خطبة حب الوطن
سامي عيضه المالكي
الحَمْدُ للهِ الذِي مَنَّ عَلَينَا بِوَطَنٍ مِنْ خِيرَةِ الأَوطَانِ، وَنشَرَ عَلَينا فِيهِ مَظَلَّةَ الاستِقْرَارِ والأَمَانِ، وأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا ونَبِيَّنا مُحَمَّداً عَبْدُهُ ورَسُولُهُ، المَبْعُوثُ بِالهِدَايَةِ والإِحْسَانِ، وأَفْضَلُ دَاعٍ إِلى البِرِّ والإِيمَانِ، صلى الله عليه وَعَلَى آلهِ والأَصْحَابِ، وَعَلَى مَنْ تَبِعَهُم بِإِحْسَانٍ إِلى يَوْمِ البَعْثِ والثَّوَابِ.
أَمَّا بَعْدُ، فَيَا أَيُّهَا المُسلِمُونَ:
إِنَّ تَقْوَى اللهِ أَمْرٌ وَصَّاكُمْ بِهِ اللهُ فِي مَواضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِهِ، فَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكَم فِي كُلِّ شُؤونِكُم، ورَاقِبُوهُ فِي جَمِيعِ أُمُورِكُم، واعلَمُوا -رَحِمَكُمُ اللهُ- أَنَّ مِنْ مَجَالاَتِ التَّقْوَى ومَيَادِينِها أَدَاءَ حُقُوقِ الوَطَنِ، وخِدْمَةَ أَرْضِ النَّشْأَةِ والسَّكَنِ، فَلِلْوَطَنِ فِي الإِسْلاَمِ شَأْنٌ عَظِيمٌ، والتَّفْرِيطُ فِي حَقِّهِ خَطَرٌ جَسِيمٌ، إِذِ الإِسْلاَمُ دِينُ الفِطْرَةِ، والنَّفُوسُ فُطِرَتْ عَلَى حُبِّ مَا تَرَعْرَعَتْ فِيهِ مِنَ البِلاَدِ، وهَذَا هُوَ الوَطَنُ الخَاصُّ بِكُلِّ فَردٍ أَو جَمَاعَةٍ، تَرَاهُم يَبْذُلُونَ لِرُقِيِّهِ كُلَّ جُهْدٍ واستِطَاعَةٍ، إِلَيْهِ تَشْرَئِبُّ نُفُوسُهُم، وفِيهِ تَأْنَسُ قُلُوبُهُم، وبِهِ تَتَعَلَّقُ مَشَاعِرُهُم، وهَذَا لَيْسَ بِدْعاً فِي الدِّينِ، فَعَنْ ابنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- لِمَكَّةَ: ((مَا أَطْيَبَكِ مِنْ بَلَدٍ وأَحبَّكِ إِليَّ، وَلَولاَ أَنَّ قَومِي أَخْرَجُونِي مِنْكِ مَا خَرَجْتُ))، وَيَتَجلَّى هَذَا الحُبُّ مِنْهُ -صلى الله عليه وسلم- حِينَ جَلَسَ إِلى وَرَقةَ بنِ نَوفل - وَلَمْ يَلْتَفِت –صلى الله عليه وسلم- كَثِيراً إِلى مَا أَخْبَرَهُ بِهِ مِمَّا سَيَتَعرَّضُ لَهُ فِي دَعْوَتِهِ مِنْ مِحَنٍ وَمصَاعِبَ مِنْ قَوْمِهِ، حَتَّى قَالَ لَهُ وَرَقَةُ: ((وَلَيتَنِي أَكُونُ مَعَكَ إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ)) عِنْدَها قَالَ -صلى الله عليه وسلم- : ((أَوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ؟!))، لِمَا لِلوَطَنِ مِنْ مَكَانَةٍ فِي نَفْسِهِ، وحِينَ انْتَقَلَ -عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ- مُهَاجِراً مُضْطَرّاً إِلى المَدِينَةِ، سَأَلَ اللهَ أَنْ يُحبِّبَ إِلَيْهِ وَطَنَهُ الثَّانِي وَيُنْزِلَ عَليَهِ فِيهِ الرَّاحَةَ والسَّكِينَةَ، والأَمْنَ والطُّمَأنِينَةَ، فَعَنْ أُمِّ المُؤمِنينَ عَائشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْها- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- : ((اللهُمَّ حَبِّبْ إِلَينَا المَدِينَةَ، كَحُبِّنَا مَكَّةَ، أَو أَشَدَّ))، وبَعْدَ أَنِ استَوْطَنَتْ نَفْسُهُ الطَّاهِرَةُ -صلى الله عليه وسلم- المَدِينَةَ المُنَوَّرَةَ أَظْهَرَ لَها مِنَ الحُبِّ والوَفَاءِ وَالحَنِينِ أَفْضَلَ مَا يَكُونُ مِنْ مُوَاطِنٍ لِوَطَنِهِ.
ومِنْ خِلاَلِ نُصُوصِ القُرآنِ الكَرِيمِ، نَجِدُ أَنَّ حُبَّ الوَطَنِ غَرِيزَةٌ إِنْسَانِيَّةٌ لاَ تُعَادِلُها إِلاَّ غَرِيزَةُ حُبِّ الحَيَاةِ، وكَأَنَّ الوَطَنَ يُسَاوِي الحَيَاةَ بِالنِّسْبَةِ للإِنْسَانِ، فَقَدْ قَرَنَ الله سبحانه وتعالى النَّهْيَ عَنِ الإِخْرَاجِ مِنَ الوَطَنِ بِالنَّهْيِ عَنْ قَتْلِ النَّفْسِ حِينَ أَخَذَ العَهْدَ عَلَى بَعْضِ الأُمَمِ مِنْ قَبلِنَا، قَالَ تَعَالَى: ((وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسفِكُونَ دِمَاءكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ)) ، ، هذان أمران من الأمور الشاقة على النفس: إخراج الروح من الجسد, وإخراج الجسد من الوطن. وفي قصّة الملأ من بني إسرائيل: [وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا]، ولا يدرك مرارةَ الإخراج من الوطن الذي نشأ فيه المرء إلا من ذاق ذلك كما يعانيه أهلنا في الشام وبورما وغيرها -فرج الله عنهم-.
إِنَّ حُبَّ الوَطَنِ نِعْمَةٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى، بِهَا تَستَقِرُّ نُفُوسُ السَّاكِنِينَ، وتَطْمَئنُّ قُلُوبُ القَاطِنينَ، وتَتَحَرَّكُ لِلعِمَارَةِ هِمَّةُ المُوَاطِنينَ، فَحِينَ تَرَكَ خَلِيلُ الرَّحْمَنِ إِبْرَاهِيمُ -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- زَوْجَهُ هَاجَرَ وابنَهُ إِسْمَاعِيلَ -عَليهِ السَّلاَمُ- فِي مَكَّةَ المُكَرَّمَةَ، وهِيَ يَوْمَئِذٍ وَادٍ قَاحِلٍ غَيْرَ ذِي زَرْعٍ، دَعَا رَبَّهُ تَبَارَكَ وَتعَالَى أَنْ يُيَسِّرَ لَهُمْ أَسْبَابَ الاستِقْرارِ، ووَسَائِلَ عِمَارَةِ الدِّيَارِ، قَالَ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلاَمِ-: ((رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ))(2).
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: إِنَّ بُنَاةَ الوَطَنِ، العَامِلينَ لأَجْلِهِ، المُخْلِصِينَ المُوَفِّينَ لِحَقِّهِ، يَخلُدُ فِي النَّاسِ ذِكْرُهُم، ويَبقَى إِلى يَوْمِ القِيَامَةِ أَجْرُهُمْ، فَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- : ((سَبْعٌ يَجْرِي لِلعَبْدِ أَجْرُهُنَّ وهُوَ فِي قَبْرِهِ بَعْدَ مَوتِهِ: مَنْ عَلَّمَ عِلْماً، أَوْ أَجْرَى نَهَراً، أَو حَفَرَ بِئْراً، أَوْ غَرَسَ نَخْلاً، أَوْ بَنَى مَسْجِداً، أَوْ وَرَّثَ مُصْحَفاً، أَوْ تَرَكَ وَلَداً يَستَغْفِرُ لَهُ بَعْدَ مَوتِهِ))، إِنَّ المُتَأمِّلَ فِي هَذَا الحَدِيثِ يَجِدُ شَأْناً عَظِيماً، ومَنْزِلاً عَالِياً كَرِيماً، لِمَنْ يُسَاهِمُ فِي بِنَاءِ وَطَنِهِ، سَواءً كَانَ إِسْهَامُهُ فِي البِنَاءِ الحِسِّيِّ بِإنْشَاءِ المَرَافِقِ والخدمات، والأَوقَافِ النَّفْعِيَّةِ، وغَيْرِها مِنَ الصَّدَقَاتِ الجَارِيَةِ، أَو كَانَ البِنَاءُ مَعنَويّاً بِتَنْشِئَةِ الأَجْيَالِ الصَّالِحَةِ، وتَرْبِيَتِها عَلَى الأَخْلاَقِ الفَاضِلَةِ، لأَنَّ الوَلَدَ الصَّالِحَ ذِكْرٌ حَسَنٌ لأَبِيهِ، ومَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يُضَاعِفِ اللهُ ثَوَابَهُ وَأَجْرَهُ، ويَبقَى بَيْنَ النَّاسِ نَفْعَهُ وَأَثَرَهُ، إِنَّ المُسَاهَمَةَ فِي مَشَارِيعِ البِنَاءِ، والإِعَانَةِ عَلَى تَوفِيرِ العَيشِ الطَّيِّبِ والرَّخَاءِ، لاَ يَقَعُ عَلَى عَاتِقِ الحُكُومَاتِ وَحْدها، بَلْ لِكَافَّةِ شَرَائِحِ المُوَاطِنينَ إِسْهَامَاتُها فِي ذَلِكَ ودَوْرُها، لاَ سِيَّما أَصْحَابَ رَؤوسِ الأَمْوالِ وَالشَّرِكَاتِ، وَأَرْبَابَ التِّجَارَةِ والمُؤسَّسَاتِ، ولاَ يَقْتَصِرُ دَوْرُهم فِي ذَلِكَ عَلَى أَدَاءِ الزَّكَاةِ الوَاجِبَةِ، بَلْ فِيهِ حَقٌّ عَلَى أَهْلِ الخَيْرِ والوَفَاءِ، والمُتَّصِفينَ بِالإِحْسَانِ والعَطَاءِ.
عِبَادَ اللهِ : قال أهل الأدَب: "إذا أردتَ أن تعرفَ الرجلَ فانظُر كيف تَحنُّنه إلى أوطانه، وتَشَوُّقُه إلى إخوانه، وبكاؤه على ما مضى من زمانه".
إِنَّ لِحُبِّ الوَطَنِ والوَفَاءِ له صُوَرَاً مُتَعَدِّدةً، وأَشْكَالاً مُتَنَوِّعَةً، وأَشْرَقُ هَذِهِ الصُّورِ وأَجْلاَها، وَأَهَمُّ تِلْكَ المَجَالاتِ وأَعْلاَها، المُسَاهَمَةُ فِي النُّهُوضِ بِالمُؤَسَّسَاتِ العِلْمِيَّةِ ومَرَافِقِها، وَلَئِنْ كَانَ لأَصْحَابِ الأَمْوَالِ بَاعٌ
فِي إِنْشَاءِ بُنْيَتِها التَّحتِيَّةِ، فَإِنَّ لِذَوِي العِلْمِ والكَفَاءَاتِ، وأَصْحَابِ المَعَارِفِ والدِّرَاسَاتِ، وحُذَّاقِ المِهَنِ والخبْرَاتِ، مُهِمَّةَ بَذْلِ العِلْمِ والإِرشَادِ، والإِيضَاحِ والتَّبْيينِ لِمَا فِيهِ مَصلَحَةُ العِبَادِ، فَإِنَّ وَفْرَةَ المَالِ يَجِبُ أَنْ تُصَاحِبَها نَهْضَةٌ عِلْمِيَّةٌ تُنِيرُ طَرِيقَ الوَطَنِ وتُشْرِقُ بِها رُبُوعُهُ، ويَعْرِفُ الحقَّ بِها أَفْرَادُهُ وجُمُوعُهُ، إِنَّ عَلَى أَهلِ العِلْمِ مَسْؤولِيَّةً عَظِيمَةً فِي بِنَاءِ الأَوْطَانِ، وتَوفِيرِ النُّصْحِ والرَّخَاءِ لِبَنِي الإِنْسَانِ، وهَذِهِ مُهِمَّةُ الأَنْبِياءِ، ورِسَالَةُ الأَصفِياءِ -عَلَيْهِمُ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ-، وهِيَ اليَوْمُ مُهِمَّةُ العُظَمَاءِ الذِينَ استَحَقُّوا التَّقْدِيرَ والاحتِرَامَ.
أَيُّهَا المُؤمِنُونَ : وَمِنْ صُوَرِ الإِخْلاَصِ لِلوَطَنِ، تَنْمِيَةُ مَجَالاَتِ التَّكَافُلِ الاجتِمَاعِيِّ، وتَسْهِيلُ سُبُلِ العَمَلِ الإِنْسَانِيِّ، والتَّقْصِيرُ فِي ذَلِكَ دَلِيلُ الأَنَانِيَّةِ، وَعَدَمِ الشُّعُورِ بِالوَحْدَةِ الوَطَنِيَّةِ والقُرْبَى الإِنْسَانِيَّةِ، وَلَقَدْ حَذَّرَنَا اللهُ مِنْ ذَلِكَ بِأَنْوَاعِ النَّذِيرِ، وَنَبَّهَنا إِلَى مَا يَجَرُّهُ مِنَ البَلاءِ الخَطِيرِ، ومِنْ ذَلِكَ مَا وَرَدَ فِي الكِتَابِ العَزِيزِ عَنْ جَنَّةٍ كَانَ يَملِكُها رَجُلٌ صَالِحٌ يُحِبُّ وَطَنَهُ ومُوَاطِنِيهِ، ويُعْطِي مِنْ خَيْرِهَا أَقَارِبَهُ وَسَائِلِيهِ، ويُظْهِرُ التَّكَافُلَ الاجتِمَاعِيَّ فِي أَصْدَقِ مَعَانِيهِ، ويُؤسِّسُ بِإِخْلاَصٍ دَعَائِمَهُ ومَبَانِيه، وَلَمَّا مَاتَ تَمَرَّدَ وَرَثَتُهُ عَلَى مَبَادِئِهِ، وتَنَكَّروُا لِقِيَمِهِ، فَعَزَمُوا عَلَى تَغْييرِ نَهْجِهِ فِي مُسَاعَدَةِ الفُقَرَاءِ، وعَادَتِهِ فِي إِعَانَةِ الضُّعَفَاءِ، فَكَانَ عَاقِبَتُهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ((إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَونَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ، وَلا يَسْتَثْنُونَ، فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ،
فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ، فَتَنَادَوا مُصْبِحِينَ، أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ، فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ، أَن لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ، وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ، فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ، بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُون)).
أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ: إِنَّ مِنْ أَهَمِّ المُنْجَزَاتِ، وأَعْظَمِ المُكْتَسَباتِ، الأَمْنَ وَالسَّلاَمَ، وَالوحْدَةَ والوِئَامَ، فَوَحْدَةُ الصَّفِّ غَايَةٌ مُقَدَّسَةٌ فِي الإِسْلاَمِ، ولأَجْلِهَا فُرِضَتِ الفَرَائِضُ وشُرِعَتِ الأَحكَامُ، وَإِنَّ مِنَ الوَفَاءِ لِلوَطَنِ الوقُوفَ بِحَزْمٍ وَصَرَامَةٍ فِي وَجْهِ الأَفْكَارِ الدَّخِيلَةِ ومُرَوِّجِيها، والتَّصَدِّي لِلثَّقَافَةِ السَّقِيمَةِ ونَاشِرِيها، تِلْكَ الأَفْكَارُ التِي تُؤَسَّسُ عَلَى مَبْدأِ الإِقْصَاءِ لِلآخَرِ، واعتِبَارِ أَنَّ مَنْ لَمْ يَنْهَجْ مَنْهَجِي فَهُوَ مُفَارَقٌ.
إِنَّ العَبَثَ بِالمُنْجَزَاتِ، وتَعْطِيلَ المَرَافِقِ وَالخَدَمَاتِ، وَزَعْزَعَةَ وحْدَةِ المُجتَمَعات، كُلُّهَا مِنْ خِيَانَةِ الأَمَانَةِ وَالإِفْسَادِ فِي الأَرْضِ، تَوَعَّدَ اللهُ عَلَيْها أَلِيمَ العَذَابِ، وَأَعَدَّ لِمُرتَكِبِيها شَدِيدَ العِقَابِ
فَاتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ-، وَأَحْيُوا جَمِيلَ مَفَاخِرِ وَطَنِكُمْ وَأمْجَادِهِ، واحْرِصُوا عَلَى الوَفَاءِ لَهُ وإِسْعَادِهِ، فَإِنَّكُم عَلَيْهِ أُمَناءَ، فَكُونُوا لَهُ نِعْمَ الأَبنَاءِ، بِالحِرْصِ عَلَى تَحَمُّلِ المَسْؤولِيَّةِ فِي مَسِيرَةِ البِنَاءِ، والإِخْلاَصِ لَهُ وَحُسْنِ العَطَاءِ..... أقُولُ قَوْلي هَذَا...
الْحَمْدُ للهِ وكفى، وَنَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَهُ وَلِيُّ الصَّالِحِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا وسَيِّدَنَا مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ صَلَاة ربي وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِيْنَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ.أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ :
بلادٌ ألفناها على كلِ حالةٍ *** وقد يُؤْلَفُ الشيءُ الذي ليسَ بالحَسنْ
وتُسْتعذبُ الأرضُ التي لا هواءَ بها *** ولا ماؤها عذبٌ ولكنها وَطَنْ
أيها المسلمون، إنَّ الحب الحقيقي للوطن يتجلى في أمور منها:
أولاً: تذكر النعم وحفظها بالشكر: إن هذه المناسبة فرصةٌ للتذكر والتذكير بنعم عظيمة أنعم الله بها علينا في بلدنا هذا، وحقه علينا أن نجتهد في شكره، لتحفظ النعم وتزداد: [لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ]. فمن أعظم ذلك: نعمة التوحيد والسنة، حيث توحدت البلاد على كلمة التوحيد، وطمست مظاهر الشرك والبدع. ونعمةُ اجتماع الكلمة، فبعد أن كانت الجزيرة قبائلَ متناحرةً، أصبحت واحةَ محبةٍ وسلام، يجتمع أهلها على الأخوة الدينية، وتلاشت مظاهر العصبية والثاراتُ القبلية. ونعمة الأمن؛ فبعد أن كان الناس في خوف، وتغلق أبواب البلد مع غروب الشمس، ولم يكد يسلم أحد من اللصوص وقطاعِ الطرق حتى حجاج بيت الله الحرام؛ أصبحت هذه الجزيرة آمنةً مطمئنة، يسافر المرء بسيارته من شرقها إلى غربها، ومن شمالها إلى جنوبها، في الليل والنهار، ومعه ماله وأهله، وهو آمنٌ لا يخاف إلا الله. ونعمة الرغد في العيش، بما حباها الله من خيرات وكنوز في باطن الأرض. نشرب نصف قارورة الماء والباقي سيذهب إلى القمامة أكرمكم الله. فمن كان يعلم ما كانت عليه هذه البلاد، وما آلت إليه؛ علم عظيمَ النعمةِ الدينية والدنيوية عليها. يمكن أنا وكثير من الشباب لم يدرك هذه الأيام، ولكن اجلس مع والدك ووالدتك.. واسألهم عن حياتهم سابقاً..ستسمع ما يشيب له الرأس.
إن هذه النعم ابتلاءٌ من الله لنا لينظرَ أنشكرُ أم نكفر، فالحذر أن نكون كما ضرب الله في كتابه، فقال: [وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ].
ثانياً: حقيقة الوطنية والمواطنة: النصيحةُ لهذا الوطن بما يكون فيه خيره وخيرُ من يعيش فيه، وأن يقوم كل فردٍ بواجبه بإخلاص وأمانة وصدق، ومن المواطنة: احترامَ أنظمة الوطن، والمحافظةَ على أمنه ومرافِقه ومواردِه، والحِرصَ على مكتسباته وعوامِلِ بنائه، والحذرَ من كلّ ما يؤدي إلى نقصه.
لا يصح أن ينتسب إلى هذا الوطن من يسعى في الإفساد والتخريب، والتدمير والتفجير والجرائم على اختلاف أنواعها، أو من يسعى في فساد عقائد أهل الوطن وأخلاقهم.
ثالثاً: تتجلى المواطنة في أداء الحقوق، بدءاً من حق الوالدين والأرحام، ومروراً بحقوق ولاة الأمر والعلماء وانتهاء بحقوق الجيران والأصحاب والمارة.
رابعاً: تعليم أبنائنا الصغار وهم صغار أن هذا الوطن وطنٌ مسلم وأن المجتمع مجتمع مسلم، وأن ولاة الأمر مسلمين، وغرس هذا المفهوم في نفوسهم منذ الصغر حتى ينشئوا محبين لوطنهم ولمجتمعهم وولاة أمرهم.
خامساً وأخيراً: همسة في أذن الشباب: ندعوهم أن يتخلقوا بأخلاق الإسلام في هذه المناسبة (اليوم الوطني) وفي غيرها، وما حصل من بعض الشباب في الأعوام السابقة أمر دخيل ومؤسف، لا يكون حب الوطن بالفوضى والتفحيط والتهور، أو الإخلال بالأمن بالاعتداء على الآمنين أو التعدي على الممتلكات، أذكركم بقوله تعالى: [ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا ]. ويقول صلى الله عليه وسلم: [من آذى المسلمين في طرقهم وجبت عليه لعنَتُهُم] حسنه الألباني. كما أنبه على مظهر مؤسف يقع في هذه المناسبة من بعض الشباب والأطفال وربما الكبار، ألا وهو امتهان العلم وما فيه من كلمة التوحيد، فالبعض يلفه على وسطه ويرقص على صخب الغناء، والبعض يجلس عليه، والبعض يرميه في الشوارع والميادين.
إنّ الحبّ الحقيقي للوطن لا يمتّ إلى هذه المظاهر بصِلة، بل يتبرّأ منها أشدّ البراء؛ إذ إننا لا نفهم الوطنية الحقّة إلا عقيدة راسخة، ومجتمعاً موحّداً، وشعباً عفيفاً، ولا نفهم الأمن إلا أمن التوحِيد والإيمان، وأمن الأخلاق والشرف، وأمن المال والعرض والدم.
فَاتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ-، وَصُونُوا مُنْجَزَاتِكُم، وحَافِظُوا عَلَى لُحْمَةِ بِنَائِكُمْ وَوَحْدَةِ صَفِّكُم، وشَمِّرُوا سَوَاعِدَكُم فِي الرُّقِيِّ بِوَطَنِكُم، وابْذُلُوا لَهُ طَاقَاتِكُمْ، يُبَارِكِ اللهُ في سَعْيِكُمْ وأَعْمَارِكُم.
هَذَا وَصَلُّوْا وَسَلِّمُوْا عَلَى إِمَامِ الْمُرْسَلِيْنَ، وَقَائِدِ الْغُرِّ الْمُحَجَّلِيْنَ، فَقَدْ أَمَرَكُمُ اللهُ تَعَالَى بِالصَّلاَةِ وَالسَّلاَمِ عَلَيْهِ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ حَيْثُ قَالَ سبحانه: (( إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّوْنَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا صَلُّوْا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوْا تَسْلِيْمًا )).
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ.. اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلاَمَ وَالْمُسْلِمِيْنَ، وَوَحِّدِ اللَّهُمَّ صُفُوْفَهُمْ، وَأَجمع كلمتهم عَلَى الحق، وَاكْسِرْ شَوْكَةَ الظالمين، وَاكْتُبِ السَّلاَمَ وَالأَمْنَ لِعَبادك أجمعين.
اللَّهُمَّ رَبَّنَا احْفَظْ أَوْطَانَنَا وَأَعِزَّ سُلْطَانَنَا وَأَيِّدْهُ بِالْحَقِّ وَأَيِّدْ بِهِ الْحَقَّ يَا رَبَّ العَالَمِيْنَ وارزقه البطانة الصالحة التي تعينه على الخير وتدله عليه.
اللَّهُمَّ اجْعَلْ جَمْعَنَا هَذَا جَمْعاً مَرْحُوْماً، وَاجْعَلْ تَفَرُّقَنَا مِنْ بَعْدِهِ تَفَرُّقاً مَعْصُوْماً، وَلا تَدَعْ فِيْنَا وَلا مَعَنَا شَقِيًّا وَلا مَحْرُوْماً.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالعَفَافَ وَالغِنَى.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ أَنْ تَرْزُقَ كُلاًّ مِنَّا لِسَاناً صَادِقاً ذَاكِراً، وَقَلْباً خَاشِعاً مُنِيْباً، وَعَمَلاً صَالِحاً زَاكِياً، وَعِلْماً نَافِعاً رَافِعاً، وَإِيْمَاناً رَاسِخاً ثَابِتاً، وَيَقِيْناً صَادِقاً خَالِصاً، وَرِزْقاً حَلاَلاً طَيِّباً وَاسِعاً، يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.
رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ. رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوْبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا، وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً، إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُوْنَنَّ مِنَ الخَاسِرِيْنَ.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَالْمُسْلِمِيْنَ وَالْمُسْلِمَاتِ، الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ، إِنَّكَ سَمِيْعٌ قَرِيْبٌ مُجِيْبُ الدُّعَاءِ.
سبحان ربك رب العزة..