خطبة: (بهيمة الأنام)

عبدالله البصري
1446/04/28 - 2024/10/31 10:48AM

بهيمة الأنام       29/ 4/ 1446

 

الخطبة الأولى :
أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم أَيُّهَا النَّاسُ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللهَ يَجعَلْ لَكُم فُرقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُم سَيِّئَاتِكُم وَيَغفِرْ لَكُم وَاللهُ ذُو الفَضلِ العَظِيمِ "

أَيُّها المُسلِمونَ ، كُلُّنا يَشهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنَّ محمدًا رَسولُ اللهِ ، فَهَل وَعَينا قَدرَ هَاتَينِ الشَّهادَتَينِ العَظِيمَتَينِ حَقًّا ؟! هَل عَلِمنَا أَنَّ مَن شَهِدَهُما فَقَد عَاهَدَ رَبَّهُ عَهدًا لَهُ شُروطٌ لا بُدَّ مِن تَحَقُّقِها ، وَلَوَازِمَ لا بُدَّ مِن مُراعَاتِها ، وَمَوانِعَ يَجِبُ اجتِنابُها وَالتَّخَلُّصُ مِنها ، لِيَكونَ بِذَلِكَ مُسلِمًا حَقًّا ، وَلِيَرقى لِدَرَجَةٍ يَستَحِقُّ بها بَعدَ رَحمَةِ اللهِ دُخُولَ الجَنَّةِ ؟! قَالَ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ : " مَن مَاتَ وَهُوَ يَشهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنَّ محمدًا رَسُولُ اللهِ صَادِقًا مِن قَلبِهِ دَخَلَ الجَنَّةَ " أَخرَجَهُ أَحمَدُ وَالنَّسائيُّ وَصَحَّحَهُ الأَلبانيُّ . إِنَّ مُجَرَّدَ النُّطقِ بِالشَّهادَتَينِ وَقَولِهِمَا بِاللِّسانِ وَإِن كَانَ يُدخِلُ صَاحِبَهُ في الإِسلامِ ، وَيُصبِحُ بِهِ مَعصُومَ الدَّمِ وَالمَالِ ، إِلاَّ أَنَّهُ لَكِي يَنفَعَهُ وَيَرفَعَهُ ، لا بُدَّ أَن يُصَدِّقَهُ العَمَلُ ، بَعدَ أَن يَصدُقَ القَلبُ في اعتِقادِهِ . وَلِنَقِيسَ ذَلِكَ الصِّدقَ وَنَختَبِرَ مُستَواهُ ، فَلْنَنظُرْ في الوَاقِعِ إِلى مَن يَشهَدُ تِلكُمُ الشَّهادَتَينِ ، ثم هُوَ يَقَعُ صَباحًا وَمَسَاءً في مُخالَفَاتٍ ظَاهِرَةٍ وَمُتَكَرِّرَةٍ ، لا يَتُوبُ مِنها وَلا يُنيبُ ، وَلا يَتراجَعُ عَنها وَلا يَتَوَقَّفُ ، يَدَّعي أَنَّهُ يَعبُدُ اللهَ وَيُطِيعُ رَسُولَهُ ، وَهُوَ في الحَقِيقَةِ عَبدٌ لِهَواهُ ، مُطِيعٌ لِنَفسِهِ ، يَسُوقُهُ مِزاجُهُ ، وَتَدفَعُهُ شَهوَتُهُ ، وَيَمنَعُهُ تَكَاسُلُهُ ، وَيُؤَخِّرُهُ تَبَاطُؤُهُ . وَلا تَستَعجِلُوا وَتَقولُوا لَيسَ هَذا بِمَعقُولٍ وَلا هُوَ بِمَوجُودٍ في مُجتَمَعِنا ، بَل إِنَّهُ مَوجُودٌ عَمَلِيًّا في بُيُوتِنا ، وَيُمارِسُهُ أَقوَامٌ مِن بَينِنا ، وَنَراهُ في أُناسٍ لا يُظَنُّ بهم في الظَّاهِرِ إِلاَّ الخَيرُ ، في تَصَرُّفاتٍ تَحارُ العُقُولُ السَّلِيمَةُ في فَهمِها ، وَانحِرافاتٍ عَنِ الصِّراطِ المُستَقيمِ لا يَكادُ يُعرَفُ سَبَبُها ، وَإِلاَّ فَهَل مِنَ الصِّدقِ في الإِيمانِ أَن يَنامَ مُسلِمٌ عَن صلاةِ الفَجرِ بِالأَيَّامِ وَالأَسابِيعِ وَلا يَشهَدَها مَعَ الجَماعَةِ ؟! هَل مِنَ الصِّدقِ أَلا يَهتَمَّ بِأَداءِ سَائِرِ الصَّلَواتِ الخَمسِ في المَسجِدِ ؟! هَل مِنَ الصِّدقِ أَن يَتَباطَأَ عَنها بَعدَ سَماعِ الأَذانِ وَلا يَأتيَ إِلاَّ مُتَأَخِّرًا ، ثم يُرَى أَوَّلَ الخَارِجِينَ مِنَ المَسجِدِ بَعدَ انقِضائِها ؟! هَل مِنَ الصِّدقِ أَن يَنامَ قَرِيرَ العَينِ هُوَ وَجَميعُ مَن في بَيتِهِ ، وَلا يُفتَحَ لهم بابٌ إِلاَّ لأَعمَالِهِمُ الدُّنيَوِيَّةِ وَطَلَبِ أَرزَاقِهِمُ العَاجِلَةِ ؟! وَهَكَذا لَو نَظَرنا إِلى كَثيرٍ مِن شُؤونِ حَياتِنا اليَومِيَّةِ ، لَوَجَدنا مُخالَفاتٍ عَمَلِيَّةً لِمَا تَقُولُهُ الأَلسِنَةُ ، وَهَل يَكُونُ صَادِقًا في قَولِ الشَّهادَتَينِ مَن يُقَدِّمُ عَصَبِيَّتَهُ أَيًّا كَانَت عَلَى أُخُوَّةِ الإِسلامِ ؟! هَل يَكونُ صَادِقًا فِيها مَن يَغُشُّ في بَيعِهِ وَشِرائِهِ وَيَخدَعُ وَيَكذِبُ في تَعَامُلِهِ ؟! هَل يُعَدُّ صَادِقًا فِيها مَن يَعُقُّ وَالِدَيهِ وَيَقطَعُ رَحِمَهُ وَيُؤذِي جِيرَانَهُ وَيَحتَقِرُ إِخوانَهُ ؟! إِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِمَّن يَقولُ الشَّهادَتَينِ بِلِسانِهِ ، وَهُوَ يُخالِفُهُما بِأَفعَالِهِ وَتَعَامُلِهِ وَأَخذِهِ وَعَطائِهِ إِلاَّ فِيما تَشتَهِيهِ نَفسُهُ ، إِنَّهُ في الحَقِيقَةِ بَهِيمَةٌ في صُورَةِ إِنسانٍ ، وَفِيهِ وَأَمثالِهِ يَصدُقُ قَولُ الشَّاعِرِ :

أَبُنَيَّ إِنَّ مِنَ الأَنامِ بَهِيمَةً
في صُورَةِ الرَّجُلِ السَّمِيعِ المُبصِرِ
فَطِنٌ بِكُلِّ مُصِيبَةٍ في مَالِهِ
فَإِذا أُصِيبَ بِدِينِهِ لم يَشعُرِ
يَا لَهَا مِن مُصِيبَةٍ أَلاَّ يَكُونَ لِلمَرءِ هَمٌّ إِلاَّ الدُّنيَا وَطَلَبُها وَتَحسِينُ حَالِهِ وَصُورَتِهِ فِيها ، وَتَعَلُّمُ طُرُقِ كَسبِها وَتَحصِيلِها وَتَنمِيَتِها ، لا يُقِيمُهُ إِلاَّ البَحثُ عَنها ، وَلا يُقعِدُهُ إِلاَّ فَوَاتُها ، مَشغُولٌ بها طُولَ وَقتِهِ ، مَفتُونٌ بِزَخارِفِها عَامَّةَ زَمانِهِ ، حَرِيصٌ عَلَى جَمعِها وَمَنعِها ، هِيَ هَمُّهُ في لَيلِهِ وَنَهارِهِ ، وَغَايَتُهُ في سِرِّهِ وَجَهارِهِ ، ثم هُوَ إِلى الآخِرَةِ بَطِيءٌ مُتَثاقِلٌ ، زاهِدٌ فِيها غَافِلٌ عَنها مُتَغافِلٌ ، يُحِبُّ العاجِلَةَ وَيَذَرُ الآخِرَةَ ، يَفزَعُ لِفَوَاتِ مَكسَبٍ دُنيَوِيٍّ يَسِيرٍ ، أَو غَبنٍ في مَتَاعٍ قَلِيلٍ ، وَلا يَتَحَرَّكُ لَهُ سَاكِنٌ وَقَد فَاتَتهُ رَكعَتا الفَجرِ اللَّتانِ هُمَا خَيرٌ مِنَ الدُّنيا وَمَا فِيها ، وَلا يَحزَنُ لأَنَّهُ لم يُكمِلْ خَمسَ صَلَواتٍ مَعَ المُسلِمِينَ في الجَماعَةِ ، وَلا يَشعُرُ بِالنَّقصِ وَهُوَ مُهمِلٌ لِلسُّنَنِ الرَّواتِبِ تَارِكٌ لِلوِترِ ، لَيسَ لَهُ حَظٌّ مِن صَلاِةِ الضُّحى ، وَلا يَأسى وَلا يَأسَفُ لأَنَّهُ أَخَذَ حَقَّ مُسلِمٍ أَو ظَلَمَهُ أَو هَضَمَهُ ، أَوِ احتَقَرَهُ أَو كَذَبَ عَلَيهِ أَو بَهَتَهُ أَوِ استَهزَأَ بِهِ ، أَلا فَلْنَتَّقِ اللهَ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، وَلْنَصدُقْ فِيما عَاهَدنا رَبَّنا عَلَيهِ ، فَإِنَّ جَزاءَ الصَّادِقِينَ عِندَ اللهِ عَظِيمٌ ، وَمَن لم يَكُنْ مِنَ المُؤمِنِينَ الصَّادِقِينَ ، فَيُخشَى أَن يَدخُلَ في حِزبِ المُنافِقِينَ المُعَذَّبِينَ ، قَالَ تَعَالى : " مِنَ المُؤمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيهِ فَمِنهُم مَن قَضَى نَحبَهُ وَمِنهُم مَن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبدِيلًا . لِيَجزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدقِهِم وَيُعَذِّبَ المُنَافِقِينَ إِن شَاءَ أَو يَتُوبَ عَلَيهِم إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا " وَقَالَ جَلَّ وَعَلا : " قَالَ اللهُ هَذَا يَومُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدقُهُم لَهُم جَنَّاتٌ تَجرِي مِن تَحتِهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللهُ عَنهُم وَرَضُوا عَنهُ ذَلِكَ الفَوزُ العَظِيمُ " وَقَالَ سُبحَانَهُ : " وَإِذْ أَخَذنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُم وَمِنكَ وَمِن نُوحٍ وَإِبرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابنِ مَريَمَ وَأَخَذنَا مِنهُم مِيثَاقًا غَلِيظًا . لِيَسأَلَ الصَّادِقِينَ عَن صِدقِهِم وَأَعَدَّ لِلكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا " أَجَلْ أَيُّها المُسلِمونَ ، إِنَّ نُصُوصَ الكِتابِ وَالسُّنَّةِ الَّتي نَقرَؤُها وَنَسمَعُها ، لَيسَت لِلتِّلاوةِ وَالقِراءَةِ وَكَفَى ، إِنَّها نُصُوصٌ رَبَّانِيَّةٌ مُبارَكَةٌ ، نَزَلَت مِن عِندِ خَالِقِنا وَالخَبِيرِ بما فِيهِ صَلاحُ شَأنِنا ، فَيَجِبُ أَن تَكُونَ مَعَنَا في كُلِّ لَحظَةٍ وَخَطوَةٍ ، تَعِيها قُلُوبُنا ، وَتَتَعَاطَفُ مَعَهَا نُفُوسُنا ، وَتَستَجِيبُ لها جَوَارِحُنا ، وَنَحُلُّ بها مُشكِلاتِنا ، وَنَستَنِيرُ بها في طُرُقِنا ، وَنَرسِمُ بها اتِّجاهَنا ، وَنُحَدِّدُ مَقاصِدَنا وَغَايَاتِنا ، مُوقِنِينَ يَقِينًا جَازِمًا بِأَنَّها حَقٌّ وَصِدقٌ ، وَأَنَّنا إِنِ اتَّبَعنا الهُدَى فَلَن نَضِلَّ وَلَن نَشقَى ، وَإِن أَعرَضَ مِنَّا مَن أَعرَضَ فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا ، قَالَ سُبحَانَهُ : " قَالَ اهبِطَا مِنهَا جَمِيعًا بَعضُكُم لِبَعضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأتِيَنَّكُم مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشقَى . وَمَن أَعرَضَ عَن ذِكرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحشُرُهُ يَومَ القِيَامَةِ أَعمَى . قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرتَنِي أَعمَى وَقَد كُنتُ بَصِيرًا . قَالَ كَذَلِكَ أَتَتكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ اليَومَ تُنسَى . وَكَذَلِكَ نَجزِي مَن أَسرَفَ وَلَم يُؤمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبقَى "

 

 

الخطبة الثانية :

أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالى حَقَّ التَّقوَى ، وَتَمَسَّكُوا مِنَ الإِسلامِ بِالعُروَةِ الوُثقَى ، وَاعمَلُوا صَالِحًا يُنجِيكُم مِن عَذَابٍ أَلِيمٍ " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ " كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ في نِيَّاتِهِم ، كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ في أَقوَالِهِم ، كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ في أَفعَالِهِم ، كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ في تَعَامُلِهِم وَأَخذِهِم وَعَطائِهِم ، كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ في أَخلاقِهِم ، اُصدُقُوا اللهَ يَصدُقْكُم وَيُوَفِّقْكُم وَيَكُنْ مَعَكُم ، كُونُوا مَعَ الصَّفوَةِ المُختَارَةِ مِن عِبادِ اللهِ السَّابِقِينَ إِلى كُلِّ خَيرٍ ، اِتَّبِعوا مَن مَضَى مِنَ المُؤمِنِينَ بِإِحسَانٍ ، لا تَتَأَخَّرُوا عَن كُلِّ عَمَلٍ صَالِحٍ ، وَلا تُحَدِّثُوا نُفُوسَكُم بِتَخَلُّفٍ عَنِ الخَيرِ ، وَلا تُزَلزِلَنَّ إِيمانَكُم تَقَلُّباتُ الحَياةِ بِيُسرِهَا وَعُسرِهَا ، بَل كُونُوا مَعَ الشَّاكِرِينَ في السَّرَّاءِ ، الصَّابِرِينَ في الضَّرَّاءِ ، المُستَغفِرِينَ عِندَ الذُّنوبِ وَالأَخطاءِ ، فَإِنَّ هَذِهِ هِيَ السَّعادَةُ الَّتي يَنشُدُها النَّاسُ وَيَطلُبُونها ، لَكِنَّ كَثِيرًا مِنهُم لم يَجِدْها وَلا ذَاقَها ؛ لأَنَّهُ جَانَبَ طَرِيقَها وَحَادَ عَن سَبِيلِهَا " وَلَو أَنَّهُم فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيرًا لَهُم وَأَشَدَّ تَثبِيتًا . وَإِذًا لآتَينَاهُم مِن لَدُنَّا أَجرًا عَظِيمًا . وَلَهَدَينَاهُم صِرَاطًا مُستَقِيمًا . وَمَن يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنعَمَ اللهُ عَلَيهِم مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا . ذَلِكَ الفَضلُ مِنَ اللهِ وَكَفَى بِاللهِ عَلِيمًا "

المرفقات

1730360905_بهيمة الأنام.docx

1730360905_بهيمة الأنام.pdf

المشاهدات 937 | التعليقات 1

جزاك الله خيرا