خطبة بعنوان: رحيل الدعاة إلى الله: كلمات في رحيل الداعية أحمد ديدات
الأستاذ الدكتور عدنان خطاطبة
رحيل الدعاة إلى الله: كلمات في رحيل الداعية أحمد ديدات
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)(آل عمران،102). أما بعد:
يقول المولى سبحانه وتعالى: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا(23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ﴾(الأحزاب،23-24). فما زالت أقدار الله عز وجل، الحكيم، العليم، الرحيم، تُصيب هذه الأمة في علمائها، فتفجعهم برحيلهم عن هذه الدار، وكان من الدعاة الذين فجع العالم الإسلامي برحيلهم عن هذه الدار الدنيا، العَلَم الداعية الشيخ أحمد ديدات.
نعم، لقد قال الله تعالى في حق نبيه صلى الله عليه وسلم وفي حق كل مَن على هذه الأرض: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) (الزمر،30)، ولكن، إن موت العالم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ليس كموت أي أحد، لماذا؟
لماذا؟ لأن بين العلماء وبين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم نسَبا شريفا، قال عنه الرسول صلى الله عليه وسلم، كما في الحديث الصحيح في سنن الترمذي: (إِنَّ العُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاء)، فالعالم من هذه الأمة هو وريث شرعي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وبما أنه وريث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا بد أن يكون لحياته ثمن لا يقدر، ولموته أثر لا يجبر، ولذلك لما مات عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فاروق الأمة وعالما، بكاه سعيد بن زيد رضي الله عنه، فقال له قائل: يا أبا الأعور: ما يبكيك؟ فقال- استمعوا ماذا قال- ما يبكيك يا سعد؟ فقال: على الإسلام أبكي، إن موت عمر رضي الله ثلم في الإسلام ثلمة لا ترتق إلى يوم القيامة، وقال أبو طلحة: فوالله ما من بيت من المسلمين إلا وقد دخل عليهم في موت عمر رضي الله عنه، نقص في دنيهم وفي دنياهم. هكذا والله ما يصنعه موت أكابر هذه الأمة، وعلمائها ودعاتها، المهديون الصالحون المصلحون على منهاج الكتاب والسنة. ولذلك جاء في الأثر: لموت الف عابد قائم الليل، صائم النهار، أهون من موت العالم العابد.
ولقد كان، والله، موت الداعية أحمد ديدات، أشد على الأمة من موت ألف من أبنائها الركّع السجود. لماذا؟
أيها الأخوة المؤمنون: أتعرفون بماذا كان يلقب هذا العالم الداعية؟ ولماذا؟ أما بماذا كان يلقب هذا العالم الشجاع، فقد كان يلقب: بقاهر الصليبيين، أما لماذا كان يلقب بقاهر الصليبي، فتعالوا معنا نقف مع حياة هذا العلم الداعية وقفة المؤمن، المخلص، المحب، المجل لعلماء أمّته ودعاتها.
ولد أحمد ديدات في مدينة "سيرات"، بالهند عام 1918، وبعد سنوات هاجر مع أبيه إلى جنوب أفريقيا واستقرا فيها، وكان عمره إذ ذاك تسع سنوات، فماذا صنع "ديدات"، هل بدأ حياته بالالتحاق بفريق كرة قدم، أم بكورال موسيقي، لا إنما افتتح حياته بالاعتكاف على حفظ كتاب الله، وامضى فترة شبابه بدراسة مبادئ الإسلام والسيرة، مركزا على الكتب التي ترد على شبهات المستشرقين والنصارى، حول القرآن، وحول الرسول صلى الله عليه وسلم.
ولكن كيف تحول "ديدات" إلى قاهر للصليبين، والى أكبر مناظر للنصارى عرفه العصر الحديث، وعرفته الأمة منذ فجر تاريخها إلى هذا الزمان.
أيها الأخوة المؤمنون: تقول الروايات: أن "ديدات"، لما كان طالبا في المدرسة، وعندما كان يعود إلى بيته، كان يعترضه- كما يعترض غيره من الطلاب المسلمين– النصارى، فيثيرون في جهة الشبهات، والشكوك حول الإسلام– والقرآن– ورسول الإسلام، مدعين أن الإنجيل والنصرانية على حق، ولم يكن يمتلك كثيرا من المعلومات والمعارف للرد عليهم، فكان يحزنه ذلك، ولما تكرر الأمر، قرّر "ديدات" أن ينكبّ على دراسة الإنجيل وشروحه، وكتب حوار الأديان، وما يثار من شبهات حول الإسلام، (نعم)، قرر "ديدات" أن يكون ابنا بارا بالإسلام وبالمسلمين.
لقد أدرك "ديدات" أن جهاد أعداء الأمة كما يكون بالسيف والبرامج، يكون بالقلم والفكر، قال الله تعالى: ﴿ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾(البقرة،111)، وقال تعالى عن القرآن: ﴿وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا﴾(البقرة،52)، , فتسلّح قاهر الصّليبين الداعية "ديدات" بأسلحة حادة في طحن أفكار أعداء الأمة، وماضيه في تذوب دعاويهم الفاسدة وتفسيخ شبههم الضالة، أما السلاح الأول: فكان تمكنه من القرآن والإسلام، وتمسكه بمنهج الكتاب والسنة، أما السلاح الثاني: فكان تمكنه من الإنجيل وتاريخه، وشروحاته، أما السلاح الثالث: فكان هدوء أعصابه، ورباطة جأشه، وهكذا انطلق "ديدات" يحاور النصارى في دينهم، ويقيم عليها الحجة والبرهان، ويرد على أباطيلهم وشبهاتهم، ويشرح للعالم حقيقة الإسلام الناصعة، وشرع بتأليف الكتب، فأصدر كتابه الأول "ماذا يقول الكتاب المقدس عن محمد"، وغيره من الكتب.
أيها المسلمون: لقد قاد "ديدات" معركة ضخمة شرسة في أفريقيا؛ لأنه كان واعيا لما يجري حوله، ولما تخططه الكنيسة في أفريقيا المسلمة لتنصير أبناءها. هل تعلمون، أن الحركات التنصيرية بدأت تشتغل في تنصير المسلمين في أفريقيا من عام 1880، هل تعلمون أن هناك أكثر من ثلاثة آلاف قسيس تفرغوا لتنصير المسلمين في أفريقيا، وهناك أكثر من 800 جامعة ومعهد وكليه تخضع لتوجهات بابا روما، وهناك أاكثر من 1600 مستشفى ومستوصف تابع للكنيسة.
وفي عام (1959)، قرر ديدات أن يتوقف عن مواصلة تأليف الكتاب حتى يتفرغ بالكامل للمهمة العظيمة التي نذر نفسه لها، إثبات تحريف الإنجيل وإبطال مزاعم النصارى حول المسيح، ونشر حقيقة الإسلام، وذلك عن طريق عقد المناظرات العلنية والندوات والمحاضرات في مختلف دول الغرب الكبرى.
ولكن هذه المرة، قرر بدلا من أن ينتظر النصارى حتى يأتوه، قرر أن يذهب إليهم في عقر دارهم، في أوروبا وأمريكيا، فأخذ يناظرهم ويقارعهم بالحجة والبرهان، في عديد من جامعاتهم، ومراكزهم العلمية، متحديا منازلة أكابرهم من القساوسة والأساتذة اللاهوتيين.
واشتهر بمناظراته الكبرى، التي عقدها مع كبار رجال الدين النصراني، والمناظرة الشهيرة (هل الكتاب المقدس كلام الله)، مع القس جيحي سواجرت والتي حضرها أكثر من (8) الأف شخص، أقوى شاهد على ذلك، وكان الحضور في القاعات يضج بالضفيق لديدات عشرات أضعاف ما يصفقون لرجالهم من القساوسة والكهنة، بسبب شجاعته وجرأته، وقوة حجته وبيانه. وبلغ من عجيب عبقريته، أن كان يصحح للقس المناظر له، كلمات من الإنجيل يقرأها عن حاضر، فيصحّحها له غيبا؛ لأنه كان يحفظ الإنجيل كاملا كاسمه، وتحدى أحد مناظيره ذات يوم أن يقرأ على مسامع الحضور صفحة معينة من الإنجيل فرفض، وتحت الضغط والتحدي قرأها، وإذا بها نصف حالة وقوع الزنا بين الرب بزعمهم وبين فتاة على الأرض، ليقول لهم أي كتاب مقدس هذا الذي تزعمون.
وبارك الله في علمه وفي دعوته، في مناظراته، فأسلم على يديه "آلاف" من النصارى، آلاف، لا عشرات، ليكونوا في ميزان حسناته، قال النبي صلى الله عليه وسلم، كما في صحيح البخاري: (فَوَاللَّهِ لَأَنْ يُهْدَى بِكَ رَجُلٌ وَاحِدٌ خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ) و(حمر النعم) الإبل الحمراء وكانت أنفس الأموال عند العرب. ولقد التقيت بوحد من هؤلاء الذين أسلموا على يد "ديدات"، في بلدي في الأردن أثناء زيارته لها، حيث قام بإعطاء محاضرة. وكان قسا يشتغل بالتنصير في أفريقيا، ولكنه بعد مناظرة تم عقدها في إحدى الدول الغربية، أعلن إسلامه هو وجمع لفيف من النصارى.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم
الخطبة الثانية:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد:
استمر الدعية المسلم "أحمد ديدات" في الدعوة للإسلام، ومناظرة النصارى منذ الثلاثينات إلى عام (1996) حيث تقدم به السن إلى أن قدر الله العليم الحكيم، أرحم الراحمين أن يصاب بشلل تام في جميع أجزاء جسده، باستثناء دماغه، ولزم الفراش منذ ذلك العام، ومع ذلك، فإن ديدات واصل دعوته ما استطاع إلى ذلك سبيلا، من خلال الرد على الرسائل اليومية التي كانت تتدفق عليه، فقد كان يأتيه يوميا، وهو على فراش المرض قرابة أل 500 رسالة.
وتحين ساعة الأجل، فتفيض روحه الطاهرة الطيبة، يوم الإثنين 8-8-2005. وقد لاقى الشيخ ديدات ربه عن عمر يناهز 87 عاما بمنزله في منطقة فيرولام بإقليم كوازولو ناتال بجنوب أفريقيا بعد صراع طويل مع المرض. ليترك وراءه سجلا حافلا بنصرة الإسلام والذب عن عقيدته، والرد على خصومه، ومقارعه أعداءه، ترك وراءه العشرات من الكتب والعشرات من الأشرطة، ترك وراءه مراكز للدعوة، ترك وراءه فريقا من طلاب العلم يعملون في مكتبه، ترك وراءه ذريته الصالحة الطيبة.
اللهم اجعل أعمالنا صالحة، واجعلها لوجهك خاصة.
المرفقات
1616141540_كلمات في رحيل الدعاة نموذج ديدات.docx