خطبة: تَجَاوَزُوا الْحَدَّ فَانْهَارَ السَّدُّ.

وليد بن محمد العباد
1445/03/19 - 2023/10/04 17:25PM

بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيمِ

خطبة: تَجَاوَزُوا الْحَدَّ فَانْهَارَ السَّدُّ.

الخطبة الأولى

إنّ الحمدَ للهِ نحمدُه ونستعينُه ونستهديه، ونعوذُ بالله من شرورِ أنفسِنا وسيئاتِ أعمالِنا من يهده اللهُ فلا مضلَّ له ومن يضللْ فلا هاديَ له وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له وأشهدُ أنّ محمدًا عبدُه ورسولُه صلّى اللهُ عليه وعلى آلِه وصحبِه وسلّمَ تسليمًا كثيرًا أمّا بعدُ عبادَ الله

قَصَّ اللهُ علينا في كتابِه العزيزِ قِصّةَ سبأ، لِنَعتبرَ بحالِهم وسوءِ مآلِهم (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ) لقد كانوا في نِعمةٍ ومَنَعَةٍ وغِبْطَة، حتّى بلغَ مِن رَغَدِ عيشِهم ما قاله قتادةُ رحمَه الله: إنَّ المرأةَ كانتْ تَمشي تحتَ الأشجار، وعلى رأسِها مِكْتَلٌ أو زِنْبِيلٌ، فيَتساقطُ فيه مِن الثّمارِ ما يَمْلؤُه مِن غيرِ كُلْفَةٍ ولا قِطَاف، لكثرتِه ونُضْجِه واسْتوائِه. وقد كانَ لهم وادٍ يَجري به الماءُ بينَ جبلين، فبَنَوْا له سَدًّا عظيمًا يُقالُ له سَدُّ مَأْرِب، فكانت الجِنَانُ والبساتينُ عن يمينِه وشمالِه مَدَّ البَصَر، فبَعَثَ اللهُ إليهم الرّسلَ تَأمرُهم أنْ يَعبدوه وحدَه لا شريكَ له، وأنْ يَشكروه على نِعَمِه عليهم (بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ) بَلْدَةٌ كريمةُ التّربة، حَسَنةُ الهواء، سليمةٌ مِن الهَوَام، أهلُها في أطيبِ عيشٍ وأرغدِه، قد تَكَرَّمَ اللهُ عليهم بفضلِه ومغفرتِه، لكنّهم قابلوا تلك النّعمَ بالجُحودِ والطُّغيان (فَأَعْرَضُوا) أَعْرَضُوا عن توحيدِ اللهِ وعبادتِه وطاعتِه وشُكرِه، ووَقعوا في الشّركِ والمعاصي وطاعةِ الشّيطانِ والهوى، فماذا كانَ جزاؤُهم؟ قالَ جلَّ جلالُه: (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ) أَرسلَ اللهُ عليهم مَطرًا شَديدًا، وسَيْلًا جارفًا لا يُطاقُ دَفعُه، ولا يُستطاعُ مَنعُه، فكانَ سَدُّهم الذي بَنَوْه وافتخروا فيه سَببًا في هلاكِهم ودمارِهم. قالَ ابنُ عبّاسٍ رضيَ اللهُ عنهما: لمّا أرادَ اللهُ عزَّ وجلَّ عقوبتَهم بإرسالِ العَرِمِ عليهم، بَعَثَ على السّدِّ دابّةً مِن الأرضِ، يُقالُ لها: الجُرَذُ فَنَقَبَتْه فتَهَدَّمَتْ بنيانُه، وطغى عليهم طوفانُه (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) فاجتاحَ الماءُ أراضيَهم وأَغرقَ بلادَهم، وأَتْلَفَ جِنانَهم وبساتينَهم، وأَهْلَكَ أشجارَهم وزروعَهم، ودَمَّرَ بيوتَهم ويَتّمَ أطفالَهم ورَمّلَ نساءَهم، فبَدَّلَ اللهُ غناهم فقرًا، وقوّتَهم ضعفًا، وأَمْنَهم خوفًا، واجتماعَهم فُرْقَة، قالَ تعالى: (وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ) لم يَبْقَ لهم إلا ثَمَرٌ مُرٌّ لا يُؤْكلُ ولا يُستساغ (ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ) تلك عُقوبتُنا الشّديدةُ لمَنْ تَمادى في العصيان، وأساءَ ونَكَصَ بعدَ الإحسان، وقابلَ النّعمةَ بالكُفرانِ (وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) وما أَشبهَ الليلةَ بالبارحة، زلازلُ وأعاصير، وفيضاناتٌ وبراكين، تَقَعُ هنا وهناك، وكلُّها بتدبيرِ ربِّ الأربابِ ومُسَبِّبِ الأسباب (بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاس،ِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) فاتّقوا اللهَ رحمَكم الله، واعتبروا بحالِ مَن بَدّلوا نِعْمَةَ اللهِ كُفْرًا، فكانَ عاقبةُ أَمْرِهم خُسْرًا، فإنّ السّعيدَ مَن اتّعظ بغيرِه، والشّقيَّ مَن اغْتَرَّ بِنِعَمِ اللهِ عليه، وسُنَنُ اللهِ لا تُحابي أحدًا، قالَ عليه الصّلاةُ والسّلام: إنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ يُمْلِي لِلظّالِمِ، فإذا أخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ ثُمَّ قَرَأَ (وكَذلكَ أخْذُ رَبِّكَ إذا أخَذَ القُرَى وهي ظالِمَةٌ، إنَّ أخْذَهُ ألِيمٌ شَدِيدٌ).

باركَ اللهُ لي ولكم بالقرآنِ العظيم، وبهديِ سيّدِ المرسلين، أقولُ قولي هذا، وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم ولسائرِ المسلمينَ مِن كلِّ ذنبٍ فاستغفروه، إنّه هو الغفورُ الرحيم.

 

الخطبة الثانية

الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وأصلي وأسلمُ على خاتمِ النبيّين، نبيِّنا محمّدٍ وعلى آلِه وصحبِه أجمعين، أمّا بعدُ عبادَ الله

إنّ الحياةَ الطّيّبةَ الكريمةَ الآمنةَ مَطْلَبٌ للأممِ والأفراد، وهي إنّما تَتحقّقُ بالإيمانِ والتّقوى (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) وبغيرِ الإيمانِ والتّقوى تُنزعُ البركاتُ وتَحِلُّ العقوبات (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) فاتّقوا اللهَ رحمَكم الله، وقَيِّدوا النِّعَمَ بشكرِ اللهِ عليها، واحذروا كُفرانَ النِّعَم، فإنّ النّعَمَ إذا شُكِرَتْ قَرَّتْ ودَرَّتْ، وإذا كُفِرَتْ وَلَّتْ وفَرَّتْ (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) اللهمّ اجعلْنا مِن المعتبرينَ الشّاكرينَ الذّاكرين، وأَصلحْ أحوالَنا وأحوالَ المسلمين، واحفظْنا بحفظِك وأنت خيرُ الحافظين، اللهمّ إنّا نسألُك الأمنَ والإيمان، ونُعوذُ بك مِن الفتنِ والكُفْرِ والطّغيان، اللهمّ إنّا نَعوذُ بك مِن زوالِ نعمتِك وتَحوّلِ عافيتِك وفُجاءةِ نقمتِك وجميعِ سخطِك، اللهمّ إنّا نسألُك عَمَلًا رشيدًا، وعيشًا سعيدًا، ورزقًا رغيدًا، وعُمُرًا مديدًا، وصحّةً وعافيةً ومغفرةً وخيرًا مَزيدًا، برحمتِك يا أرحمَ الرّاحمين.

عبادَ الله، إنّ اللهَ وملائكتَه يصلّونَ على النبيّ، يا أيّها الذينَ آمنوا صلّوا عليه وسلّموا تسليمًا، ويقولُ عليه الصلاةُ والسلام: من صلّى عليّ صلاةً صلى اللهُ عليه بها عشْرًا. اللهمّ صلِّ وسلمْ وباركْ على عبدِك ورسولِك نبيِّنا محمدٍ وعلى آلِه وأصحابِه وأتباعِه أبدًا إلى يومِ الدّين. فاذكروا اللهَ العظيمَ يَذكرْكم، واشكروه على آلائِه ونعمِه يَزدْكم، ولذكرُ اللهِ أكبرُ واللهُ يعلمُ ما تصنعون.

إعداد/ وليد بن محمد العباد غفر الله له ولوالديه وأهله وذريته والمسلمين

جامع السعيد بحي المصيف شمال الرياض 21/ 3/ 1445هـ

المشاهدات 892 | التعليقات 0