خطبة بعنوان: حَدِيْثُ الشفاعة

محمد بن عبدالله التميمي
1444/02/12 - 2022/09/08 09:53AM
  الحمد لله رب العالمين ﴿غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ العِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ المَصِيرُ﴾ نحمده ونشكره، ونتوب إليه ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ ﴿خَلَقَ المَوْتَ وَالحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ العَزِيزُ الغَفُورُ﴾، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ صاحبُ اللواءِ المعقود، والمقامِ المحمود، والحوضِ المورود، اختَبأَ دعوتَه المستجابةَ شفاعةً لأمته يوم القيامة، وقدّمهم على نفسه، فكان أولى بالمؤمنين من أنفسهم، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين. أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واعلموا ما في غدِكم، فاعملوا في يومكم لغدكم، وتزودوا من دنياكم لأخراكم؛ فإن من ورائكم يوما عسيرا، وحرا شديدا، وزحاما كثيرا، ووقوفا طويلا، لا يَستظلُّ فيه إلا من أظله الله تعالى في ظله يوم لا ظل إلا ظله ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ عباد الله.. إن مِن نُصح النبي صلى الله عليه وسلم لأمته، وشفقتِه عليها، وحرصِه على نجاتها، أنْ حدّثهم بما يكون يوم القيامة من الكرب والشدة؛ ليتأهّبوا له بالعمل الصالح الذي هو سبب النجاة والفوز والنجاح، وإليكم سياق حديث النبي صلى الله عليه وسلم لبعض ما يقع في يوم القيامة من شدةٍ تجعل الناسَ يقصدون الأنبياء طالبين منهم الشفاعة عند الله تعالى؛ ليفصل القضاء بينهم، والذي ألجأهم لهذا الطلب: ما يجدون من كرب، فالشمس منهم دانية، وقد زِيدَ في حَرّها، ولا ظلَّ إلا لصفوةٍ خصهم اللهُ بكرامته، فاستمعوا لحديث النبي صلى الله عليه وسلم مما أخرجه البخاري ومسلم وهي أحاديثُ يُكَمِّلُ بعضُها بعضًا: قال أبو هُرَيْرَة رضي الله عنه: وضعت بَين يَدي رَسُول الله ﷺ قَصْعَة من ثريدٍ ولحم، فَتَناول الذِّراع - وكانَت أحب الشّاة إلَيْهِ - فنهس نهسة فَقالَ: «أنا سيد النّاس يَوْم القِيامَة» ثمَّ نهس أُخْرى فَقالَ: «أنا سيد النّاس يَوْم القِيامَة» فَلَمّا رأى أصْحابه لا يسألونه قالَ: «ألا تَقولُونَ: كيفه؟» قالُوا: كَيفَ يا رَسُول الله؟ قالَ: « يَجْمَعُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَيُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي، وَيَنْفُذُهُمُ الْبَصَرُ، وَتَدْنُو الشَّمْسُ فَيَبْلُغُ النَّاسَ مِنَ الْغَمِّ وَالْكَرْبِ مَا لَا يُطِيقُونَ، وَمَا لَا يَحْتَمِلُونَ، وفي رواية: فَيَقُومُ الْمُؤْمِنُونَ حَتَّى تُزْلَفَ لَهُمُ الْجَنَّةُ، فيقول بَعْضُ الناس لِبَعْضٍ ألا تَرَوْنَ ما أَنْتُمْ فيه؟ ألا تَرَوْنَ ما قد بَلَغَكُمْ؟ ألا تَنْظُرُونَ من يَشْفَعُ لَكُمْ إلي رَبِّكُمْ، لَوِ اسْتَشْفَعْنَا عَلَى رَبِّنَا حَتَّى يُرِيحَنَا مِنْ مَكَانِنَا هَذا، قالَ: فَيَأْتُونَ آدَمَ ﷺ، فَيَقُولُونَ: أنْتَ آدَمُ، أبُو الخَلْقِ، خَلَقَكَ اللهُ بِيَدِهِ، ونَفَخَ فِيكَ مِن رُوحِهِ، وأمَرَ المَلائِكَةَ فَسَجَدُوا لَكَ، اشْفَعْ لَنا عِنْدَ رَبِّكَ حَتّى يُرِيحَنا مِن مَكانِنا هَذا، فَيَقُولُ: لَسْتُ هُناكُمْ، فَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ الَّتِي أصابَ، فَيَسْتَحْيِي رَبَّهُ مِنها، ولَكِنِ ائْتُوا نُوحًا أوَّلَ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللهُ»، قالَ: «فَيَأْتُونَ نُوحًا ﷺ، فَيَقُولُ: لَسْتُ هُناكُمْ، فَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ الَّتِي أصابَ، فَيَسْتَحْيِي رَبَّهُ مِنها، ولَكِنِ ائْتُوا إبْراهِيمَ ﷺ الَّذِي اتَّخَذَهُ اللهُ خَلِيلًا، فَيَأْتُونَ إبْراهِيمَ ﷺ، فَيَقُولُ: لَسْتُ هُناكُمْ، ويَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ الَّتِي أصابَ، فَيَسْتَحْيِي رَبَّهُ مِنها، ولَكِنِ ائْتُوا مُوسى ﷺ، الَّذِي كَلَّمَهُ اللهُ وأعْطاهُ التَّوْراةَ، قالَ: فَيَأْتُونَ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ، فَيَقُولُ: لَسْتُ هُناكُمْ، ويَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ الَّتِي أصابَ، فَيَسْتَحْيِي رَبَّهُ مِنها، ولَكِنِ ائْتُوا عِيسى رُوحَ اللهِ وكَلِمَتَهُ، فَيَأْتُونَ عِيسى رُوحَ اللهِ وكَلِمَتَهُ، فَيَقُولُ: لَسْتُ هُناكُمْ، ولَكِنِ ائْتُوا مُحَمَّدًا ﷺ عَبْدًا قَدْ غُفِرَ لَهُ ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ وما تَأخَّرَ»، قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «فَيَأْتُونِي فَأسْتَأْذِنُ عَلى رَبِّي، فَيُؤْذَنُ لِي، فَإذا أنا رَأيْتُهُ وقَعْتُ ساجِدًا، فَيَدَعُنِي ما شاءَ اللهُ، فَيُقالُ: يا مُحَمَّدُ، ارْفَعْ رَأْسَكَ، قُلْ تُسْمَعْ، سَلْ تُعْطَهْ، اشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأرْفَعُ رَأْسِي، فَأحْمَدُ رَبِّي بِتَحْمِيدٍ يُعَلِّمُنِيهِ رَبِّي، ثُمَّ أشْفَعُ فَيَحُدُّ لِي حَدًّا، فَأُخْرِجُهُمْ مِنَ النّارِ، وأُدْخِلُهُمُ الجَنَّةَ، ثُمَّ أعُودُ فَأقَعُ ساجِدًا، فَيَدَعُنِي ما شاءَ اللهُ أنْ يَدَعَنِي، ثُمَّ يُقالُ: ارْفَعْ يا مُحَمَّدُ، قُلْ تُسْمَعْ، سَلْ تُعْطَهْ، اشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأرْفَعُ رَأْسِي، فَأحْمَدُ رَبِّي بِتَحْمِيدٍ يُعَلِّمُنِيهِ، ثُمَّ أشْفَعُ فَيَحُدُّ لِي حَدًّا، فَأُخْرِجَهُمْ مِنَ النّارِ وأُدْخِلُهُمُ الجَنَّةَ» - قالَ: فَلا أدْرِي فِي الثّالِثَةِ أوْ فِي الرّابِعَةِ - قالَ «فَأقُولُ: يا رَبِّ، ما بَقِيَ فِي النّارِ إلّا مَن حَبَسَهُ القُرْآنُ، أيْ وجَبَ عَلَيْهِ الخُلُودُ». وفي رواية: فَيَأْتُونَ مُحَمَّدًا ﷺ، فَيقوم، فَيُؤذن لَهُ، وترسل الأمانَة والرحم، فتقومان جنبتي الصِّراط يَمِينا وشمالًا، فيمر أولكم كالبرق». قالَ: قلت: بِأبي أنْت وأمي، أي شَيْء كمر البَرْق؟ قالَ: «ألم تروا إلى البَرْق كَيفَ يمر ويرجع فِي طرفَة عين؟ ثمَّ كمر الرّيح، ثمَّ كمر الطير وشد الرِّجال، تجْرِي بهم أعْمالهم، ونبيكم قائمٌ على الصِّراط يَقُول: رب سلم سلم، حَتّى تعجز أعمال العباد، حَتّى يَجِيء الرجل فَلا يَسْتَطِيع السّير إلّا زحفًا، وفِي حافتي الصِّراط كلاليب معلقَة مأمورة، تَأْخُذ من أمرت بِهِ، فمخدوش ناجٍ، ومكدوسٌ فِي النّار». وفي رواية: فَيُقال: يا مُحَمَّد أَدْخِل من أمتك من لا حِساب عَلَيْهِم من الباب الأيْمن من أبْواب الجنَّة، وهم شُرَكاء النّاس فِيما سوى ذَلِك من الأبْواب.» ثمَّ قالَ: «والَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ، إن ما بَين المصراعين من مصاريع الجنَّة كَما بَين مَكَّة وهجر، أو كَما بَين مَكَّة وبصرى». نسأل الله تعالى أن يخفف عنا وعن المسلمين شدة ذلك اليوم، وأن يُظلَّنا فيه بظله، ونسأله سبحانه أن يُيَسّر حسابنا، ويُيَمّن كتابنا، وأن يَرزقَنا شفاعة نبيِّنا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن يَسقِيَنا من حوضه، وأن يُدْخِلَنا الجنة في زمرته. آمين. الخطبة الثانية الحمد لله الملك الحق المبين. وأشهد أن لا إله إلا الله مالك يوم الدين. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله سيد المرسلين وإمام المتقين، اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ﴾. عباد الله: قد سمعتم حديث الشفاعة ومما فيه من دروسٍ وعَبَر، لمن أنار الله قلبه فتبصّر: عظمةُ الجبار جل جلاله، وقدرتُه على خلقه فإنه جامع الأولين والآخرين من إنسٍ وجنٍّ أجمعين في صعيد واحد بارز وهم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء، فأين من يَقْدُرُ اللهَ تعالى حقَّ قَدْرِه، ﴿ مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لله وَقَارًا ﴾. وفي الحديث من الفوائد: إظهار منزلة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند الله تعالى، وأنه أفضل الخلق؛ فله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فضلٌ ومِنَّةٌ على الأُمَم أجمعين بشفاعته لهم في فصل القضاء، وله منة عُظمى على المؤمنين من أمته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشفاعته لهم في دخول الجنة، ويقول صلى الله عليه وسلم حرصا عليهم في شفاعته: أمتي أمتي، ويقول وهو قائمٌ على الصِّراط: ربِّ سلِّم سلِّم. وفي الحديث: شدةُ يوم القيامة على الناس، وطولُ الوقوف وشدةُ الحر حين تدنو الشمس من رؤوس الخلق حتى تَغلي رؤوسهم كما تغلي القدور، فليتذكر المؤمن بما يناله من حرٍّ: ذلك الحر الشديد، وليأخذ بأسباب النجاة من يوم الوعيد، فيتزود بالأعمال الصالحة التي تكون سببا للاستظلال بظل الرحمن يومَ لا ظل إلا ظله، وفي حديث أبي أمامة عند أحمد: «تَدْنُو الشَّمْسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى قَدْرِ مِيلٍ، وَيُزَادُ فِي حَرِّهَا كَذَا وَكَذَا يَغْلِي مِنْهَا الْهَامُّ كَمَا تَغْلِي الْقُدُورُ، يَعْرَقُونَ فِيهَا عَلَى قَدْرِ خَطَايَاهُمْ مِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ إِلَى كَعْبَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ إِلَى سَاقَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ إِلَى وَسَطِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ الْعَرَقُ»، وفي المسند أيضا: «كُلُّ امْرِئٍ فِي ظِلِّ صَدَقَتِهِ يَوْمَ القِيامَةِ حَتّى يَقْضِيَ اللهُ بَيْنَ النّاسِ»، وقد قال أبو ذر رضي الله عنه في موعظة له: «صُومُوا يَوْمًا شَدِيدًا حَرُّهُ لِطُولِ النُّشُورِ، صَلُّوا رَكْعَتَيْنِ فِي سَوّادِ اللَّيْلِ لِوَحْشَةِ القُبُورِ». فتجافوا عباد الله عن معاصي الله، والتزموا الفرائض بالإتيان بها، وأَظْهَرُ ذلك ما يتكرر كلَّ يوم وليلة خمس صلوات هي على المؤمنين كتابا مفروضا مؤقتا، وهي الفاصل بين الإيمان والكفر، وأكثر ما يكون التفويت لصلاة الفجر إيثارا للنوم على ما به نجاة القوم  ﴿قَدْ أفْلَحَ مَن تَزَكّى. وذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلّى. بَلْ تُؤْثِرُونَ الحَياةَ الدُّنْيا. والآخِرَةُ خَيْرٌ وأبْقى﴾، ويا حسرةَ من آثر وقدم دنياه والقيامَ لمصلحة عمله ومدرسته على ما به نجاتُه وتحقيقُ إيمانِه.  
المرفقات

1662620035_خطبة بعنوان حديث الشفاعة.docx

المشاهدات 826 | التعليقات 0