خطبة : ( حققوا الإيمان وأبشروا بالخير )
عبدالله البصري
1442/01/15 - 2020/09/03 21:13PM
حققوا الإيمان وأبشروا بالخير 16/1/1442
الخطبة الأولى :
أَمَّا بَعدُ ، فَـ" يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم وَالَّذِينَ مِن قَبلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ "
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، يَا مَن رَضِيتُم بِاللهِ رَبًّا ، وَبِالإِسلامِ دِينًا ، وَبِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - نَبِيًّا رَسُولاً ، أَبشِرُوا بِالخَيرِ ، نَعَم ، أَبشِرُوا بِالخَيرِ إِن حَقَّقتُمُ الشَّرطَ ، فَإِنَّ أَمرَكُم كُلَّهُ خَيرٌ ، قَالَ نَبِيُّكُم - عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ - : " عَجَبًا لأَمرِ المُؤمِنِ ، إِنَّ أَمرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيرٌ ، وَلَيسَ ذَلِكَ لأَحَدٍ إِلاَّ لِلمُؤمِنِ ، إِن أَصَابَتهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيرًا لَهُ ، وَإِن أَصَابَتهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيرًا لَهُ " رَوَاهُ مُسلِمٌ. وَهَلِ الحَيَاةُ – أَيُّهَا المُسلِمُونَ – إِلاَّ سَرَّاءُ أَو ضَرَّاءُ ؟! هَل هِيَ إِلاَّ فَرَحٌ أَو تَرَحٌ ؟! هَل هِيَ إِلاَّ سُرُورٌ أَو حُزنٌ ؟!
وَمَا الدَّهرُ إِلاَّ فَرحَةٌ ثم تَرحَةٌ
وَمَا النَّاسُ إِلاَّ مُطلَقٌ وَأَسِيرُ
هَذِهِ هِيَ الدُّنيَا ، وَتِلكُم هِيَ حَالُ أَهلِهَا ، يَتَقَلَّبُونَ فِيهَا بَينَ مُتَغَايِرَاتٍ وَمُتَنَاقِضَاتٍ ، مِنَ مَنشَطٍ وَمَكرَهٍ ، وَرَخَاءٍ وشِدَّةٍ ، وخَيرٍ وَشَرٍّ ، فَيَومٌ لأَحَدِهِم وَيَومٌ عَلَيهِ ، وَيَومٌ يُسَاءُ وَيَومٌ يُسَرٌّ ، وَيَومٌ يُعطَى وَيَومٌ يُحرَمُ ، وَيَومٌ يُمنَحُ وَيَومٌ يُمنَعُ ، وَحِينًا يَصِحُّ وَحِينًا يَسقَمُ ، لَكِنَّ الفَرقَ بَينَ المُؤمِنِ وَغَيرِ المُؤمِنِ ، أَنَّ المُؤمِنَ يَهدِيهِ رَبُّهُ بِإِيمَانِهِ وَيَقِينِهِ إِلى فِعلِ مَا يَجِبُ عَلَيهِ في كُلِّ حَالٍ ، مِن شُكرِ اللهِ عَلَى مَا يَمنَحُهُ مِنَ الخَيرِ ، وَالصَّبرِ عَلَى مَا يُقَدِّرُهُ عَلَيهِ مِنَ الشَّرِّ ، لِعِلمِهِ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِن عِندِ اللهِ ، وَأَنَّهُ عَبدٌ يَجِبُ أَلاَّ يَخرُجَ عَمَّا يُرِيدُهُ مِنهُ مَولاهُ ، فَيَكُونَ حِينَئِذٍ عَبدًا لِنَفسِهِ مُستَرَقًّا لِهَوَاهُ . أَجَل – أَيُّهَا المُؤمِنُونَ – إِنَّنَا في دَارٍ لا تَصفُو لأَحَدٍ ، وَلا تَدُومُ عَلَى حَالٍ مِن صَفَاءٍ أَو نَكَدٍ ، بَل إِنَّ كُلَّ مَا فِيهَا ، هُوَ في الحَقِيقَةِ فِتنَةٌ وَاختِبَارٌ وَامتِحَانٌ ، حَتى مَا يَظهَرُ لِلنَّاسِ أَنَّهُ خَيرٌ وَنِعمَةٌ وغُنمٌ ، فَهُوَ فِتنَةٌ وَاختِبَارٌ وَابتِلاءٌ ، بَل إِنَّ الفِتنَةَ بِالخَيرِ وَالسَّرَّاءِ في كَثِيرٍ مِنَ الأَحوَالِ ، أَشَدُّ وَأَقسَى مِنَ الفِتنَةِ بِالشَّرِّ وَالضَّرَّاءِ وَالغُرمِ ، إِذِ القَدَرُ المُرُّ في الغَالِبِ ، تُمَحَّصُ بِهِ النُّفُوسُ ، وَتُطَهَّرُ بِهِ القُلُوبُ ، وَيَقِفُ فِيهِ الإِنسَانُ عَلَى الحَقِيقَةِ أَمَامَهُ وَاضِحَةً جَلِيَّةً ، لا غُبَارَ عَلَيهَا وَلا غَبَشَ ، بَينَمَا في الخَيرِ وَالسَّرَّاءِ وَتَوَالي النِّعَمِ ، تَزِيغُ القُلُوبُ وَتَنصَرِفُ الأَبصَارُ عَنِ الحَقَائِقِ ، وَتَشغَلُهَا لَوَامِعُ السَّرَابِ الدُّنيَوِيِّ الخَادِعِ فَتَطلُبُهُ ، وَلا تَزَالُ تَمشِي وَرَاءَهُ وَتَطرُدُهُ ، حَتى إِذَا جَاءَتهُ لم تَجِدْهُ شَيئًا ، وَفُوجِئَت بِأَنَّهَا كَانَت في خِداعٍ وَغُرُورٍ ، أَلا فَمَا أَجدَرَهُ بِالمُؤمِنِ العَاقِلِ ، أَن يَكُونَ عَلَى يَقِينٍ أَنَّهُ في اختِبَارٍ وَابتِلاءٍ ، كَمَا قَالَ رَبُّهُ وَهُوَ أَصدَقُ القَائِلِينَ : " وَنَبلُوكُم بِالشَّرِّ وَالخَيرِ فِتنَةً وَإِلَينَا تُرجَعُونَ " وَكَمَا قَالَ – سُبحَانَهُ - : " فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكرَمَنِ . وَأَمَّا إِذَا مَا ابتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيهِ رِزقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ . كَلاَّ " وَإِذَا كَانَ الأَمرُ كَذَلِكَ ، فَلا يَغتَرَّنَّ أَحَدٌ بما هُوَ فِيهِ مِن نَعِيمٍ دُنيَوِيٍّ فَيَنسَى وَيَطغَى ، وَلا يَيأَسَنَّ آخَرُ بما يَقَعُ عَلَيهِ مِن أَقدَارٍ مُؤلِمَةٍ فَيَقنَطَ وَيَستَوحِشَ ، فَإِنَّمَا هِيَ أَيَّامٌ قَلِيلَةٌ تَمضي بما فِيهَا مِن خَيرٍ وَشَرٍّ ، وَلَيَالٍ قَصِيرَةٌ تَذهَبُ بِما كَانَت عَلَيهِ مِن حُلوٍ وَمُرٍّ ، ثم يُرَدُّ الجَمِيعُ إِلى مَولاهُمُ الحَقِّ ، فَيَجِدُ كُلٌّ مِنهُم مَا تَعَامَلَ بِهِ مَعَ عَطَاءِ رَبِّهِ لَهُ ، وَيَرَى نَتِيجَةَ تَصَرُّفِهِ مَعَ مَا أَرَادَهُ لَهُ مَولاهُ وَقَضَاهُ ، فَهَنِيئًا لِمَن كَانَ عَلَى مُرَادِ رَبِّهِ ، شَاكِرًا لِلنِّعمَةِ وَالمِنَحِ ، صَابِرًا عَلَى الضَّرَّاءِ وَالمِحَنِ ، وَتَبًّا لِمَن خَطِئَ طَرِيقَ الصَّوَابِ ، فَبَطِرَ عِندَ النِّعمَةِ وَطَغَى وَلم يَحمَدْ وَلم يَشكُرْ ، وَجَزِعَ عِندَ المُصِيبَةِ وَقَنِطَ وَلم يَحتَسِبْ وَلم يَصبِرْ . أَلا فَاتَّقُوا اللهَ - رَحِمَكُمُ اللهُ - وَلا تُطغِيَنَّكُمُ الصِّحَّةُ وَالثَّرَاءُ وَالعِزُّ وَالرَّخَاءُ ، وَلا تُضعِفَنَّكُمُ الأَحدَاثُ المُؤلِمَةُ وَالشَّدَائِدُ المُفزِعَةُ ، اُشكُرُوا النِّعَمَ بِالاعتِرَافِ بِمِنَّةِ اللهِ - تَعَالى - عَلَيكُم بها وَاستِعمَالِهَا فِيمَا يُرضِيهِ ، وَاصبِرُوا عِندَ النِّقَمِ وَوَاجِهُوهَا بِالسُّكُونِ وَالطُّمَأنِينَةِ وَالرِّضَا بما يَنزِلُ بِكُم ، دُونَ جَزَعٍ وَلا تَسَخُّطٍ وَلا شَكوَى لِلخَلقِ ، وَلا يَأسٍ مِن رَوحِ اللهِ وَلا قُنُوطٍ مِن رَحمَتِهِ ، وَاكلَفُوا مِنَ العَمَلِ مَا تُطِيقُونَ وَأَحسِنُوا ، وَاثبُتُوا وَأَمِّلُوا خَيرًا ، فَفَرَجُ اللهِ آتٍ وَرَحَمتُهُ قَرِيبٌ مِنَ المُحسِنِينَ ، أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ " مَا يَفتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِن رَحمَةٍ فَلا مُمسِكَ لَهَا وَمَا يُمسِكْ فَلا مُرسِلَ لَهُ مِن بَعدِهِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ . يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذكُرُوا نِعمَةَ اللهِ عَلَيكُم هَل مِن خَالِقٍ غَيرُ اللهِ يَرزُقُكُم مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنىَّ تُؤفَكُونَ "
الخطبة الثانية :
أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ - تَعَالى - وَاشكُرُوا وَاصبِرُوا ، وَآمِنُوا بِرَبِّكُم وَارضَوا بما يُقَدِّرُهُ عَلَيكُم أَو لَكُم ، فَتِلكَ هِيَ حَالُ المُؤمِنِ بِرَبِّهِ ، الوَاثِقِ فِيمَا عِندَهُ ، وَأَمَّا مَن ضَعُفَت صِلَتُهُ بِمَولاهُ ، وَلم يَدخُلِ الإِيمَانُ قَلبَهُ ، فَإِنَّهُ يَفرَحُ إِذَا أَصَابَهُ الخَيرُ فَرَحًا يَصِلَ بِهِ إِلى البَطَرِ وَالأَشَرِ ، وَإِلى الظَّنِّ أَنَّهُ إِنَّمَا أُعطِيَ مَا أُعطِيَ بِسَبَبِ عِلمِهِ وَجُهدِهِ ، أَو أَنَّ اللهَ إِنَّمَا أَعطَاهُ لأَنَّهُ يُحِبُّهُ ، فَحَالُهُ مَعَ العَطَاءِ كَحَالِ قَارُونَ إِذْ " قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلمٍ عِندِي " أَو كَحَالِ صَاحِبِ الجَنَّةِ المَغرُورِ إِذْ قَالَ : " وَلَئِن رُدِدتُ إِلى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيرًا مِنهَا مُنقَلَبًا " وَمِثلُ هَذَا إِذَا أَصَابَهُ نَقصٌ في مَالٍ أَو بَدَنٍ ، أَوِ ابتُلِيَ بِفَقدِ حَبِيبٍ مِن وَالِدٍ أَو وَلَدٍ ، يَئِسَ وَقَنِطَ وَتَسَخَّطَ ، وَرُبَّمَا أَدَى بِهِ ذَلِكَ إِلى الكُفرِ أَوِ الانتِحَارِ ، قَالَ - تَعَالى - : " وَلَئِن أَذَقنَا الإِنسَانَ مِنَّا رَحمَةً ثُمَّ نَزَعنَاهَا مِنهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ . وَلَئِنْ أَذَقنَاهُ نَعمَاءَ بَعدَ ضَرَّاءَ مَسَّتهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ . إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُم مَغفِرَةٌ وَأَجرٌ كَبِيرٌ " وَقَالَ – تَعَالى - : " وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعبُدُ اللهَ عَلَى حَرفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيرٌ اطمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتهُ فِتنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجهِهِ خَسِرَ الدُّنيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الخُسرَانُ المُبِينُ " أَلا فَاتُّقُوا اللهَ – عِبَادَ اللهِ – فَإِنَّ المُؤمِنَ في خَيرٍ عَلَى كُلِّ حَالٍ ، إِن أَصَابَهُ خَيرٌ مِن مَالٍ أَو وَلَدٍ أَو ظَفَرٍ أَو صِحَّةٍ في جَسَدٍ ، شَكَرَ اللهَ – تَعَالى - بِقَلبِهِ وَلِسَانِهِ وَجَوَارِحِهِ ، وَإِن أَصَابَتهُ ضَرَّاءُ مِن فَقَرٍ أَو مَرَضٍ أَو نَقصٍ في أَمرٍ مِن أُمُورِ الدُّنيَا تَحَمَّلَ وَصَبَرَ ، وَلم يُذهِبْ نَفسَهُ حَسَرَاتٍ عَلَى مَا لا يَستَطِيعُ رَدَّهُ ، مَعَ السَّعيِ في إِبعَادِ مَا أَصَابَهُ وَرَفعِهِ وَدَفعِهِ أَو تَغيِيرِهِ ، دُونَ خُرُوجٍ عَمَّا يُرضِي اللهَ أَو إِتيَانٍ لِمَا يُسخِطُهُ ؛ وَمَا ذَاكَ إِلاَّ لأَنَّهُ عَلَى يَقِينٍ أَنَّ كُلَّ مَا ظَفِرَ بِهِ مِن مَأمُولٍ وَمَرغُوبٍ فِيهِ ، فَعُقبَاهُ حُزنٌ وَأَسًى ، إِمَّا بِذَهَابِ الآمِلِ عَن أَمَلِهِ ، وَإِمَّا بِذَهَابِ المَأمُولِ عَن آمِلِهِ ، إِلاَّ العَمَلَ للهِ - عَزَّ وَجَلَّ - فَعُقبَاهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ سُرُورٌ في العَاجِلِ وَالآجِلِ ، في العَاجِلِ بِذَهَابِ الهَمِّ وَزَوَالِهِ أَوِ احتِمَالِهِ ، وَفي الآجِلِ بِالفَوزِ بِجَنَّةٍ عَرضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرضُ أُعِدَّت لِلمُتَّقِينَ .
المرفقات
حققوا-الإيمان-وأبشروا-بالخير
حققوا-الإيمان-وأبشروا-بالخير
حققوا-الإيمان-وأبشروا-بالخير-2
حققوا-الإيمان-وأبشروا-بالخير-2