدقين؟
عباد الله.
أدركوا أنّ تكميل الشهوات لا يكون في الدنيا، وأنّ النقص فيها حتمًا لازمًا، وطبيعة راسخة، وكلُّ ذلك -لو عقلنا- لأيقنّا أنّه من رحمة الله، فاللهُ لا يريدنا أن نركن إلى الدنيا الركون المُضرُّ بنّا، ولا أن تكون هي همّنا الأعظم، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الدنيا سِجن المؤمن، وجنة الكافرِ" رواه مسلم. فالمؤمنُ الحق هو من يمنع نفسه من الشهوات المحرّمة رغبةً في كمالها في الآخرة، ولئن كانت نفسُه تتوق للملّاذ إلا أنّه على يقينٍ أنّه إن صبر وجاهد نفسه على تركها فسينال أعظم منها في الدار الآخرة.
لقد خاف علينا الناصح الصادق نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- من انفتاح الدنيا علينا وغلبتها لنفوسنا، وتغريرها بنا بما جعل اللهُ عليها من زينة ظاهرة، ففي حديث أَبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قَالَ:جلس رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عَلَى الْمِنْبَرِ، وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ، فقال: "إنَّ ممَّا أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِي مَا يُفْتَحُ عَلَيْكُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا" متفقٌ عَلَيْهِ.
فهل حصل انفتاح للأمّة كمثل هذا الانفتاح الذي نعيشه؟
وهل حصلت زينةً للدنيا كما حصل اليوم؟
انظر إلى ملاذِّ المطاعم والمشارب والمساكن.
وانظر إلى ملاذِّ الشهوات والمغريات التي أحاطت بنا، وصار التحرّز منها يحتاج إلى صبرٍ عظيم، وجهادٍ كبير، ولذا كان لزامًا على الناصح لنفسه الحذر من هذا الانفتاح، والانسياق خلفه، فهو مهما كثر فإنّه لدنيا فانية راحلة، وأهلها عنها راحلون.
فالله الله بعدم الاغترار بها، والتأمّل في العواقب، والبصيرة في المآلات. واستعن بربك، وفوّض الأمور إليه، ولا تركن لنفسك، وكن كثير الدعاء، تنجو -بإذن الله- من الشرور كلها، ويسلم لك دينك، وتعرف حقيقة الدنيا فتزهد فيها الزهد المشروع النافع لك.
ألا وصلّوا على خير الزاهدين في الدنيا، العارفين لحقيقتها، مَنْ تعلّق قلبه بالله والدار الآخرة، فكان قدوة للعاملين، ورحمةً للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. اللهم أعزّ الإسلام، وانصر المسلمين….