خطبة بمناسبة نُزول الغيث

خطبة بمناسبة نُزول الغيث([1])

 

الخطبة الأولى

الحمدُ للهِ الذي لا رادَّ لِمَا أراد، ولا مُعْطِيَ لِمَا مَنَع، وما لِرِزْقِهِ مِن نَفَاد، فسُبحانه مِن إلهٍ يعلمُ السِّرَّ قبلَ أن يَختَلِجَ في الفؤاد، ويُسَبِّحُ بحمدِه الصامتُ والناطِقُ والحيُّ والجماد.

أحمدُهُ سُبحانه على ما أولاهُ مِن جزيلِ النِّعَمِ والأمداد، وأشهدُ ألا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له، شهادةً تُنْجِي قائلَها يومَ يَقُومُ الأشهاد، وأشهدُ أن سيِّدنا ونبيَّنا محمدًا عبدُهُ ورسُولُه، المبعوثُ إلى جميعِ العِباد، اللهُمَّ صَلِّ وسَلِّم وزِد وبارِك على عبدِكَ ورسُولِكَ محمَّد، وعلى آلِه وأصحابِه السادِةِ الأمجاد.

أما بعد:

 فاتَّقوا اللهَ -أيُّها الناس- واعلَمُوا أن اللهَ مع المتقين، وذَرُوا ظاهِرَ الإثمِ وباطِنَه، ولا تكونوا من المعتدين.

 عبادَ الله:

 إن اللهَ جَلَّتْ حِكْمتُهُ لم يَخْلُقْكُمْ سُدى، ولم يَتْرُك أمْرَكُمْ هَمَلا ﴿خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾([2])، لقد فاز مَن اتَّقى اللهَ في سِرِّهِ وجَهْرِه، وأخْلصَ له الطاعةَ في اجتنابِ نَهيِهِ وامتثالِ أمْرِه، وأكْثَرَ ذِكْرَ الله، وقَابَلَ نِعَمَهُ بشُكْرِه؛ ألَا وإن مَن شَكَرَ نِعَمَ اللهِ تعالى كان ذلك سَببًا للمزيدِ من فَضلِه ﴿ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾([3]).

 

أيُّها المسلمون:

إن اللهَ تعالى قد كَشَفَ عنكم الضُرَّ والقُنُوط، ومَنَّ عليكُم بما ساقهُ إليكم مِن رِزقِهِ المَبسوط، أغاثَ البلاد، وسقى العباد، وعَمَّ بالغيثِ الحاضرَ والباد، ألانَ اللهُ تعالى بإنزالِ الغيثِ القلوبَ القاسية، وأطلَقَ بالثَّناءِ عليه ألسِنةً كانت لذِكرِهِ مُتناسية ﴿وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ﴾([4])، وقال سُبحانه: ﴿اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ * فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾([5])، وقال سُبحانه: ﴿وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾([6]).

فهذه مِن آياتِ اللهِ في الآفاق، تَدُلُّ على الحكيمِ الخَلَّاق، وكُونوا أيُّها المؤمنون كما قال ربُّكُم: ﴿فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾([7])، واهتدُوا بِهَدْيِ نبيِّ المرسلين ﷺ، تكُونوا من المهتدين، فقد كان عليه الصلاةُ والسلامُ إذا رأى مَطَرًا قال: «اللهُمَّ صَيِّبًا نافِعا»([8])، وكان يَحْسِرُ ثَوْبَهُ حتى يُصِيبَهُ المطر، ويَحْسِرُ عن رأسِهِ حتى يُصِيبَهُ المطر، ثم يقول: «إنه حديثُ عَهْدٍ بِرَبِّه»([9])، وفي رواية: «قريبُ عَهْدٍ بِرَبِّه»([10])، فإذا مُطِرُوا قال: «مُطِرنَا بفضلِ اللهِ ورَحمتِه»([11]).

ومن الأدبِ أن يُكْثِرَ المَرْءُ من الدعاء حالَ نُزُولِ المطر، وعليه أن يَدْعُوَ لنفسِهِ ولإخوانِهِ المسلمين، ولا يَنْسَى المُضطهَدينَ في دينِهِم من دُعائِه، وعليه أن يَخُصَّ الذُّرِّيةَ والزوجَةَ بالدعاء، مِن مِثْلِ قولِه: ﴿رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ﴾([12])، ﴿رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا﴾([13])، وما شابَه ذلك.

والبَداءةُ بالحمدِ والثناءِ على الله، والصلاةِ على رسولِ الله، ثم الخَتْمُ بالصلاةِ على الرسولِ من أسبابِ إجابةِ الدعاء.

وكان مِن هَدْيِهِ ﷺ إذا سال الوادي يقول: «اخْرُجُوا بنا إلى هذا الذي جَعَلَهُ اللهُ طَهُورا، فَنَتطهَّرَ به، ونَحمَدَ اللهَ عليه»([14])، ﴿وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا * لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا * وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا﴾([15]).

 فأكْثِرُوا رَحِمَكُمُ اللهُ من حَمْدِ اللهِ والثَّناءِ عليه، وعليكُم بشُكْرِهِ على نِعَمِهِ الكثيرة.

اللهُمَّ لك الحمدُ حَمْدًا نَبْلُغُ به رِضاك، ونُؤَدِّي به شُكْرَك، ونَسْتَوجِبُ به المزيدَ من فَضْلِك.

اللهُمَّ لك الحمدُ على حِلْمِكَ بعد عِلْمِك، ولك الحمدُ على عَفْوِكَ بعد قُدْرَتِك، لك الحمدُ كما أنعَمْتَ علينا نِعَمًا بعد نِعَم، لك الحمدُ بالإسلام، ولك الحمدُ بالقرآن، ولك الحمدُ بالأهلِ والمالِ والمُعافاة، ولك الحمدُ في السَّرَّاءِ والضَّرَّاء، ولك الحمدُ في الشِّدَّةِ والرَّخاء، ولك الحمدُ على كُلِّ حال.

اللهُمَّ لك الحمدُ كما يَنبغي لجلالِ وجهِك، وعظيمِ سُلطانِك، ولك الحمدُ كما أنت أهلُهُ ووَلِيُّه، اللهُمَّ فزِدْنا من فضلِك، وأنزِل علينا مِن خيرِك، ويَسِّر لنا مِن رِزقِك، وفرِّج عَنَّا مِن شِدَّتِنا برحمتِك؛ أنت أرحَمُ الراحمين، وأنت وليُّ الصالحين، وأستغفِرُ اللهَ لي ولكم ولسائِرِ المسلمين، فاستغفِرُوُه إنه هو الغفورُ الرحيم.


 

الخطبة الثانية

الحمدُ للهِ على إحسانِه، والشُّكرُ له على توفيقهِ وامتنانِه، وأشهدُ ألا إلهَ إلا اللهُ وحْدَهُ لا شريكَ له تَعظيمًا لشانِه، وأشهدُ أن سيِّدنا ونبيَّنا محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ الداعي إلى جَنَّتهِ ورِضوانِه، اللهُمَّ صَلِّ وسَلِّم وبارِك عليه، وعلى آلِه وأصحابِهِ والتابعين لهم بإحسانٍ يا رَبَّ العالمين.

أما بعد:

 فاتَّقوا اللهَ -أيُّها المؤمنون- لعلكم تُرحَمون.

عبادَ الله:

 إن مما يُوصَى به في هذا المَقامِ أن يُكْثِرَ المَرْءُ من الدعاءِ حال رَغْبَتِهِ في الخروجِ لرُؤيةِ المطر، وألا يَقْترِبَ من أماكنِ الخطر، وأن يَحْمَدَ اللهَ كثيرًا على نِعمتِهِ وفضلِه، وأن يُعَوِّدَ أهلَهُ ومَن معه من الصِّغارِ على شُكْرِ نِعمةِ الله؛ فإن ذلك من أسبابِ بقاءِ النِّعَم.

زادنا اللهُ وإيَّاكُم من فضلِه، وأنزلَ علينا من رَحمتِهِ ما يكونُ مُعينًا لنا على طاعتِه.

صَلُّوا بعدَ هذا على إمامِ المرسَلين، وسيِّدِ الثَّقَلَين: محمدِ بنِ عبدِ الله، وعلى آلِه الطيبينَ الطاهرين، وعلى زوجاتهِ الطاهراتِ أُمَّهاتِ المؤمنين، وارضَ اللهُمَّ عَنِ الصحابةِ أجمعين، وخُصَّ الخُلَفاءَ الراشدين: أبا بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعلي، وعن سائرِ الصحابةِ والتابعين، ومَن تَبِعَهُم بإحسانٍ إلى يومِ الدين.

 



([1]) أُلقيت في 14/6/1439ه.
([2]) الملك: 2.
([3]) إبراهيم: 7.
([4]) الشورى: 28.
([5]) الروم: 48-50.
([6]) الحج: 5-6.
([7]) الأعراف: 74.
([8]) أخرجه البخاري (1032) من حديث عائشة رضي اللهُ عنها.
([9]) أخرجه الإمام أحمد (13820) وأبو داود (5100) والنسائي (1850) والحاكم (7768) وقال: (هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يُخرجاه) من حديث أنس رضي اللهُ عنه.
([10]) يُنظر: "نوادر الأصول" للحكيم الترمذي (2/44).
([11]) ثَبَت ذلك من قوله ﷺ لا من فعله؛ ففي حديث زيد بن خالد الجهني رضي اللهُ عنه قال: (صلى لنا رسولُ الله ﷺ صلاةَ الصبحِ بالحُديبيةِ على إثرِ سماءٍ كانت من الليلة، فلما انصرفَ أقبلَ على الناسِ فقال: هل تَدرون ماذا قال ربُّكم؟ قالوا: اللهُ ورسولُهُ أعلم، قال: أصبح من عبادي مؤمنٌ بي وكافر، فأما مَن قال: مُطِرْنَا بفضلِ اللهِ ورَحمتِه، فذلك مؤمنٌ بي وكافر بالكوكب، وأما مَن قال: بنَوءِ كذا وكذا، فذلك كافرٌ بي ومؤمنٌ بالكوكب) أخرجه البخاري (846) ومسلم (125).
([12]) إبراهيم: 40.
([13]) الفرقان: 74.
([14]) أخرجه البيهقيُّ في "السنن الكبرى" (6457) وقال: (هذا منقطع، ورُوي فيه عن عمر) وقال النووي: (إسناده ضعيف) "خُلاصة الأحكام" (2/884).
([15]) الفرقان: 48-50.

المشاهدات 154 | التعليقات 0