خطبة : تأملات في سورة الغاشية

عبد الرحيم المثيلي
1438/08/08 - 2017/05/04 22:00PM
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي أنزل عبده الكتاب هدى وبشرى للمتقين , وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين , الرحمن علم القرآن , وأشهد أن محمدا عبده ورسوله البشير النذير والسراج المنير , صلى عليه الله وسلم ما تعاقب الجديدان .
أمّا بعد: فاتقوا الله عباد الله واتقوا النار , {وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ }
عباد الله : إن يوم القيامة يومٌ عظيم , يومَ تُبدلُ الأرضُ غير الأرض والسماواتُ , يومٌ يجعل الولدان شيبا , كثرت أهواله وتعددت أسماؤه , وجاء ذكره في القرآن بأسماءٍ كثيرة وأوصافٍ عظيمة , فمن أسمائه الغاشية , وفي ذلك يقول الله لنبيه  : ( هل أتاك حديث الغاشية ؟ ) سؤال تهويل وتعظيم موجهٌ لكل إنسان يدب على الأرض , فيه تذكير وتبشير , فيه إنذار وتقرير , يثير الخوف والرجاء , ويحيي الترقب والاستعداد ! إنه خبر الغاشية ! التي تغشى الناسَ بأهوالها , وتزلزل الأرض بزلزالها , يوم يقوم الناس لرب العالمين , يومئذ يتفرقون , فريق إلى الجنة وفريق إلى السعير .
فريق لهم وجوهٌ خاشعة من الذل والفضيحة والخزي العظيم , تغشى وجوههم النارُ , وتنصب أجسادهم في العذاب { عاملة ناصبة } , وقيل : عاملة في الدنيا بالمعاصي ناصبة في النار بالعذاب والإهلاك , وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مرَّ بدير راهب من رهبان النصارى فناداه ! فلما أشرف جعل عمرُ ينظر إليه ويبكي , فقيل : يا أمير المؤمنين ما يبكيك ؟ قال : ذكرت قول الله جل وعلا في كتابه : { عاملة ناصبة تصلى نارا حامية } فذاك الذي أبكاني !
{ تصلى ناراً حامية } نارٌ قد بلغت ذروتها وشدتها في الحرارة , فُضّلت على نار الدنيا بتسعة وستين جزءا , جاء في الحديث الصحيح عند البخاري ومسلم أن رسول الله قال ( ناركم جزء من سبعين جزءا من نار جهنم ) . قالوا والله إن كانت لكافية يارسول الله قال : ( إنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءا كلها مثل حرها ) لهم منها مهادٌ ومن فوقهم غواش , ولهم مقامع من حديد , ويسقون من ماء كالمهل يشوي الوجوه من عينٍ في جهنم قد انتهى حرها وغليانها , { وسُقوا ماءً حميماً فقطّع أمعاءهم } تأملوا ياعباد الله كيف قال الله ( وسُقوا ) ! ولم يقل ( وشَربوا ) لأنهم لم يشربوا بإرادتهم ولكنهم ( سُقوا ) رغماً عنهم , وفي آية أخرى { ويُسقى من ماء صديد يتجرعه ولا يكاد يسيغه ويأتيه الموت من كل مكانٍ وما هو بميت ومن وراءه عذابٌ غليظ } , وهل هذا الماء يأتيهم بكل سهولة كلما عطشوا أتاهم ؟ كلا ! فإنه لا يأتيهم حتى يشتد عطشهم فيستغيثون وفي ذلك يقول الله { وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقاً } .
أما طعامهم فإنه الضريع ! أتدرون – عباد الله – ما الضريع ؟ إنه شجر في جهنم , له أشواك , غاية في المرارة , شرُّ طعامٍ وأبشعُه وأنتنُه ! لا يسدُّ جوعَهم ولا يسمنُ أبدانَهم{ إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ{43} طَعَامُ الْأَثِيمِ{44} كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ{45} كَغَلْيِ الْحَمِيمِ{46} , { إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ{64} طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ{65} فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِؤُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ{66} ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِّنْ حَمِيمٍ{67}
نعوذ بالله من حال أهل النار ومن شرابهم و طعامهم .
وأما فريقُ أهلِ الجنةِ أهلِ النعيمِ المقيم , فإن الوجوهَ قد جرت عليها نضرةُ النعيم , فاستنارت وجوههم وأشرقت , وفاض منها الرضا عن ما قدّمت , فهي راضيةٌ عما قدمته في الدنيا من الأعمال الصالحة , وهي ناعمةٌ بما أعطاها الله من السرور والثواب الجزيل . يقال لهم : { كلوا واشربوا هنيئا ًبما أسلفتم في الأيام الخالية } { كلوا واشربوا هنيئاً بما كنتم تعملون إنا كذلك نجزي المحسنين } .
في جنة أعدها الله لهم , فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر , في جنة عالية لهم غرف من فوقها غرف مبنية , درجات بعضها فوق بعض , جاء في الحديث الصحيح المتفق عليه : " إن في الجنة مائةَ درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله كل درجتين ما بينهما كما بين السماء والأرض , فإذا سألتم الله فسلوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة وفَوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة " .
جنة عالية , لا يسمعون فيه لغو ولا تأثيم , إنه السكون والاطمئنان والود والرضا فالأبصار تتمتع بالنظر إلى المروج والأنهار وأشجار الجنة وطيب الثمار , والأسماع تتمتع بحَسَنِ الكلام وما يسرُّ النفسَ ويبهجُ قلوبَ الأبرار , حقاً إنه النعيم !
الأنهار تجري بالماء واللبن , وتتدفق بالخمر والعسل , في غير أخدودٍ جرت سبحان ممسكها عن الفيضان . {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاء حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ }.
{ فيها سررٌ مرفوعة } : مجالس مرتفعة , فرشها وطيئة لينة , {متكئين على
فرشٍ بطائنها من إستبرق } إذا كانت البطانة من الديباج فكيف بظاهرها يا عباد الله ؟! حقاً إنه النعيم !
{ إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ{55} هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِؤُونَ{56} لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُم مَّا يَدَّعُونَ{57} سَلَامٌ قَوْلاً مِن رَّبٍّ رَّحِيمٍ{58} , قد وضعت لهم الأكواب وأُعدت , بألذ وأطيب أنواع الشراب , لا تحتاج إلى طلب ولا إعداد , وصُفت لهم النمارق وهي الوسائد من الحرير والديباج صفت للجلوس والاتكاء , وبثت لهم الزرابي وهي البسط جمع بساط , قد ملئت بها مجالسهم من كل جانب , ملوكٌ على الأسرة يطوف عليهم ولدان مخلدون إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤاً منثور , وإذا رأيت ثم رأيت نعيماً وملكاً كبيرا .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً }
الخطبة الثانية
الحمد لله ....
أما بعد : فاتقوا الله أيه المؤمنون لعلكم تفلحون
أيها المؤمنون : إن ربكم تبارك وتعالى يدعوكم إلى النظر في مخلوقاته والتفكر في خلق السموات والأرض وما بث فيهما من دابة , فإنه امتدح أقواما فقال عنهم : {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ }آل عمران191
فتأملوا - عباد الله - وتفكروا في الإبل كيف خلقها وصورها , فأطال أعناقها لتنوءَ بالأحمال والأثقال وتنهض , فلو كانت قصيرة العنق لما استطاعت أن تنهض , وتأملوا كيف أعطاها القدرةَ على اختزان الماء في بطونها فتصبر عن الماء أياما فلا تظمى , وتأملوا كيف للإنسان ذللها وسخرها , فما كان للإنسان - ذلك المخلوق الضعيف بجانب ذلك الحيوان الضخم الكبير - أن يجعلها له ركوبا ولا لأحماله ذلولا , لولا أن الله جلت قدرته بواسع فضله ورحمته امتن علينا بذلك المن والفضل .
وتأمل - عبدَ الله – في السماء كيف بناها رفع سمكها فسواها , وشيدها بغير عمد تراها , وبالكواكب زينها فجلَّ من سواها {أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ }ق6 , وانظر – رحمك الله – إلى الجبال كيف نصبها وجعلها للأرض رواسي {وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ }النحل15 , وخلقها من ألوان شتى آية لمن تفكر وتدبر {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} [فاطر: 27، 28] جبالٌ شاهقات , فيها عبر وعظات , حتى إنه ذكر عن كفار قريش أنهم استعظموها وقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم " يا محمد كيف يفعل ربك بهذه الجبال يوم القيامة ؟ " فقال الله {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً * فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً * لَا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلَا أَمْتاً } , نعم ! إن الذي خلقها قادر على أن ينسفها فترى الأرض مستوية لا جبال فيها
فسبحانه وتعالى تقدست أسماؤه وجل ثناؤه , سبحانه وتعالى عما يصفه الظالمون .
وانظر وتفكر ! في الأرض كيف بسطها ودحاها فأخرج منها ماءها ومرعاها {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ } فجعل الأرض أصنافا وأنواعا وألوانا , فأرض نقية تقبل الماء وتنبت الكلأ والعشب, وأرض أجادب تمسك الماء فينتفع الناس منه , وأرض قاع لا تمسك الماء ولا تنبت شيئا , فسبحان من خلقها وعلى الذي شاء نوعها .
ثم قال الله لنبيه  { فذكر إنما أنت مذكر } أي ذكر الناس يا محمد وعظهم وبشرهم وأنذرهم , و لاتيأس بسبب إعراضهم وعدم ادكارهم , وأنت لست عليهم بمصيطر فلا تملك من أمر قلوبهم شيئا حتى تكرههم على الإيمان .
{ إلا من تولى وكفر } أي : لكن من تولى عن التذكير وكفر فجزاؤه العذاب الأكبر , وتأمل أيها المؤمن أن الذي وصف العذاب بالأكبر هو الله , وأكبر اسم تفضيل فإنه عذاب لا أكبر منه نعوذ بالله من عذاب الله .
ثم قال الله مهدداً ومتوعداً لهؤلاء لمن أعرض عن أوامر الله وتكبر عن طاعة مولاه , فقال : { إن إلينا إيابهم } أي : دعك منهم يا محمد ! فإن رجوعهم إلينا يوم القيامة فأين مني يذهبون ؟ ومن عذابي كيف يتقون ؟ {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً } , { ثم إن علينا حسابهم } , ومن كان على العزيز حسابه فقد هلك , ولا منجا له من عذابه و لا مفر , فاعمل – عبدَ الله – من الصالحات وحافظ على الصلاة , واثبت على الحق حتى تلقى الله , فالعمر أيام معدودات , ولا تدري متى يزورك هادم اللذات .
عباد الله : هذه سورة الغاشية التي كان رسول الله  يقرؤها في المجامع كالجمعة
والعيدين , فيها آيات بينات , ومواعظُ لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد
اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا , ونور صدورنا , وجلاء أحزاننا , وذهاب همومنا .
المرفقات

وقفة مع سورة الغاشية.docx

وقفة مع سورة الغاشية.docx

المشاهدات 5930 | التعليقات 0