خطبة ( حكم الغناء والمعازف ) معادة ومنقحة
خالد الشايع
الخطبة الأولى:
الحمد لله…
أما بعد:
أيها المؤمنون: إن المسلم في زحمة الحوادث والفتن يحتاج إلى تصفية الفؤاد وتنقية النفس مما يشوبها ؛ لتقبل على ربها وباريها وتتذوق حلاوة الإيمان والطاعة ، وتسعد بذلك للقاء الله تعالى إذا حل الأجل ، وانقضت المهلة .
وإن مما وقع فيه بعض المسلمين هداهم الله مما يشوش عليهم قلوبهم ، حتى فقد كثير منهم حلاوة الإيمان ولذة الطاعة بسبب ذلك ، وإن ذلك من مكائد الشيطان ومصائده التي كاد بها من قل نصيبه من العلم والعقل والدين ، وصاد به قلوب الجاهلين والمبطلين ، ألا وهو سماع الغناء ، مزمار الشيطان ، الذي يصد القلوب عن القرآن ويجعلها عاكفة على الفسوق والعصيان ، فهو قرآن الشيطان ، والحجاب الكثيف عن الرحمن ، وهو رقية اللواط والزنا ، وبه ينال العاشق الفاسق من معشوقه غاية المنى .
كاد به الشيطان النفوس المطبلة وحسنه لها مكرًا منه وغرورًا ، وأوحى إليها الشبه الباطلة على حسنه ، فقبلت وحيه واتخذت لأجله القرآن مهجورًا .
أيها المسلمون: إن الغناء محرم عند أهل العلم ولو كان خاليًا من آلات اللهو والملاهي ، وهو الغناء بالشعر الرقيق الذي فيه تشبيب بالنساء ونحوه ، مما توصف فيه محاسن مَنْ تَهِيج الطباع بسماع وصف محاسنه ، أما ما كان مصحوبًا بآلات اللهو فقد حكى غير واحد من أهل العلم الإجماع على تحريمه ،وتحريم الغناء هو قول الأئمة الأربعة أبو حنيفة ومالك والشافعي و أحمد قال شيخ الإسلام ابن تيمية:(فمذهب الأئمة الأربعة أن آلات اللهو كلها حرام) الفتاوى 11/576. والأدلة على تحريمه كثيرة مشهورة ، نلقي الضوء على بعض من ذلك.
قال جل وعلا ( وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ)
قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: هو الغناء وأشباهه، وبذلك فسره خلق من التابعين.
وفي قوله تعالى: (وَاسْتَفْزِزْ مَنْ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ) قال مجاهد: الغناء والمزامير، وفي قوله تعالى: (أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ) قال ابن عباس: هو الغناء بالحميرية، وفي قوله: (وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ) قال محمد بن الحنفية ومجاهد: الزور هنا هو الغناء.
وأخرج البخاري من حديث أبي مالك الأشعري قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم:"ليكونن في أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف"، فقوله: "يستحلون"، دليل على أنها محرمة.
وأخرج ابن ماجه من حديث أبي مالك الأشعري، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ليشربن أناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها، ويضرب على رؤوسهم بالمعازف والقينات، يخسف الله بهم الأرض ويجعل منهم قردة وخنازير".
وأخرج الإمام أحمد من حديث أبي أمامة قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يبيت قوم من هذه الأمة على أكل وشرب ولهو ولعب ثم يصبحون قردة وخنازير، ويبعث الله على أحياء من أحيائهم ريحًا فينسفهم كما نسف من كان قبلكم، باستحلالهم الخمر وضربهم بالدفوف، واتخاذهم القينات"، يعني المغنيات.
وقال الشعبي: "لُعن المغني والمغنى له".
وكان عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- وهو من أعلام علماء التابعين يبالغ في إنكار الغناء والملاهي ويذكر أنها بدعة في الإسلام، وجاء عنه -رضي الله عنه- أنه كتب إلى مؤدب ولده: "ليكن أول ما يعتقدون من أدبك بغض الملاهي، التي بدؤها من الشيطان، وعاقبتها سخط الرحمن -جل جلاله-، فإنه بلغني عن الثقات من حملة العلم أن حضور المعازف واستماع الأغاني واللهج بهما ينبت النفاق في القلب كما يُنبت النبتَ الماء".
وقال ابن مسعود –رضي الله عنه-: "الغناء خطبة الزنا"، وقال الفضيل بن عياض -رحمه الله-: "الغناء رقية الزنا".
أيها المؤمنون: إن هذا السماع الشيطاني المضاد للسماع الرحماني ورد له في الشرع بضعة عشر اسمًا؛ فورد بأنه اللهو، واللغو، والباطل، والزور، والمكاء، والتصدية، ورقية الزنا، وقرآن الشيطان، ومنبت النفاق في القلب، والصوت الأحمق، والصوت الفاجر، وصوت الشيطان، ومزمور الشيطان، والسمود.
كل هذه الألقاب أطلقت عليه لبيان شناعة جرمه وخطورة آثاره المنعكسة على أهله.
قال ابن القيم -رحمه الله-: إنك لا تجد أحدًا غنى بالغناء وسماع آلاته إلا وفيه ضلال عن طريق الهدى علمًا وعملاً، وفيه رغبة عن استماع القرآن إلى استماع الغناء، بحيث إذا عرض له سماع الغناء وسماع القرآن، عدل عن هذا لذاك، ويقل عليه سماع القرآن، وربما حمله الحال على أن يسكت القارئ ويستطيل قراءته، ويستزيد المغني ويستقصر نوبته، وأقل ما في هذا أن ينال نصيبًا من ذم الشرع لمن يشتري لهو الحديث، إن لم يحظ به جميعه، والكلام في هذا مع من في قلبه بعض حياة يحس بها، فأما من مات قلبه وعظمت فتنته فقد سد على نفسه طريق النصيحة: (وَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنْ اللَّهِ شَيْئاً أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ).
اللهم أيقظنا من الرقدات والغفلات، وأعذنا من المضلات، ووفقنا لهداك والعمل في رضاك.
الخطبة الثانية
عباد الله: لقد شاع مزمور الشيطان في أوساط كثير من مجتمعات المسلمين، ففتّ في إيمانهم وهم لا يشعرون، وإن الغناء لقبيح سماعه، قليله وكثيره، فيجب على كل مكلف من الجن والإنس أن يتجنبه ويجنبه أهله وأولاده.
فإن مما يدمي القلب، ما نراه في وسط شباب المسلمين على الأرصفة، فمن محتضن لآلة لهو، أو عاكف عليها، وقد آذوا بذلك السكان والمارة، أو تراهم في وسط سيارة وقد رفعوا أصوات الشيطان ، وهم يتمايلون ويرقصون أمام الناس ، بلا حياء ولا خوف من الله تعالى.
وأعجب من ذلك عشق النساء للغناء ، وفتنتهن ببعض المغنين، فتجد الشابة قد ملأت غرفتها بأشرطة الفسقة والسقطة من المغنين والمغنيات، ووليها لا حس ولا أثر.
ألم تسمعوا -عباد الله- بأن الغناء هو بريد الزنا ورقيته؟! قال يزيد بن الوليد: "أيها الناس: إياكم والغناء؛ فإنه ينقص الحياء، ويزيد في الشهوة، ويهدم المروءة، وإنه لينوب عن الخمر، ويفعل ما يفعل السكر، فإن كنتم لا بد فاعلوه فجنبوه النساء، فإن الغناء داعية الزنا".
وقال خالد بن عبد الرحمن: كنا في عسكر سليمان بن عبد الملك، فسمع غناءً من الليل، فأرسل إليهم بكرة فجيء بهم، فقال: إن الفرس ليصهل فتستودق له الرمكة، وإن الفحل ليخطر فتضبع له الناقة، وإن التيس لينب فتستحرم له العنز، وإن الرجل ليغني فتشتاق إليه المرأة. ثم أمر بخصيهم، فكلم فيهم فعفا عنهم.
أيها المؤمنون: يجب على كل غيور أن يجنب أهله سماع الغناء، كما يجنبهن أسباب الريب، فلعمر الله كم من حرة صارت بالغناء من البغايا، وكم من حرّ أصبح به عبدًا للصبيان والصبايا، وكم من غيور تبدل به اسمًا قبيحًا بين البرايا!! وكم من معافى تعرض له فأمسى وقد حلت به أنواع البلايا!! وكم أهدى للمشغوف به من أشجان وأحزان، كم جرع من غصة وأزال من نعمة، وجلب من نقمة!! وكم خبأ لأهله من آلام منتظرة وغموم متوقعة وهموم مستقبلة!!
أيها المسلمون، يا أمة محمد: لو لم يكن في الغناء إلا أنه صادّ عن القرآن وطاعة الرحمن لكفى، قال بعض العارفين: "أكثر ما يورث الغناء عشق الصور واستحسان الفواحش، وإدمانه يثقل القرآن على القلب، ويكره إلى سماعه بالخصية، وإن لم يكن هذا نفاقًا فما للنفاق من حقيقة".
قال ابن رجب -رحمه الله-: "إن سماع الملاهي يوجب النفرة عن سماع القرآن، كما أشار إليه الشافعي -رحمه الله-، وعدم حضور القلب عند سماعه، وقلة الانتفاع بسماعه، ويوجب أيضًا قلة التعظيم لحرمات الله، فلا يكاد المدمن لسماع الملاهي يشتد غضبه لمحارم الله إذا انتهكت".
أخي المسلم، يا من يرجو ثواب الله ويخشى عقابه: إياك أن تقع في الغناء وسماعه، وأن تتسبب في إسماعه للغير، كمن يضع أصوات الملاهي في أجهزة الهاتف عند الانتظار،أو في المطاعمم والمقاهي ، أو يضع ذلك في أماكن الانتظار في المستشفيات، ونحو ذلك، فإن في ذلك إثمًا على إثم، وإمامة في الضلال.
فيجب على المسلمين جميعًا من الجن والإنس التعاون على البر والتقوى، والتآمر بالمعروف والتناهي عن المنكر، وأن يحذر المسلم من أن يكون إمامًا في ضلال ومستنقعًا من الوبال.
اللهم اجعلنا هداة مهتدين، لا ضالين ولا مضلين، اللهم إنا نعوذ بك من منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء والأدواء.