خطبة: تزكيةُ النّفسِ بالتّفكّرِ في عظمةِ الشّمس.
وليد بن محمد العباد
بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيم
خطبة: تزكيةُ النّفسِ بالتّفكّرِ في عظمةِ الشّمس.
الخطبة الأولى
الحمدُ للهِ الذي أَعطى كلَّ شيءٍ خلقَه ثمّ هَدى، وأُصلّي وأُسلّمُ على نبيِّه المصطفى، وعلى آلِه وصحبِه ومن اقتفى، أمّا بعدُ عبادَ الله
إنّ الشّمسَ آيةٌ من آياتِ اللهِ الكونيّةِ العظيمة، التي دعانا اللهُ في كتابِه للتّفكّرِ بها. قالَ تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) ولعظمتِها وجليلِ منافعِها أقسمَ اللهُ بها، قالَ تعالى (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا) فالشّمسُ آيةٌ عظيمةٌ نراها بأعينِنا نهارًا في السّماء، كنجمٍ ضخمٍ كبيرٍ ملتهبٍ وهّاج، تَسبحُ في الفضاءِ مع سائرِ الكواكبِ والنّجومِ بلا مَيْلٍ ولا اعوجاج (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَار وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) إنّها إحدى نجومِ مَجَرّتِنا التي تَحوي ما يُقاربُ ثلاثَمائةِ مليارِ نجمٍ سيّار، وهي أكبرُ بكثيرٍ وأبعدُ ممّا تراه الأبصار، فهي تَبعدُ عن الأرضِ نحوَ مئةِ مليونِ مِيل، فتَمنحُها الضّياءَ والدّفْءَ والطّاقةَ والصّباحَ الجميل، ولو ابتعدتْ عن الأرضِ قليلًا لتجمّدتْ، ولو اقتربتْ منها قليلًا لاحترقت، ذلك تقديرُ العزيزِ العليم، ويعتقدُ العلماءُ أنّ درجةَ حرارةِ سطحِها سِتّةُ آلافِ درجةٍ مِئويّة، وأمّا درجةُ حرارةِ نواتِها فتَصلُ إلى عشرينَ مليونَ درجةٍ مِئويّة. وأمّا كتلتُها فإنّها تَزيدُ على كتلةِ الأرضِ بثُلُثِ مليونِ ضِعْف، وأمّا حجمُها فإنّه يتجاوزُ حجمَ الأرضِ بأكثرَ من مليونِ مَرّة، وهي بذلك تَستطيعُ أنْ تلتهمَ بداخلِها أكثرَ من مليونِ كُرَةٍ أرضيّة. ومع هذه العَظَمةِ فهي مخلوقةٌ من صُنْعِ الله، خاضعةٌ لأمرِ الله، جاريةٌ في ملكوتِ الله، فاللهُ هو الذي يُسيِّرُها وهي تُسبِّحُ له سبحانَه: (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ) والشّمسُ تَسجدُ لربِّها وخالقِها جلَّ جلالُه وتَقدّسَتْ أسماؤُه (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) قالَ عليه الصّلاةُ والسّلامُ لأبي ذرٍّ رضيَ اللهُ عنه: أتَدرِي أين تَغرُبُ الشّمسُ؟ قالَ: اللهُ ورسولُه أعلم، قالَ: فإنّها تَذهبُ حتى تَسجُدَ تحتَ العَرشِ، فذلك قولُه تعالى: (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) وإذا أرادَ اللهُ سبحانَه أنْ تَنْكسفَ الشّمسُ ذهبَ بضوئِها بقدرتِه وحكمتِه، تخويفًا للعباد، وتذكيرًا لهم بعظمتِه وربوبيّتِه، كي يحاسبوا أنفسَهم ويتوبوا من ذنوبِهم ويعودوا إلى دينِهم، وتنبيهًا لهم على ضعفِهم وحاجتِهم لربِّهم، فإنّهم يَرَوْنَ هذه الآيةَ العظيمةَ وما حصلَ بها من الكسوف، وهو اختلالٌ كونيٌّ رهيب، يَحدثُ بأمرِ اللهِ وحدَه، وقد مكّنَهم اللهُ من حسابِه ومعرفةِ وقتِ حدوثِه، فهم يعلمونَه ولكنْ لا يُحدثونَه ولا يَمنعونَه (وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) فهم لا يعلمونَ إلا ما علّمَهم الله (وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ) وهذا العلمُ وتلك الآياتُ حُجّةٌ على الخلقِ كي يَتَوصّلوا بها لعبادتِه وحدَه لا شريكَ له، فَوَا عجبًا كيف يُعصى الإلهُ * أمْ كيف يَجحدُه جاحدُ، وللهِ في كلِّ تحريكةٍ * وتسكينةٍ أبدًا شاهدُ، وفي كلِّ شيءٍ له آيةٌ * تَدُلُّ على أنّه واحدُ. قالَ تعالى (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) تلكم هي الشّمس، إحدى آياتِ اللهِ الباهرة، ونعمِه الظّاهرة، وآلائِه المتكاثرة، فسبحانَ من خلقَها وأبدعَها ودبّرَها، فإنّ فيها من الحِكَمِ والمصالِحِ والمنافع، ما يَعجَزُ الخلقُ عن الإحاطَةِ به، وقد سخَّرَها اللهُ لعبادِه، فبِقُرْبِها وبُعدِها وميلانِ محورِ الأرضِ عنها يتغيّرُ ويتأثّرُ الصّيفُ والشّتاء، وبِطُلُوعِها وغرُوبِها يَحصُلُ الليلُ والنّهار (فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ، وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ) وقد جعلَها اللهُ من أكبرِ الأدلةِ الظّاهرةِ على وحدانيَّتِه وربوبيّتِه، فقالَ سبحانَه: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) وبها يَحسِبُ الخلقُ أوقاتَهم ويَعرِفون جهاتِهم، قالَ سبحانَه: (وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا) وقد علَّقَ اللهُ على مسيرِها كثيرًا من العباداتِ والأحكام؛ قالَ تعالى: (أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ) وقالَ عن أفضلِ أوقاتِ الذِّكْرِ: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ) فاتّقوا اللهَ رحمَكم اللهُ وتفكّروا في تلك الآيةِ العظيمة، فما أعظمَها من آية (هَذَا خَلْقُ اللَّهِ، فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ، بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)
باركَ اللهُ لي ولكم بالقرآنِ العظيم، وبهديِ سيّدِ المرسلين، أقولُ قولي هذا، وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم ولسائرِ المسلمينَ مِن كلِّ ذنبٍ فاستغفروه، إنّه هو الغفورُ الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ وحدَه، والصّلاةُ والسّلامُ على من لا نبيَّ بعدَه، وعلى آلِه وصحبِه، أمّا بعدُ عبادَ الله
وإذا أرادَ اللهُ نهايةَ هذا العالَمِ أمرَ الشّمسَ أنْ تُشرقَ من حيثُ غربَتْ، يقولُ عليه الصّلاةُ والسّلام: لا تقومُ السّاعةُ حتى تَطلُعَ الشّمسُ من مغربِها، فإذا طلَعَتْ ورآها النّاسُ آمَنُوا جميعًا، وذلك حينَ لا يَنفعُ نفسًا إيمانُها. وفي المَحشَرِ يَجمعُ اللهُ الأوّلينَ والآخِرينَ في صَعيدٍ واحدٍ، وتَدنُو الشّمسُ من رؤوسِ العباد، فيسيلُ منهم العَرَقُ بقدرِ أعمالِهم، فمنهم من يكونُ إلى كعبَيْه، ومنهم إلى رُكبتَيْه، ومنهم إلى حِقْوَيْه، ومنهم من يُلجِمُه العَرَقُ إلجَامًا، وسبعةٌ يُظِلُّهم اللهُ في ظِلِّه يومَ لا ظِلَّ إلا ظِلُّه، جَمَعَهم محبَّةُ اللهِ والخوفُ منه وتعظيمُه، ثمّ يُنادِي الرّبُّ تباركَ وتعالى فيقولُ: مَن كانَ يَعبُدُ شيئًا فليتَّبِعْه، فيَتْبَعُ من كانَ يَعبُدُ الشّمسَ الشّمس، فيُطرَحُ بهم في نارِ جهنَّم، وهذا أوانُ زوالِ تلك الآيةِ العظيمة، حينَ تُكوَّرُ الشّمسُ وتُلَفُّ فيَذهَبُ نورُها، ويُرمَى بها في الجحيم. والجنّةُ مُنوَّرةٌ على أهلِها بنورِ اللهِ عزّ وجلّ (لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا) وأعظمُ نعيمِ أهلِ الجنّةِ رُؤيةُ اللهِ تعالى، قالَ الصّحابةُ رضيَ اللهُ عنهم: يا رسولَ الله! هل نرَى ربَّنا يومَ القيامة؟ قالَ: هل تُضارُّونَ في الشّمسِ ليس دونَها سحاب؟ قالوا: لا يا رسولَ الله، قالَ: فإنّكم تَرَونَه كذلك. فاتّقوا للهَ رحمَكم اللهُ وتفكّروا في مخلوقاتِه، فجميعُ المخلُوقاتِ من الذرَّةِ إلى العرشِ دالَّةٌ على الله، والنّظرُ النّافعُ ما كانَ بالبصائِرِ لا بالأبصار، والمُسلمُ يُعمِلُ عقلَه وفِكرَه لتقويةِ إيمانِه ومُحاسَبَةِ نفسِه وإصلاحِ قلبِه. اللهمّ اهْدِ قلوبَنا، وأصلحْ أعمالَنا، واجعلْنا من المتفكّرينَ في مخلوقاتِك، والمعتبرينَ بآياتِك، والمنتفعينَ بعظاتِك، والمستدلّينَ بها عليك، والمهتدينَ بها إليك، واغفرْ لنا وارحمْنا وعافِنا واعفُ عنّا، ووالدِينا وأهلِينا والمسلمين، برحمتِك يا أرحمَ الرّاحمين، سبحانَ ربِّك ربِّ العزّةِ عمّا يَصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمدُ للهِ ربِّ العالمين.
إعداد/ وليد بن محمد العباد غفر الله له ولوالديه وأهله وذريته والمسلمين
جامع السعيد بحي المصيف شمال الرياض 3/ 4/ 1444هـ