خطبة بعنوان / يوم عرفة والأضاحي

محمد سعيد صديق
1432/12/07 - 2011/11/03 10:50AM
8 / 12 / 1432هـ
الخطبة الأولىالعنوان/ يوم عرفة والأضاحي

الحمد لله رب البريات،من على عباده بمواسم الخيرات ليغفر لهم الذنوب والزلات ،ويجزل لهم العطايا والهبات،اشكره تعالى وقد خص بالفضيلة أياما معدودات،وأماكن محدودات،الموفق من اغتنمها بطاعة الله والمغبون من فرط فيها مع قدرته عليها وغلبه هواه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أكمل لنا الدين، وأتم علينا النعمة، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله،اللهم صل وسلم عليه وعلى آله الطاهرين،و الصحابة والتابعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أَمَّا بَعدُ: فَأُوصِيكُم ـ أَيُّها النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ عز وجل وَتَعظِيمِ حُرُمَاتِهِ وَشَعَائِرِهِ، (ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللهِ فَهُوَ خَيرٌ لَهُ عِندَ رَبِّهِ )، ( ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِن تَقوَى القُلُوبِ).
عباد الله، ما أشد انقضاء الأعمار وتسارع الأيام بل السنون والأعوام،في الخطبة الماضية كان حديثنا عن استقبال العشر من ذي الحجة وفضائلها وما ينبغي علينا فعله فيها،وها نحن اليوم في النصف الأخير منها ،فياليت شعري كيف انقضت وما الذي طويت عليه صحائفنا فيها، أحبتي الكرام لنتدارك ما تبقى من عشرنا،فمن أحسن منا فليزدد إحسانا ومن أساء فليراجع حساباته،وليعالج زلاته،ويتدارك العمر قبل فواته ، ويعلنها تحديا ضد الهوى والشيطان،ليسلم من الخسران ،ويسارع الخطا لمعانقة جنة الرحمن.
أيها الكرام: ها نحن نقترب من نهاية الموسم ،بل ونقترب من يوم عرفة،ذلك اليوم الذي يسود فيه وجه الشيطان ، ويخيب سعيه، ويهوي يحثُ التراب على رأسه ويدعو بالويل والثبور وعظائم الأمور!!
مما يرى من اجتماع المسلمين في عرفات، وما يتنزل عليهم من مولاهم من رحمات،فتغلي مراجل غضبه،وينكسر خاسئاً ذليلاً، وما رؤى في يوم أحقر ولا أصغر ولا أغيظ منه يوم عرفة وذلك لما يرى من تنزل الرحمة وتجاوز الله عن الذنوب العظام إلا ما رؤى يوم بدر... إن يوم عرفة يوم تنزل رحمة الله وما أدراك ما رحمة الله …
فهو يوم من أيام العتق من النار، فعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة ، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء)وفي رواية أنه سبحانه يقول:(أشهدكم أني قد غفرت لهم، فتقول الملائكة: يارب فلان مرهق(أي مثقل بالذنوب) فيقول: قد غفرت لهم).
ولقد كان لسلفنا الصالح في موقف عرفة مآثر لا تنسى ومواقف خالدة، فقد وقف مطرف بن عبد الله وبكر المزني بعرفة، فقال أحدهما: "اللهم لا تردَّ أهل الموقف من أجلي"، وقال الآخر: "ما أشرفه من موقف وأرجاه لأهله لولا أني فيهم". ووقف أحد الصالحين بعرفة فمنعه الحياء من ربه أن يدعوه، فقيل له: لم لا تدعو؟! فقال: أجد وحشة، فقيل له: هذا يوم العفو عن الذنوب، فبسط يديه ووقع ميتًا. وروي عن الفضيل بن عياض أنه نظر إلى تسبيح الناس وبكائهم عشيّة عرفة فقال: أرأيتم لو أنّ هؤلاء صاروا إلى رجل فسألوه دانقًا ـ يعني: سدس درهم ـ أكان يردّهم؟ قالوا: لا، قال: والله للمغفرة عند الله أهون من إجابة رجل لهم بدانق. وقال ابن المبارك: جئت إلى سفيان الثوري عشية عرفة وهو جاثٍ على ركبتيه وعيناه تذرفان، فقلت له: من أسوأ هذا الجمع حالاً؟ قال: الذي يظن أن الله لا يغفر له .
وكان حكيم بن حزام رضي الله عنه يقف بعرفة ومعه مئة بدنة مقلدة، ومئة رقبة - أي من العبيد الأرقاء - فيعتق رقيقه، فيضج الناس بالبكاء والدعاء، ويقولون: ربنا هذا عبدك قد أعتق عبيده، ونحن عبيدك فأعتقنا من النار.
وفي يوم عرفة يغفر الله لمن صام من غير الحجيج السنة التي قبلها والسنة التي بعدها،فعن أبي قتادة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :(صيام يوم عرفة إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والتي بعده)رواه مسلم، فلا إله إلا الله،ما أحلم الله على عباده وما أكرمه وهو الجواد الكريم.
واعلموا رحمكم الله أنه يشرع للجميع الإكثار من التكبير والذكر في هذا اليوم وفي يوم العيد وأيام التشريق،مطلقاً ومقيداً بأدبار الصلوات، ولم يرد للتكبير صفة محددة عن النبي صلى الله عليه و سلم ، لكن روي عن بعض الصحابة رضي الله عنهم بعض العبارات منها ما ورد عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان يقول: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد، ومنها ما ورد عن سلمان الفارسي رضي الله عنه أنه كان يقول: الله أكبر الله أكبر الله أكبر كبيراً،ويسن الجهر بها إعلاناً لذكر الله وشكره وإظهاراً لشعائره.
أما العيد والفرح فيه فهو من محاسن هذا الدين وشرائعه، فعن أنس رضي الله عنه قال: قدم النبي صلى الله عليه و سلم ولأهل المدينة يومان يلعبون فيهما في الجاهلية فقال: (قدمت عليكم، ولكم يومان تلعبون فيهما في الجاهلية، وقد أبدلكم الله بهما خيراً منهما: يوم النحر ويوم الفطر).
ويشرع للمسلم التجمل في العيد بلبس الحسن من الثياب والتطيب في غير إسراف ولا مخيلة ولا إسبال.
وذهب جمع من المحققين إلى أن صلاة العيد واجبة على الأعيان، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية الذي يقول:صلاة العيد واجبة على الأعيان، فإنها من أعظم شعائر الإسلام، والناس يجتمعون لها أعظم من الجمعة، وقد شرع فيها التكبير.
ويستحب في عيد الأضحى أن لا يأكل إلا بعد صلاة العيد ليأكل من أضحيته ، وهذا هديه صلى الله عليه و سلم.. ويستحب للمصلي يوم العيد أن يأتي من طريق و يعود من طريق آخر اقتداءاً بالنبي صلى الله عليه و سلم، ويستحب له الخروج ماشياً إن تيسر، ويكثر من التكبير حتى يحضر الإمام.
عباد الله،أيام العيد ليست أيام لهو ولعب وغفلة،بل هي أيام عبادة وشكر، والمؤمن يتقلب في أنواع العبادة ولا يعرف لها حداً،ومن تلك العبادات التي يحبها الله تعالى ويرضاها صلة الأرحام وزيارة الأقارب وترك التباغض والتحاسد، والعطف على المساكين والأيتام،وإدخال السرور على الأهل والعيال،ومواساة الفقراء وتفقد المحتاجين من الأقارب والجيران اللهم مُنَّ علينا بقبول الأعمال ووفقنا للصالح من الأقوال والأفعال وارزقنا التوبة والاستعداد ليوم المآل.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
الخطبة الثانية

الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا .
أما بعد،عباد الله:ومن شعائر يوم العيد ذبح الأضاحي تقرباً إلى الله عز وجل ،قال السعدي رحمه الله: ليس المقصود منها ذبحها فقط، ولا ينال الله من لحومها ولا دمائها شيء لكونه الغني الحميد، وإنما يناله الإخلاص فيها والاحتساب والنية الصالحة، ولهذا قال:(وَلَـٰكِن يَنَالُهُ ٱلتَّقْوَىٰ مِنكُمْ) لا فخراً ولا رياء ولا سمعة ولا مجرد عادة. اهـ.
و ما عمل ابن آدم يوم النحر عملاً أحب إلى الله من إراقة دم، وهي سنَّةُ أبيكم إبراهيم عليه السلام وسنّة نبيِّكم صلى الله عليه وسلم، وجمهورُ المسلمين يرَونها سنّةً مؤكّدة، بل بعضهم ذهب إلى وجوبها، لكن الجمهور على أنها سنّةٌ مؤكَّدة، ينبغي للقادر عليها أن لا يدَعَها،وتجزئ الشاة عن الرجل وأهل بيته،والبدنة والبقرة عن سبعة بيوت.
ثم اعلموا أن للأضحية شروطًا ثلاثة،أولها:أن تبلغ السن المعتبر شرعًا وهو خمس سنين في الإبل، وسنتان في البقر، وسنة كاملة في المعز، وستة أشهر في الضأن.و أن تكون سالمة من العيوب التي نهى عنها الشارع، وهي أربعة عيوب: العرجاء البين عرجها، والمريضة البين مرضها، والعوراء البين عورها، والعجفاء الهزيلة، وكلما كانت أكمل في ذاتها وصفاتها فهي أفضل.
والشرط الثالث: أن تقع الأضحية في الوقت المحدد، ويبدأ بعد الفراغ من صلاة العيد وخطبته وينتهي بغروب الشمس من اليوم الثالث بعد العيد . ومن كان منكم يحسن الذبح فليذبحها بنفسه، ومن لا يحسنه فليوكل غيره ممن يحسنه، وليرفق بالبهيمة، وليرح ذبيحته، وليحد شفرته، فإن الله كتب الإحسان على كل شيء، ويقول عند ذبحها: بسم الله والله أكبر، اللهم هذا منك ولك، اللهم هذه عن فلان وأهل بيته، ويسمي صاحبها. ويستحب أن يأكل ثلثًا ويهدي ثلثًا ويتصدق بثلث، لقوله تعالى: (فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ ٱلْقَـٰنِعَ وَٱلْمُعْتَرَّ )، ولا يعطي الجزار أجرته منها.ومن عجز عن الأضحية فليس عليه شيء فإن رسول الهدى صلى الله عليه وسلم قد ضحى بكبشين أملحين أقرنين، أحدهما عن نفسه وأهل بيته، والآخر عن من لم يضحي من أمته.
نسأل الله أن يوفِّقَ المسلمين لكلّ خير، وأن يحفَظَ حجّاجَ بيتِه الحرام، ويعينهم على أداءِ نسكهم، ويصرف عنهم كيدَ الكائدين وحِقد الحاقدين، وأن يوفِّق وُلاةَ أمرنا لما يرضيه، وأن يمدَّهم بعونِه وتوفيقِه وتأييدِه، وأن يسهِّل أمرَ الحجيج، ويعينهم على أداء نسكهم في أمنٍ ويسر وسكينة، إنه على كل شيءٍ قدير.
ألا وصلّوا ـ رَحمكم الله ـ على نبيكم امتثالاً لأمر ربّكم، قال تعالى:( إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) .
اللهمّ صلّ وسلّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلَفائه الراشدين...
المشاهدات 2090 | التعليقات 0