خطبة توقير الكبير.

عادل بن عبد العزيز الجهني
1446/04/07 - 2024/10/10 06:49AM

الحمدُ للهِ جعل توقيرَ الكبيرَ من شعائر الدِّين، واحترام ذي المنزلة من الآداب والهدي القويم.

أحمدُه -سبحانه- أرشد لإعطاء أهلَ الحقِ حقهم، وإنزال أهل الفضل والمكانة منزلتهم.

وأصلي وأُسلم على أكرم النّاس خُلُقًا، وأرفعهم مكانةً وفضلًا، مَنْ أنزل النّاس منازلهم، وعرف لأهل الفضل فضلهم، فكانت تقديرُه للصغير والكبير ظاهرًا، وتبجيله لكبار السنِّ بارزًا.

صلى اللهُ عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، الذين كانوا على السبيل الأقوم سائرين، وللآثار متّبِعين وبعدُ

فأوصيكم ونفسي أيّها النّاس بتقوى الله، فتقوى الله هي خير زاد للعبد الصادق، وخير لباس للمؤمن الناسك.

 


عباد الله

لقد خلق اللهُ الإنسانَ قوةً بين ضعفين كما قال -سبحانه-: ﴿ٱللَّهُ ٱلَّذِی خَلَقَكُم مِّن ضَعۡفࣲ ثُمَّ جَعَلَ مِنۢ بَعۡدِ ضَعۡفࣲ قُوَّةࣰ ثُمَّ جَعَلَ مِنۢ بَعۡدِ قُوَّةࣲ ضَعۡفࣰا وَشَیۡبَةࣰۚ یَخۡلُقُ مَا یَشَاۤءُۚ وَهُوَ ٱلۡعَلِیمُ ٱلۡقَدِیرُ﴾. وراعت شريعةُ الإسلام لكلِّ مرحلة حاجتها، وأوصت بآدابٍ لم يأتَ بها دينٌ من الأديان، أو شريعة من الشرائع، فكان مَنْ أخذ بها، أكرمهم أدبًا، وأحسَنَ النّاسُ عيْشًا، وأطيبهم حياةً.

ولعلنا أن نتناول اليوم ما ينبغي تجاه مَنْ يبلغ مرحلة الضعف الثاني، وهي الشيخوخة والكِبر، وهي مرحلة يحتاج معها إلى التوقير والإجلال.

إنّ تقديرَ كِبارَ السِنِّ مظهرٌ من مظاهر حُسنِ الخلق، فهؤلاء الكِبار قد شابوا في الإسلام، وكانوا الأقدم في عبادة الرحمن، فلهم علينا حقوقٌ كثيرة، وتزيدُ هذه الحقوق عندما يكون أحدُ هؤلاءِ من الآباءِ أو الإخوةِ أو الأعمامِ والأخوالِ، فتقديرهم من أولى الأوليات.

ومِنْ هؤلاء الكِبار مَنْ هو مِنْ أهل الفضل، فمنهم المعلمُ والمربي الذي ربّى وعلّم الأجيال جيلًا بعد جيل، ومنهم الطبيبُ الذي كان يُطبّب النّاس في كلِّ حين، ومنهم العسكري الذي كان يحفظ الأمن، ومنهم الفرد الصالح الذي كان يخدم النّاسَ والمجتمع.

والإحسانُ إلى الكِبار برهانٌ واضح للمبادئ الذي عليها نشأ المرء وبها يعيش، وترجمةٌ صادقةٌ لِما يتحلّى به مِنْ أخلاقٍ فاضلة، وقيّمٍ ثابتة.

وتوقيرُ هؤلاء هو هديُ الأنبياء الكرام -عليهم الصلاة والسلام- ومَنْ سار على نهجهم، واقتفى أثرهم، فهذا موسى -عليه السلام- يُحسن إلى صاحب مدين، ويسقي لابنتيه دون مقابل حين عَلِم بشيبته وكِبرِ سِنه، ويُوفّي له في رعي الغنم عشر سنوات كاملة لحاجته لذلك.

أمّا هَدْيُ نبينا -عليه الصلاة والسلام- في هذا الشأن فهو معلومٌ لمن قرأ في سيرته، فقد كان التقدير منه ظاهرًا في حياته كلِها لكِبار السنِّ، -حالًا ومقالًا-، فكم في سُنّته من آثار مروية تبيّن حاله معهم، فقد جاء في صحيح البخاري أنّ أبا بكر -رضي الله عنه- جاء بوالده أبي قُحافةَ إلى رسولِ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- يومَ فتحِ مكَّةَ، فلمّا رآه رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال لأبي بكرٍ: (لو أقرَرْتَ الشَّيخَ في بيتِه لَأتَيْناه) تقديرًا لسِنّه وشيبته.

وكان صلى الله عليه وسلم يُحسن استقبالهم؛ فقد أتته عَجُوزٌ كانت صَدِيقَةً لِخَدِيجَةَ رضي اللهُ عنها، فلمّا دخلتَ عليه قال لها: "كَيْفَ أَنْتُمْ؟ كَيْفَ حَالُكُمْ؟ كَيْفَ كُنْتُمْ بَعْدَنَا؟" قَالَتْ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ‌تُقْبِلُ ‌عَلَى ‌هَذِهِ ‌الْعَجُوزِ هَذَا الْإِقْبَالَ! فَقَالَ: "إِنَّهَا كَانَتْ تَأْتِينَا زَمَنَ خَدِيجَةَ، وَإِنَّ حُسْنَ الْعَهْدِ مِنَ الْإِيمَانِ" رَوَاهُ الْحَاكِمُ، وهو حديث صَحِيحٌ.

فانظر لهذه الحفاوة والاستقبال منه لهذه الفئة لترى ما كان عليه من خُلُقٍ كريم.

أمّا توجيهاته في سُنّته القولية في توقير هؤلاء الكبار فكثيرة، منها ما جاء في حديث أَبي موسى -رضي الله عنه- قال: قال صلى الله عليه وسلم: "إنَّ مِنْ إجْلالِ اللهِ تَعَالَى: إكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ المُسْلِمِ، وَحَامِلِ القُرآنِ غَيْرِ الغَالِي فِيهِ، وَالجَافِي عَنْهُ، وَإكْرَامَ ذِي السُّلْطَانِ المُقْسِط" رواه أَبُو داود.

فرغّب -صلى الله عليه وسلم- في توقير الكبير وإجلاله، بل جعل إجلاله من إجلال الله، قال أهلُ العلم ومعنى قوله: (مِنْ إجْلالِ اللهِ تَعَالَى) أي أنّ مَنْ فعل ذلك فقد أجلّ اللهَ الذي أمر بهذا، أو أجلّه اللهُ ورفع قدره جزاء صنيعه، وهذا مُشاهد في الدنيا، فإنّ من يُقدّر هؤلاء يناله من الإجلال والرفعة والذكر الحسن ما هو معلوم، مع ما ينتظره -بإذن الله- من الثواب في الآخرة.

وربَطَ النبيُ ﷺ بين توقير الخالق وتوقير هؤلاء بقوله: (إنَّ مِنْ إجْلالِ اللهِ تَعَالَى) ليعتني المسلمُ بهم، ولا يستهين بشأنهم، فهو من واجبات الإخوة، ودلائل الاتِّباع الحق لأحكام الشريعة، قال طاووس: (مِن السُنّة أن يُوقَرّ أربعةٌ: العالِمُ، وذو الشيبة، والسلطانُ، والوالدُ)

وتقدير هؤلاء -احتسابًا- واستجابةً لأمر الله وأمر رسوله ﷺ ممّا يُسهّله، ويعظم معه الأجر والثواب.

أيّها المؤمنون/

إنّ رعايةَ الكبير من شيم الكرام، ومن الآداب الرفيعة، فعن ابن عمر رضي الله عنهما: أنّ النَّبيّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "أرَانِي فِي المَنَامِ أتَسَوَّكُ بِسِوَاكٍ، فَجَاءنِي رَجُلانِ، أحَدُهُما أكبرُ مِنَ الآخرِ، فَنَاوَلْتُ السِّوَاكَ الأصْغَرَ، فَقِيلَ لِي: كَبِّرْ، فَدَفَعْتهُ إِلَى الأكْبَرِ مِنْهُمَا" رواه مسلم مسندًا والبخاري تعليقًا.

ورؤيا الأنبياء -عليهم السلام- حقٌ، وتشريعٌ للأمّة، قال المناوي -رحمه الله- عند هذا الحديث: (فيه أنّ السْنَّ من الأوصاف التي يُقدّمُ بها) وسُئل الشيخُ ابنُ باز -رحمه الله- يقف بعضُ الناس عند الدخول، فيقول لصاحبه اليمين، ويقول الآخر: لا، بل الكبير: فقال الشيخ: (الكبير هو الذي يدخل أولًا، استدلالًا بأحاديث تقديم الكبير)

وقال عليه الصلاة والسلام: "البَرَكةُ مع أكابِرِكم" أخرجه ابنُ حبان، وهو في صحيح الجامع.

فمن طلب البركة، وهو زيادة الخير وكثرته، فإنّه مع الأكابر ممّن تَقَدّم سِنهُم، فهم قد سكن شرُّهم، ولزموا الوقار، وانتفعوا بتجاربهم من الحياة، ولذا جاء التوجيه للزومهم والاستفادة منهم.

إنّ هذه التوجيهات منه -عليه الصلاة والسلام- حريٌ بالمؤمنين اتِّباعها وتطبيقها فهي توجيهات نبوية تأخذ بيد العبد لكلِّ خير.

عباد الله/

إنّ عدم الاكتراث بهذه الفئة، أو جعْل تقديرهم وإجلالهم هو آخر الاهتمام ليس هدي المسلم الحق.

أبعد أن كَبُر سِنّهُم، وضعفت قوتُهم، وظهرت شَيْبتهُم، يُنكر معروفَهَم، ويُنسى فضلُهم، ولا يُأبه بهم، وكأنّهم ما أحسنوا للنّاس يومًا من الأيّام، فهذا من الكفرانُ المبين، ولذا جاء التحذير من هذا المسلك، يقول عليه الصلاة والسلام: "لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرنَا، وَيَعْرِفْ شَرَفَ كَبيرِنَا" رواه أَبُو داود والترمذي، وفي رواية أبي داود: "وَيَعْرِفْ حَقَّ كَبيرِنَا" وأصلُّ هذا الحديث كما في رواية أنس -رضي الله عنه- عند أبي داود قال: (جَاءَ شَيْخٌ يُرِيدُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَبْطَأَ الْقَوْمُ عَنْهُ أَنْ يُوَسِّعُوا لَهُ) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرنَا، وَيَعْرِفْ شَرَفَ كَبيرِنَا) فتأمّل كيف جعل عدم التوقير للكِبار مخالفًا لهديه وسُنّته وطريقته، فإنّ معنى قوله: (لَيْسَ مِنَّا) أي: ليس على طريقتنا وهدينا وشرعنا؛ وفي هذا وعيدٌ لمن خالف هذا التوجيه، فاحترام الكبير وتقديره ليس هو من نافلة الأعمال، أو من الأعمال الاختيارية التي إن شاء المرءُ فعلها أو تَرَكها، بل هي من الآداب العظيمة الراسخة التي ينبغي العناية بها.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين، فطوبى للمستغفرين.

 

 


الخطبة الثانية.

الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على أشرف المرسلين وبعد.

أيّها المؤمنون/

إنّ تقدير هؤلاء الكبار له صورٌ متعددة، فمنِ صور تقديرهم، فسح الطريق لهم، وتصديرهم في المجالس، وإظهار الاحتفاء بهم عند اللقاء والجلوس معهم، وتقديمهم في الكلام، وإظهار الاحترام لهم، ومناداتهم بألطف الأسماء وأحبّها إليهم، والإنصات إليهم عند حديثهم، واستشارتهم وإظهار الاعتزاز برأيهم، وتطييب خواطرهم عند كلِّ موقف يحتاج إلى تطيب الخواطر، والبعد عن التقليل من شأنهم، والابتعاد عن نقدهم على الملأ كما يفعله مَنْ لم يراعِ مكانتهم وسِنّهم، وأشدُّ من ذلك من يستهزئُ بهم، أو يحطُّ مِنْ قدرهم، فالله الله برعاية هذه الفئة، والقيام بحقوقها، فإنّ هذا هو المنهج الذي أمرت به الشريعة، وارتضاه اللهُ لأتباعها.

إنّ إظهار التقدير لكبير السِنّ له أثره الكبير عليه، لأنّه سيشعر بمكانته في المجتمع، ويكون هذا التقدير من أسبابِ توطيد العلاقة بين الكِبار والصغار، وسببًا في رفع الدعوات مِنْ الكبِار لمن قدّرهم، ومِنْ منافع تقدير الكبير ما يرى أنّه أثرٌ من آثار إحسانه السابق على من أحسن إليهم إن كان أبًا أو صاحب فضل، فمنافع التقدير لا حصر لها.

ومَنْ رأى حال المجتمعات غير المسلمة، وكيف تُهمل هذه الفئات أيقن بكمال هذا الدين العظيم، وحَمِد الله أنّه من هذه الأمّة التي أكرمها الله بهذه التعاليم.

فانظر  لحال أولئك وكيف أنّهم لا يكْترثون بكبار السنّ، بل إنّهم لا يعرفون فضلهم، ولا يحفظون لهم سابقتهم، فصاروا إلى ما ترون من الإهمال، ونُكرانِ الجميل، فالحمد لله على نعمة هذا الدين القويم.

عباد الله/

إنّ مِنْ الجفاء الظاهر، والتقصير الواضح ما يحصل من البعض من عدم العناية بكِبار السنّ، سواءً لقيهم في مكان عام أو في مناسبة عامّة، فيُهمل تقديرهم أو الحديث إليهم، وينصرف عنهم ولا يأبه بهم ونحو ذلك من مظاهر الإهمال.

وهذا أمرٌ يحتاج إلى مراجعة وتصحيح، فينبغي على الآباء والمربين والموجّهين في المجتمع تذكير أبنائهم ومن تحت أيديهم بهذا الخلق الرفيع.

وممّا يُغفل عنه أو قُلْ يتجاهله البعضُ أنّ كبير السنّ -خصوصًا من الآباء- يحتاج إلى مَنْ يُجالسه ويُؤانسه، وقد ذهب عنه الأبناء والبنات، واستقلّ كلُّ واحد منهم ببيته، فيُصبح الأبُّ في وحشةٍ في بيته، ووحشة من نفسه، فيأتي –هنا- الاحتساب من الأبناء في كثرة الجلوس مع آبائهم وأمّهاتهم، ويُفرّغون لهم قدْر ما يستطيعون من أوقاتهم.

واعلموا -رحمني اللهُ وإيّاكم- أنّ الجزاء عند الله من جنس العمل، فمن أكرم مَنْ أمرَ اللهُ بإكرامه قيّض اللهُ من يُكرمه، فقد رُوي أنّه "مَا أَكْرَمَ شَابٌّ شَيْخًا لِسِنِّهِ إلَاّ قَيَّضَ اللهُ لَهُ مَنْ يُكْرِمُهُ عِنْدَ سِنِّه" حتى قال بعضُ أهل العلم عند هذا الأثر: فيه الإيماء بإطالة (عُمُرِ) مَنْ يُكرم غيره، فهو قد قدّر الكبير، فيُطيل اللهُ في عمره ليُسخّر له من يُكرمه ويُحسن إليه.

ألا وصلّوا على خير مَنْ تأدّب بهذه الآداب، ووفّى لمن استحقّ الوفاء، وقدّر من يستحق التقدير بأبي هو وأمّي عليه الصلاة والسلام، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَـٰۤىِٕكَتَهُۥ یُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِیِّۚ یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ صَلُّوا۟ عَلَیۡهِ وَسَلِّمُوا۟ تَسۡلِیمًا﴾ [الأحزاب ٥٦]

أللهم أعزّ الإسلام والمسلمين، اللهم اجعل هذا البلد آمنًا وسائر بلاد المسلمين، اللهم احفظ ولي أمرنا الملك سلمان بن عبدالعزيز وألبسه لباس الصحة والعافية، اللهم وفق ولي عهده الأميرَ محمد بنَ سلمان وأعنه وسدّده، واجعله ذخرًا للإسلام والمسلمين….

المرفقات

1728537366_خطبة توقير الكبير..pdf

المشاهدات 1247 | التعليقات 0