خطبة بعنوان: (الإِيمَانُ بِاليَوْمِ الآخِرِ.)
رمضان صالح العجرمي
خطبة بعنوان: (الإِيمَانُ بِاليَوْمِ الآخِرِ.)
1- مَفهُومُ الإِيمَانِ بِاليَوْمِ الآخِرِ.
2- أَهَمِّيَّةُ الإِيمَانِ بِاليَوْمِ الآخِرِ.
3- ثَمَرَاتُ الإِيمَانِ بِاليَوْمِ الآخِرِ.
(الهَدَفُ مِنَ الخُطبَةِ)
التذكير بهذا اليوم العظيم في ظل انفتاح الدنيا، وركون الناس إليها، وربما نسيان الآخرة؛ مما ترتب عليه قسوة القلوب ونسيان العمل للدار الآخرة.
•مُقَدِّمَةٌ ومَدخَلٌ للمُوْضُوعِ:
•أيُّهَا المُسلِمُونَ عِبَادَ الله، في الصحيح عن أمِّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: ((أول ما نزل من القرآن سورة فِيهَا ذِكْرُ الجَنَّةِ والنَّارِ – تعني: سورة المدثر، وهي ثاني سورة نزولًا - حتَّى إذَا ثَابَ النَّاسُ إلى الإسْلَامِ نَزَلَ الحَلَالُ والحَرَامُ، ولو نَزَلَ أوَّلَ شَيءٍ: لا تَشْرَبُوا الخَمْرَ، لَقالوا: لا نَدَعُ الخَمْرَ أبَدًا، ولو نَزَلَ: لا تَزْنُوا، لَقالوا: لا نَدَعُ الزِّنَا أبَدًا؛ لقَدْ نَزَلَ بمَكَّةَ علَى مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وإنِّي لَجَارِيَةٌ ألْعَبُ: ﴿بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ﴾ [القمر: 46]، وما نَزَلَتْ سُورَةُ البَقَرَةِ والنِّسَاءِ إلَّا وأَنَا عِنْدَهُ في المدينة)).
•في هذا الحديث العظيم تبيِّن لنا أم المؤمنين عائشة - أعلم النساء بالحلال والحرام - وتلفت انتباهنا لأمرٍ هامٍّ جدير بالتدبر والتفكر، وهو أن أوائل السور نزولًا - وهي السور المكية - غالبها يدور حول العقيدة، وتقرير مبدأ المعاد والدار الآخرة؛ فكان بمثابة تربية لجيل الصحابة على تقوية الإيمان باليوم الآخر، وتقرير عقيدة البعث والجزاء، ثم نزلت السور التي تتضمن الشرائع، والأحكام، والفرائض، والحلال، والحرام.
•ومفهوم الإيمان باليوم الآخر: (هو التّصديق الجازم بأنّ الله تعالى سيبعثُ النَّاسَ من قبورهم لمحاسبتهم ومجازاتهم على أعمالهم، ليأخذ كلُّ شخص حقّه.) هذا على سبيل الإجمال؛ وأما على سبيل التفصيل: فقد ذكر الله عز وجل أدق التفاصيل عن هذا اليوم.
•وسُمِّيَ هذا اليوم باليوم الآخر: لأنّه لا يوم بعده، وله أسماء عديدة ذكرها الله تعالى في القرآن؛ فمنها: يوم القيامة، ويَوْمُ الْخُرُوجِ، ويَوْمُ الْبَعْثِ، ويَوْمُ الْفَصْلِ، ويَوْمُ الْوَعِيدِ، ويَوْمُ التَّنَادِ، ويَوْمُ الْخُلُودِ، ويَوْمُ الدِّينِ، ويَوْمُ الْجَمْعِ، ويَوْمُ الْحِسَابِ، والنشور، والتغابن، والحسرة، والتلاق، والْآزِفَةُ، والسَّاعَةُ، والْوَاقِعَةُ، والْحَاقَّةُ، والطَّامَّةُ الْكُبْرَى، والصَّاخَّةُ، والْغَاشِيَةُ، والْقَارِعَةُ.
الوقفة الثانية:- أَهَمِّيَّةُ الإِيمَانِ بِاليَوْمِ الآخِرِ:
1- الإيمان باليوم الآخر من أهم أركان الإيمان؛ ففي حديث جبريل الطويل والذي بيَّن فيه النبي صلى الله عليه وسلم أركان الإيمان فذكر منها: ((الإيمان باليوم الآخر.))
2- ولا يستقيم إيمان العبد إلا إذا آمن به إجمالًا وتفصيلًا؛ كما قال الله تعالى: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ﴾ [البقرة: 177]، وقال الله تعالى: ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾ [النساء: 136]، وفي الحديث: ((لا يؤمن عبدٌ حتى يؤمن بأربع: يشهد أن لا إله إلا الله، وأني محمد رسول الله، بعثني بالحق، ويؤمن بالموت وبالبعث بعد الموت، ويؤمن بالقدر))؛ [رواه أحمد].
3- ولأهميته فقد بدأ الله تعالى به في كتابه العزيز في ذكر صفات:
•عباده المتقين: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾ [البقرة: 4]، ثم بيَّن أنه طريق الهداية والفلاح: ﴿أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [البقرة: 5].
•وصفات عباده المؤمنين: ﴿الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾ [النمل: 3].
•وصفات عباده المحسنين: ﴿الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾ [لقمان: 4].
4- ولأهميته: قَرَنَهُ الله تعالى مع الإيمان به في مواضع كثيرة من القرآن الكريم وفي السنة المطهرة؛ منها قوله تعالى: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾ [النساء: 59]، وقوله تعالى: ﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ [المجادلة: 22].
5- ولأهميته: فما من نبيٍّ ولا رسول إلا ودلَّ قومه على الإيمان به، وحذَّرهم من الغفلة عنه؛ كما قال الله تعالى: ﴿وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾ [العنكبوت: 36].
6- والإيمان باليوم الآخر: كان من عوامل نصر أهل الإيمان على أهل الشرك والأوثان؛ فعندما تربى الصحابة على هذه العقيدة الراسخة، وتحقق الإيمان باليوم الآخر في قلوبهم، كانت التضحيات طمعًا فيما عند الله تعالى.
•ولذلك كان الإيمان باليوم الآخر هو الفيصل بين المؤمنين والمنافقين في التضحية والجهاد في سبيل الله قديمًا وحديثًا؛ قال الله تعالى: ﴿لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ..﴾ [التوبة: 44]، وقال تعالى: ﴿إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ ..﴾ [التوبة: 45].
•فإذا تحقق الإيمان بلقاء الله تعالى وبموعوده، هانت الدنيا فيكون حافزًا لتحقيق النصر؛ كما قال تعالى عن الفئة القليلة مع طالوت: ﴿فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ [البقرة: 249]؛ فكانت النتيجة: ﴿فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ [البقرة: 251].
•فأهل الإيمان لا يقاتلون بكثرة العدد والعتاد، وإنما بقوة الإيمان؛ فهذا رجل في زمن الصحابة رثُّ الهيئة يسمع أبا موسى الأشعري رضي الله عنه، يقول وهم بحضرة العدو: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن أبواب الجنة تحت ظلال السيوف))، فينغمس في وسط المشركين، حتى نال الشهادة رضي الله عنه.
•وهذا عُمير بن حُمام رضي الله عنه، يسمع النبي صلى الله عليه وسلم يستنفر القلة القليلة ممن كانوا معه يوم بدر: ((قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض))؛ فكانت لهذه الكلمة وقع في قلب عمير بن حمام الممتلئ إيمانًا باليوم الآخر، فألقى تمرات كانت في يده، وقاتل حتى قُتل رضي الله عنه.
•وهذا أنس بن النضر رضي الله عنه، يغيب عن موقعة بدر فقال: ((يا رسول الله، غبتُ عن أول قتال قاتلتَ المشركين، لئن أشهدني الله قتال المشركين ليرينَّ الله ما أصنع))، فلما كان يوم أُحُدٍ اشتاق إلى الجنة، ومن شدة هذا الشوق كان يقول: ((الجنة - ورب النضر - إني لأجد ريحها من دون أُحُدٍ))، فقاتل حتى قُتل رضي الله عنه.
•وهذا نموذج آخر لقائد مسلم في القرن الرابع الهجري؛ إنه ألب أرسلان ذلكم القائد الشجاع الذي تربى وترعرع في المؤسسة الإيمانية، كان عائدًا من إحدى معاركه (معركة ملاذكرد سنة 463 هجرية) متجهًا بما بقي معه من الجيش إلى عاصمة خراسان، فيسمع به إمبراطور القسطنطينية (رومانوس)، فجهز جيشًا قوامه ستمائة ألف مقاتل، فيأتيه الخبر ومعه خمسة عشر ألف مقاتل – أي: إن الواحد في مقابلة أربعمائة مقاتل - فنظر إلى جيشه المنهك ما بين مصاب وجريح، فدخل خيمته، وخلع ملابسه، وحنَّط جسده، ثم تكفَّن وخرج إلى جنوده وخطبهم قائلًا: "إن الإسلام في خطر، واني أخشى أن يُقضى على (لا إله إلا الله)"، ثم صاح: "وا إسلاماه"، فصاح جنوده وكبَّروا حتى كان النصر بإذن الله تعالى.
•ولذلك كان عدم تذكر الآخرة والاستعداد لها، وكراهية الموت، من أسباب ضعف الأمة؛ وتأمل واسمع لهذا الحديث العظيم الذي يرويه أبو داود عن ثوبان رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((يوشك أن تَدَاعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها))، فقال قائل: أو من قلة نحن يومئذٍ؟ قال: ((بل أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غُثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوَهن))، فقال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال: ((حب الدنيا وكراهية الموت)).
نسأل الله العظيم ألَّا يجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا.
* * * *
الخطبة الثانية:- ثَمَرَاتُ الإِيمَانِ بِاليَوْمِ الآخِرِ.
1- الانتفاع بالموعظة؛ كما قال الله تعالى: ﴿ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ [البقرة: 232]، ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا﴾ [النازعات: 45]، ﴿فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ﴾ [ق: 45]، ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ﴾ [هود: 103].
•فالذي لم يستقر الإيمان والخوف من الآخرة في قلبه لا تنفع فيه الموعظة؛ لأن الموعظة هي تذكير بالله تعالى وتخويف من عقابه؛ ولذلك فإن المجرمين من أهل النار عندما ضعف وازع الخوف من الآخرة في قلوبهم، كانت لا تنفع فيهم المواعظ، بل كانوا يفرون منها؛ كما قال تعالى عنهم: ﴿فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ﴾ [المدثر: 49 - 51]؛ ثم بيَّن سر هذا الفرار من الموعظة: ﴿كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ﴾ [المدثر: 53].
2- تحقيق الخشية والخوف من الله تعالى؛ الذي يترتب عليه فعل الخيرات؛ كما قال الله تعالى في وصف عباده الأبرار: ﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا﴾ [الإنسان: 7]، وقال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ﴾ [التوبة: 18]، وقال الله تعالى: ﴿رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ﴾ [النور: 37].
•فإذا تحقق الإيمان باليوم الآخر، كان ذلك وازعًا ومحركًا للمسارعة إلى الطاعات والقربات، وعمارة المساجد بالصلوات والذكر؛ فإن الإيمان باليوم الآخر أقوى باعث إلى فعل الخيرات، وترك المحرمات.
3- استقامة العبد ظاهرًا وباطنًا؛ فإذا انتفع العبد بالموعظة، وتحققت عنده الخشية والخوف من الله تعالى، فإن النتيجة والثمرة هي الاستقامة ظاهرًا وباطنًا.
•فأما استقامته ظاهرًا؛ فالأدلة على ذلك كثيرة؛ منها قوله صلى الله عليه وسلم: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيرًا أو ليصمت، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليكرم جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليكرم ضيفه)).
•وأما استقامته باطنًا؛ فقد قال الله تعالى عن المطلقات: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ [البقرة: 228]؛ قال السعدي رحمه الله: "فجعل الله تعالى الإيمان به وباليوم الآخر رادعًا لهن في إصلاح الباطن بعدم كتمهن ما خلق الله في أرحامهن".
4- هوان الدنيا عند أهل الإيمان باليوم الآخر؛ وذلك عندما يعلم العبد المؤمن أن هناك دارًا غير هذه الدار، نعيمها لا ينفد، وأنه سيرتحل وينتقل من هذه الدار إلى تلك الدار، وأن الحياة الأبدية هي حياة الدار الآخرة؛ فإن النتيجة والثمرة المرجوة هي هوان الدنيا عليه، مهما كانت ملذاتها وشهواتها.
•وعلى مثل هذه المعاني ربَّى النبي صلى الله عليه وسلم الجيل الأول لهذه الأمة: ((ما لي وللدنيا؟ ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة، ثم راح وتركها))، ومرَّ يومًا على جديٍ أسَكٍّ ميت، فقال لهم مبينًا أنها لا تساوي عند الله شيئًا: ((للدنيا أهون عند الله من هذا عليكم))، وفي حديث آخر: ((لَوْ كَانَت الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّه جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْها شَرْبَةَ مَاءٍ.)) ، وكان يوصي ابن عمر رضي الله عنهما: ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)) ، وقال صلى الله عليه وسلم: ((ما الدنيا في الآخرة إلا مِثْل ما يجعل أحدكم أُصْبُعَهُ في اليَمِّ، فلينظر بِمَ يَرْجع.))
•وكان صلى الله عليه وسلم يحذرهم من الاغترار بالدنيا، ويحذرهم من الركون إليها، مع ما كانوا عليه من قوة الإيمان والتقوى، ومع أنها لم تُفتح عليهم كحالها الآن؛ فما ركبوا سيارات بماركات حديثة، ولا سكنوا القصور، ولا أكلوا أنواع المأكولات؛ ومع ذلك كان يقول: ((إن الدنيا حلوة خضِرة، وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون؛ فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء)).
•وتأمل - يا عبدالله - عندما تغلغل حب الدنيا في قلوبنا كنا أقلهم أعمالًا للآخرة، وأكثرهم حبًّا للدنيا، وكأننا مخلدون فيها.
5- تعجيل التوبة وسرعة الإقلاع عن الذنوب والآثام؛ بل ومن ثمرات الإيمان باليوم الآخر عدم الوقوع في الذنب أصلًا؛ كما قال تعالى: ﴿قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ [الأنعام: 15].
•وتأمل ما قصه الله تعالى في كتابه العزيز من خبر ابني آدم: ﴿لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ﴾ [المائدة: 28]، فما هو السر مع أنه كان الأشد والأقوى؟ ﴿إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾ [المائدة: 28]، إني أخاف الله؛ ما أعظمها من عبارة، وتذكير، وإشارة!
•فالخوف من الآخرة يحرق الشهوات في القلب، فلا يبقى لها أثر؛ فهذا رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، ومعها كل مقومات الوقوع في الفاحشة ومع ذلك يمتنع ويقول: (إني أخاف الله)؛ قال إبراهيم بن سفيان: "إذا سكن الخوف في القلب، أحرق مواضع الشهوات، وطَرَدَ الدنيا من القلب".
•وأما تعجيل التوبة: فإن العبد إذا استقر في قلبه الإيمان باليوم الآخر، فإنه سيتعجل في الخلاص من أوزاره؛ لأنه يعلم أنه في أي لحظة سيلقى الله جل في علاه؛ قال عطاء بن رباح: "مَن أكْثَرَ من ذكر الآخرة، أُكرم بثلاث: تعجيل التوبة، وقناعة في القلب، ونشاط في العبادة".
•وتأمل: قصة المرأة الغامدية كما في صحيح مسلم من حديث عمران بن حصين، تأتي للنبي صلى الله عليه وسلم وهي حبلى من الزنا؛ ليقيم عليها الحد لتطهيرها من هذه الفاحشة العظيمة، ثم يمهلها حتى تضع وتأتيه، ثم يمهلها حتى تفطم رضيعها وتأتيه، فيقيم عليها الحد، ويقول عنها النبي صلى الله عليه وسلم: ((لقد تابت توبة لو قُسمت بين سبعين من أهل المدينة، لوسعتهم، وهل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها لله عز وجل))، وبمثله فعل ماعز: ((أصبتُ حدًّا فطهرني))؛ ما الذي دفعهم إلى تعجيل التوبة وطلب إقامة الحد؟ إنه الإيمان باليوم الآخر وعلمهم بأنهم ملاقو ربهم.
•فإذا تذكر المغتاب بأنه سيُحاسب ويُؤخذ من حسناته.!
•وإذا تذكر الظالم أنه سيُقتص منه.!
• وإذا تذكر آكل أموال الناس بالباطل أنه يأكل في بطنه نارًا وسيصلى سعيرًا.!
•وإذا تذكر الغادر أن له لواءً يُنصب يوم القيامة.!
•وإذا تذكر الزاني أن له فرنًا يوم القيامة للزناة يتصايحون فيه.!
•وإذا علم من يستمع إلى الغناء أنه سيُصَبُّ في أذنيه الآنُكَ يوم القيامة.!
6- أن المؤمن يعمل بجد واجتهاد لهذا اليوم العظيم؛ فإن النفس إذا علمت العوض، فإنها تستعد للبذل والعطاء، حتى ولو لم تَرَ ثمرة هذا العمل في الدنيا.
•عندما يعلم قارئ القرآن أنه سيزداد بكل آية يحفظها درجة في الجنة.
•وعندما يعلم المصلي أنه سيزداد درجات في الجنة بكل سجدة يسجدها.
•وعندما يعلم القائم ما أعده الله له من الغرف ومن النعيم في الجنة.
•وعندما يعلم الذاكر بأن له نخلة في الجنة بكل تسبيحة.
•ويعلم الداعي إلى الله تعالى كم له من الخير والرفعة والدرجات العالية في الجنة.
•ويعلم الشهيد ما له عند الله تعالى من التكريم.
نسأل الله العظيم أن يملأ قلوبنا إيمانًا ويقينًا، وأن يجعلنا نخشاه كأننا نراه.
#سلسلة_خطب_الجمعة.
#دروس_عامة_ومواعظ.
(دعوةٌ وعمل، هدايةٌ وإرشاد)
قناة التيليجرام:
https://t.me/khotp