خطبة بعنوان: الربا: مُحرّم واحد بين مئات المباحات.

خطبة بعنوان: الربا: مُحرّم واحد بين مئات المباحات.

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)(آل عمران،102). أما بعد:

﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾(البقرة،276)

أيها الأخوة المؤمنون، إن الله قد أباح لنا في هذه الدنيا أشياء كثيرة عديدة، وحرم علينا أشياء قليله معدودة، فما أباحه الله لعبادة أضعاف ما حرمه، أباح الله لنا مئات الأنواع من المشروبات، وحرم علينا نوعا واحدا هو الخمر، فأبتْ النفوس المظلمة إلا أن تشرب ما حرم الله، وأباح الله لنا الزواج الشرعي، فأبتْ النفوس المحرمة إلا أن ترتكب فاحشة الزنا، وفاحشة الزواج العرفي، أباح الله لنا مئات الأنواع من البيوع والتجارة، وحرم علينا الربا، فأبتْ نفوس كثير من الناس إلا أن يرتكبوا ما حرم الله، فتعاملوا بالربا.

الربا، وما أدراك ما الربا؟ إنه رجس المشركين، إنه صنعة اليهود، إنه فعل أعداء الأنبياء، وأعداء دين الله في الأرض، والمفسدين، فقد قال الله في حق اليهود: (وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ) (النساء،161). ولكن فاحشة الربا، لم تعد مقتصره على أعداء الأنبياء من اليهود، بل تسربت إلى حياة المسلمين، وانتشرت واستفحلت صورها، حتى أصبح للربا مؤسساته، وقوانيه، ومسمياته الخداعة، وغَدَا بعض المسلمين يتعاملون بالربا، كما يتعاملون بالبيع والشراء، غَدَا بعض المسلمين يلج في الربا من أبواب المختلفة، ولا يرى نفسه إنه جنى على دنيه، غدا المسلمون يتعاملون مع الربا، وكأنّ الله لم يقل لهم: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ﴾(البقرة،275)، وغدا المسلمون ينظرون إلى المرابي على أنه اقتصادي، أو تاجر، أو موظف، أو إنسان يسعى لتأمين مستقبله، أو إنسان قد جاءه رزق مجاني، وربح جوائز كبرى.

نسي الناس، نسي بعض المسلمين المؤمنين، أن الله تعالى قد حكم حكما قطعيا صريحا، لا يقبل التغيير إلى يوم الدين، فقال جل وعزّ: ﴿ ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ﴾(البقرة،275).

أيها الأخوة المؤمنون:

إن هذا التساهل، والاستخفاف، وإن هذا التسارع، وهذا التكاثر، وهذا الانخراط الكثير للناس بالربا، لن يغير من حقيقة الربا ولا من حكمه، ولن يغير من حرمته، لن يغير من عاقبته عند الله، لن يغير من نظرة الله إلى المرابي والمتعاملين بالربا، لن يغير من أوصافك أيها المرابي في ميزان الله، وفي شريعة الله. ﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾.

أيها المؤمنون: ما قيمة المرابي في ميزان الله؟

إن المرابي في ميزان الله هو إنسان لا يتقي الله، لماذا؟ لأن الله قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾(البقرة،278)، فمن لم يترك الربا، فهذا لم يتقّ الله، وانظر رحمك الله، خاطبك الله بصفة الإيمان في أول الآية وفي أخرها: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا / إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ). لماذا؟

ليذكرك الله بعهد الإيمان بينك وبينه، وأن عليك السمع والطاعة، وأن صاحب الإيمان الحق يدفعه إيمانه لتنفيذ شرع الله. قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: "يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِتَقْوَاهُ، نَاهِيًا لَهُمْ عَمَّا يُقَرِّبُهُمْ إِلَى سَخَطِهِ وَيُبْعِدُهُمْ عَنْ رِضَاهُ، فَقَالَ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ) أَيْ: خَافُوهُ وَرَاقِبُوهُ فِيمَا تَفْعَلُونَ (وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا) أَيِ: اتْرُكُوا مَا لَكَمَ عَلَى النَّاسِ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَى رُؤُوسِ الْأَمْوَالِ، بَعْدَ هَذَا الْإِنْذَارِ (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أَيْ: بِمَا شَرَعَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ تَحْلِيلِ الْبَيْعِ، وَتَحْرِيمِ الرِّبَا وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَقَدْ ذَكَرَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، وَابْنُ جُرَيج، وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ، وَالسُّدِّيُّ: أَنَّ هَذَا السِّيَاقَ نَزَلَ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ مِنْ ثَقِيفٍ، وَبَنِي الْمُغِيرَةِ مَنْ بَنِي مَخْزُومٍ، كَانَ بَيْنَهُمْ رِبًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ وَدَخَلُوا فِيهِ، طَلَبَتْ ثَقِيفٌ أَنْ تَأْخُذَهُ مِنْهُمْ، فَتَشَاوَرُوا وَقَالَتْ بَنُو الْمُغِيرَةِ: لَا نُؤَدِّي الرِّبَا فِي الْإِسْلَامِ فَكَتَبَ فِي ذَلِكَ عَتَّابُ بْنُ أَسِيدٍ نَائِبُ مَكَّةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فَكَتَبَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) فَقَالُوا: نَتُوبُ إِلَى اللَّهِ، وَنَذَرُ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا، فَتَرَكُوهُ كُلُّهُمْ".

أيها أخوة: إن آكل الربا، إن مَن يتعامل بالربا، هو محارب لله ولرسوله، ومن كان محاربا لله ولرسوله، فهو عدو لله ولرسوله.

أيها الأخوة: لماذا يكابر بعضنا؟ لماذا يصمّ آذانه؟ لماذا يستهين بخطاب الله لنا؟ وبتحذيره لنا؟ استمعوا ماذا يقول ربنا: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾(البقرة،278-279)، قال ابن كثير: "وَهَذَا تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ وَوَعِيدٌ أَكِيدٌ، لِمَنِ اسْتَمَرَّ عَلَى تَعَاطِي الرِّبَا بَعْدَ الْإِنْذَارِ، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: (فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ) أَيِ: اسْتَيْقِنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَتَقَدَّمَ مِنْ رِوَايَةِ رَبِيعَةَ بْنِ كُلْثُومٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابن عباس قَالَ: يُقَالُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِآكِلِ الرِّبَا: خُذْ سِلَاحَكَ لِلْحَرْبِ. ثُمَّ قَرَأَ: (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ). وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) فَمَنْ كَانَ مُقِيمًا عَلَى الرِّبَا لَا يَنْزَعُ عَنْهُ فَحَقٌّ عَلَى إِمَامِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَسْتَتِيبَهُ، فَإِنْ نَزَعَ وَإِلَّا ضَرَبَ عُنُقَهُ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: عَنِ الْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ، أَنَّهُمَا قَالَا وَاللَّهِ إِنَّ هَؤُلَاءِ الصَّيَارِفَةَ لَأَكَلَةُ الرِّبَا، وَإِنَّهُمْ قَدْ أَذِنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَلَوْ كَانَ عَلَى النَّاسِ إِمَامٌ عَادِلٌ لَاسْتَتَابَهُمْ، فَإِنْ تَابُوا وَإِلَّا وَضَعَ فِيهِمُ السِّلَاحَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: أَوْعَدَهُمُ اللَّهُ بِالْقَتْلِ كَمَا تَسْمَعُونَ، وَجَعَلَهُمْ بَهْرَجَا أَيْنَمَا أَتَوْا، فَإِيَّاكُمْ وَمَا خَالَطَ هذه البيوع مِنَ الرِّبَا؛ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَوْسَعَ الْحَلَالَ وَأَطَابَهُ، فَلَا تُلْجِئَنَّكُمْ إِلَى مَعْصِيَتِهِ فَاقَةٌ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ. وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: أَوْعَدَ اللَّهُ آكِلَ الرِّبَا بِالْقَتْلِ. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ".

فلماذا تقبل على نفسك أن تكون في حرب مع الله، أن تضع نفسك في حربٍ، ومع مَنْ؟ ومَنْ الطرف المقابل. أنت طرف، والله ورسوله طرف مقابل لك، أي عاقل يقبل هذا؟ أيّ عاقل، ولماذا؟

أيها الأخوة: آكل الربا، والمتعامل بالربا، مالُه ممحوق البركة، كسبة ممحوق البركة، حياته ممحوقة البركة، قال الله العظيم الذي بيده الضر والنفع: ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾ (البقرة،276)، قال ابن عاشور: "وَالْمَحْقُ هُوَ كَالْمَحْوِ: بِمَعْنَى إِزَالَةِ الشَّيْءِ، وَمِنْهُ مُحَاقٌ الْقَمَرِ ذَهَابُ نُورِهِ لَيْلَةَ السِّرَارِ. وَمَعْنَى يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا أَنَّهُ يُتْلِفُ مَا حَصَلَ مِنْهُ فِي الدُّنْيَا". وقال السعدي: "(يمحق الله الربا) أي: يذهبه ويذهب بركته ذاتا ووصفا، فيكون سببا لوقوع الآفات فيه ونزع البركة عنه، وإن أنفق منه لم يؤجر عليه بل يكون زادا له إلى النار".

نعم، أيها المؤمنون، فكم من شخص تعامل بالربا، فدفع الثمن في ولده، أو نفسه، أو سيارته، أو بركة حياته، والأهم من ذلك، كم من متعامل بالربا دفع الثمن في دينه وعبادته، فَحُرِم من الطاعات، وعمل الصالحات، حتى لو لم يصبك شيء من ذلك، فإنما هو الاستدراج أو وهو التأخير إلى عذاب الأخرة، فهو أشد وأبقى, ولا تدري من أين تأتيك مصائب الربا.

أيها الأخوة: آكل الربا، وكل من يسير في ركب الربا، هو ملعون على لسان رسول الله، على لسان نبي الله، ففي صحيح مسلم، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: (لَعَنَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آكِلَ الرِّبَا، وَمُؤْكِلَهُ، وَكَاتِبَهُ، وَشَاهِدَيْهِ)، وَقَالَ: (هُمْ سَوَاءٌ). قال البغا: "(آكل الربا) آخذه. (موكله) معطيه". وقال المناوي في "فيض القدير": "قال الحرالي: عبر بالأكل عن المتناولِ، لأنه أكبر المقاصد وأضرها، ويجري من الإنسان مجرى الدم، و"موكله" معطيه ومطعمه، و"كاتبه وشاهده" واستحقاقهما اللعن من حيث رضاهما به وإعانتهما عليه، وهم في حال أنهم يعلمون أنه ربا، لأن منهم المباشر للمعصية والمتسبب فيها وكلاهما آثم، أحدهما بالمباشرة والآخر بالسببية، قال الذهبي: وليس إثم من استدان محتاجاً لربا كإثم المرابي الغني، بل دونه، واشتركا في الوعيد".

قال النووي: "آكل الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَكَاتِبَهُ وَشَاهِدَيْهِ وَقَالَ هُمْ سَوَاءٌ) هذا تصريح بتحريم كتابة المبايعة بين المترابيين والشهادة عليهما وَفِيهِ تَحْرِيمُ الْإِعَانَةِ عَلَى الْبَاطِلِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ".

فهل تقبل على نفسك، لأجل دراهم معدودة في دنيا فانية، أنْ تصيبك لعنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن تحلّ في حياتك وأهل بيتك ومالك ونفقتك.

أيها الأخوة: لو قيل لنا أن فلانا من سكان الحي، قد زنا بأمّه، قد زنا بأمّه، بالله عليكم كيف سيكون وقعها؟ وكيف سننظر إليه؟ وماذا سنتوقع عذابه عند الله؟ أيها الأخوة: أن المرابي في حمنطقة سكنك، وفي بيتك، وفي عملك، أشدّ جرما عند الله من الذي يزني بأمه، صدق أو لا تصدق.

فقد أخرج الحاكم في المستدرك، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (الرِّبَا ثَلَاثَةٌ وَسَبْعُونَ بَابًا، أَيْسَرُهَا مِثْلُ أَنْ يَنْكِحَ الرَّجُلُ أُمَّهُ، وَإِنَّ أَرْبَى الرِّبَا عِرْضُ الرَّجُلِ الْمُسْلِمِ). قال الحاكم: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ". وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته.

أيها المؤمنو بلقاء الله العظيم:

إن مصير المرابي في الأخرة، مصير ذليل ومخزي ومهين، إن عاقبة من يتعامل بالربا، عاقبة سيئة مدّمَرة.

فالمرابي، إذا لم يتب، يعذب في قبره قبل آخرته، فقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم شيئا من عذاب المرابين في قبورهم. ففي صحيح البخاري، من حديث سَمُرَة بْن جُنْدُبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ لِأَصْحَابِهِ: (هَلْ رَأَى أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ رُؤْيَا)، قَالَ: فَيَقُصُّ عَلَيْهِ مَنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُصَّ، وَإِنَّهُ قَالَ ذَاتَ غَدَاةٍ: (إِنَّهُ أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتِيَانِ، وَإِنَّهُمَا ابْتَعَثَانِي، وَإِنَّهُمَا قَالاَ لِي انْطَلِقْ، وَإِنِّي انْطَلَقْتُ مَعَهُمَا)، وجاء في الحديث الطويل: قَالَ: (فَانْطَلَقْنَا، فَأَتَيْنَا عَلَى نَهَرٍ- حَسِبْتُ أَنَّهُ كَانَ  يَقُولُ- أَحْمَرَ مِثْلِ الدَّمِ، وَإِذَا فِي النَّهَرِ رَجُلٌ سَابِحٌ يَسْبَحُ، وَإِذَا عَلَى شَطِّ النَّهَرِ رَجُلٌ قَدْ جَمَعَ عِنْدَهُ حِجَارَةً كَثِيرَةً، وَإِذَا ذَلِكَ السَّابِحُ يَسْبَحُ مَا يَسْبَحُ، ثُمَّ يَأْتِي ذَلِكَ الَّذِي قَدْ جَمَعَ عِنْدَهُ الحِجَارَةَ، فَيَفْغَرُ لَهُ فَاهُ فَيُلْقِمُهُ حَجَرًا فَيَنْطَلِقُ يَسْبَحُ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِ كُلَّمَا رَجَعَ إِلَيْهِ فَغَرَ لَهُ فَاهُ فَأَلْقَمَهُ حَجَرًا) قَالَ: (قُلْتُ لَهُمَا: مَا هَذَانِ؟) قَالَ: (قَالاَ لِي: انْطَلِقِ انْطَلِقْ). ثم قال له في تفسير ما رآه: (وَأَمَّا الرَّجُلُ الَّذِي أَتَيْتَ عَلَيْهِ يَسْبَحُ فِي النَّهَرِ وَيُلْقَمُ الحَجَرَ، فَإِنَّهُ آكِلُ الرِّبَا).

أيها المؤمنون بلقاء الله العظيم: وأما مشهد آكل الربا في الآخرة، فإنه مشهد مرعب ومخزي وفاضح. نعم، إن آكل الربا لا يبعث من قبره كالناس، لا يبعث في وضع عقلي صحيح، وفي حالة جسمية سليمة، بل إن آكل الربا يبعث بصورة مزرية، مذلة، مهينة، صوّرها لنا القرآن الكريم، في قول الله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾( البقرة،275).

قال السعدي في تفسير هذه الآية العظيمة في حق آكل الربا: "يخبر تعالى عن أكلة الربا وسوء مآلهم وشدة منقلبهم، أنهم لا يقومون من قبورهم ليوم نشورهم (إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس) أي: يصرعه الشيطان بالجنون، فيقومون من قبورهم حيارى سكارى مضطربين، متوقعين لعظيم النكال وعسر الوبال".

وقال ابن كثير: " لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى الْأَبْرَارَ الْمُؤَدِّينَ النَّفَقَاتِ، الْمُخْرِجِينَ الزَّكَوَاتِ، الْمُتَفَضِّلِينَ بِالْبِرِّ وَالصِّلَاتِ لِذَوِي الْحَاجَاتِ وَالْقَرَابَاتِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ وَالْآنَّاتِ، شَرَعَ فِي ذِكْرِ أَكَلَةِ الرِّبَا وَأَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَنْوَاعِ الشُّبَهَاتِ، فَأَخْبَرَ عَنْهُمْ يَوْمَ خُرُوجِهِمْ مِنْ قُبُورِهِمْ وَقِيَامِهِمْ مِنْهَا إِلَى بَعْثِهِمْ وَنَشُورِهِمْ، فَقَالَ: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ) أَيْ: لَا يَقُومُونَ مِنْ قُبُورِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الْمَصْرُوعُ حَالَ صَرَعِهِ وَتَخَبُّطَ الشَّيْطَانِ لَهُ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ يَقُومُ قِيَامًا مُنْكَرًا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: آكِلُ الرِّبَا يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَجْنُونًا يُخْنَق. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، قَالَ: وَرُوِيَ عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَالسُّدِّيِّ، وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، وَمُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ، نَحْوُ ذَلِكَ. وَحُكِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَالْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ، وَمُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ أَنَّهُمْ قَالُوا فِي قَوْلِهِ: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ) يَعْنِي: لَا يَقُومُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَكَذَا قَالَ ابْنُ أَبِي نَجيح، عَنْ مُجَاهِدٍ، وَالضَّحَّاكِ، وَابْنِ زَيْدٍ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ، عَنْ ضَمْرَةَ بْنِ حَبِيبٍ، عَنِ ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ: "الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ". وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا رَبِيعَةُ بْنُ كُلْثُومٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: يُقَالُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِآكِلِ الرِّبَا: خُذْ سِلَاحَكَ لِلْحَرْبِ. وَقَرَأَ: (لَا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ) قَالَ: وَذَلِكَ حِينَ يَقُومُ مِنْ قَبْرِهِ".

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم

الخطبة الثانية:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد:

أيها المسلم، أيها المؤمن بالله، أيها المؤمن بلقاء الله، وبالجنة والنار، وبالقرآن شرعة وبالسنة منهاجا:

حرام عليك، والله حرام عليك، والله، أن تُغذي جسدك بالحرام، تغذي أبناءك، وأطفالك بالربا الحرام، وتدرسّهم بالربا الحرام، وتزوجّهم بالربا الحرام، وتبني لهم بيتا بالربا الحرام، وتركبّهم سيارة بالربا الحرام، وتفتح لهم حسابا ربويا بالحرام. تريد أن تنشّئهم على الحرام من صغرهم، لماذا تدمر حياتهم؟ لماذا ترمي بهم إلى النار؟ أما سمعت قول نبيك صلى الله عليه وسلم، كما في الحديث الصحيح، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ لِكَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ: (يَا كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ، لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ لَحْمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ أَبَدًا، النَّارُ أَوْلَى بِهِ).

لماذا نفعل كل هذا؟ لماذا نلقي بأنفسنا إلى التهلكة؟ لماذا نحارب الله ورسوله؟ لأجل دنيا فانية، قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم، كما في الحديث الصحيح: (وَلَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ). لأجل من؟ لأجل أولادك وزوجتك، استمع لموقفهم منك، ولموقفك منهم يوم الحساب العظيم، قال تعالى: (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ)(عبس،34-37).

لأجل ماذا؟ لأجل تحصيل السعادة وحل المشاكل؟ لا، لن يحل لك الربا والحرام ذلك، ولن يحصل لك ذلك، لن يحقق لك الحرام السعادة، لا يمكن للمعاصي أن تكون سبب لسعادة الإنسان، وإن كانت ظاهريا، فهي سبب قصير محمّل بالمفاجآت والصدمات والمنغصّات. فالربا الحرام، والمال الحرام، سبب للشقاء، وسبب للتعاسة، وضيق الصدر في الدنيا والأخرة. واللهِ لقمة واحدة من حلال، خير من ألف وجبة من حرام، وساعة تنام فيه وفي بطنك الحلال، خير من سنوات تنامها وفي بطنك الحرام.

إياك، أيها المؤمن بلقاء الله العظيم، ثم إياك أن ترحل من الدنيا، وأنت متورط في الربا، أن ترحل وحسابك في البنوك الربوية، أو عليك أو لك أقساط ربوية، أو عندك كفالات ربوية، إياك أن تقبض على هذه الحال، فعندها ستقبض، وأنت ملعون بلعنة رسول الله صلى الله عيله وسلم، وعندها سيكون مصيرك أسودا وقاتما ومظلما، وستبعث مصروعا مجنونا.

ولذلك ذكّرك ربك الرحيم، فقال في آخر آيات الربا: ﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾(البقرة،281).

اللهم اجعل أعمالنا صالحة، واجعلها لوجهك خاصة.

المشاهدات 492 | التعليقات 0