خطبة بادروا بالحج د. صالح بن مبارك دعكيك

شادي باجبير
1445/10/26 - 2024/05/05 23:41PM

بسم الله الرحمن الرحيم
خطبة: (بادروا بالحج) د. صالح دعكيك، مسجد آل ياسر، المكلا، 3/5/2024م
*الحمد لله رب العالمين.
قال تعالى : (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) الحج (29-27).
هكذا كان النداء الخالد، (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ)، حينما نادى إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام لحج بيت الله ، بعد أن أتم بناء البيت بمعية أبينا إسماعيل.
لقد أمره ربه أن ينادي من بطحاء مكة في العالمين، فقال له ربه: إذن في الناس بالحج، قال إبراهيم: يا رب كيف أبلغ الناس وصوتي لا ينفذهم!؟ فقال الله: ناد وعلينا البلاغ، فقام على مقام إبراهيم، وقيل على الحجر، وقيل على الصفا، وقيل على جبل أبي قُبَيس، وقال: " يا أيها الناسُ إن ربكم قد اتخذ بيتاً فحجوه".
فيقال إن الجبال تواضعت حتى بلغ الصوت أرجاء الأرض، وأسمع مَنْ في الأرحام والأصلاب، وأجابهُ كُلُ شئٍ من حجرٍ ومدرٍ وشجرٍ، ومَنْ كتب الله أن يحج إلى يوم القيامة: "لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد لله والنعمة لك والملك لا شريك".
قال ابن كثير رحمه الله (5/ 414): "هذا مضمون ما روى عن ابن عباس وعكرمة وسعيد بن جبير وغير واحد من السلف".
وأخرج الحاكم (4026) وصححه ووافقه الذهبي من حديث عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "لما بنى إبراهيم البيت أوحى الله إليه أن أذن في الناس بالحج قال فقال إبراهيم : (ألا إن ربكم قد اتخذ بيتا و أمركم أن تحجوه، فاستجاب له ما سمعه من حجر أو شجر أو أكمة أو تراب ، لبيك اللهم لبيك).
إنها لحظة تاريخية فارقة، محفورة في عمق الزمان، مسطورة في صفحة التاريخ، إنها اللحظة التي جاءت لتؤكد جلال الموقف، وحرمة الزمن، وعظمة المكان، وتؤسس للركن الحج ذلك الركن العظيم من أركان ملة إبراهيم إلى قيام الساعة.
ومازال بيت الله الحرام معلما من معالم دين إبراهيم، شاهدا على حقيقة التوحيد، ورمزا للحنيفية السمحة، يطاول الزمان شموخا في بنيانه، محفوظ بحفظ الله تعالى، تتعاقب الأجيال على الحج إليه، ويتنافسون للوصول إليه.
أيها الأحبة: إن القلوب والأبصار اليوم لترنوا إلى تلك البقاع الطاهرة، والأشواق تتأجج ، ويزداد الحنين، إنها المشاعر التي حركت المشاعر فنطق وجدان الشاعر:
أشواقنا نحو الحجاز تطلعت *** كحنين مغترب إلى الأوطان
إن الطيور وإن قصصت جناحها *** تسمو بفطرتها إلى الطيران
جاء في صحيح مسلم (166) من حديث بن عباس - رضي الله عنه - قال : سرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين مكة والمدينة ، فمررنا بوادٍ فقال أي واد هذا ، فقلنا وادي الأزرق ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : كأني انظر إلى موسى- صلى الله عليه وسلم - واضعاً أصبعيه في أذنيه له جهار إلى الله بالتلبية ماراً بهذا الوادي ، قال ثم سرنا حتى أتينا على ثنية ، فقال أي ثنية هذه ؟ فقالوا هرشا ، فقال - صلى الله عليه وسلم - كأني أنظر إلى يونس على ناقة حمرا ء ، عليه جبة صوف خطام ناقته ليف ماراًّ بهذا الوادي ملبيا).
وقال - صلى الله عليه وسلم - : لقد مر بالروحاء - وهو موقع بين مكة والمدينة - لقد مر بالروحاء سبعون نبياً، فيهم نبي الله موسى، حفاة عليهم العباءة، يؤمون بيت الله العتيق).رواه أبو يعلى (4275). صحيح الترغيب(1128).
وفي مسند أبي يعلى (5093) عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم :( كأني أنظر إلى موسى بن عمران في هذا الوادي محرما بين قطوانيتين ـ_عباءة بيضاء قصيرة الوبر-). صحيح الجامع: 4468
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم:( صلى في مسجد الخيف سبعون نبيا، منهم موسى - صلى الله عليه وسلم -، كأني أنظر إليه وعليه عباءتان قطوانيتان، وهو محرم على بعير مخطوم بخطام ليف له ضفيرتان ). الصحيحة: (2023 ).
أخي الحبيب: إنها طريق مسلوكة إلى بيت الله الحرام، سلكها قبلك كل أولئك الأنبياء، وملايين من الأبرار والصلحاء والأخيار، فهلك وُفقتَ إلى ما سلكوا، أم لا زالت الدنيا تحيط بك من كل مكان عياذا بالله.
إن الحج إلى بيت الله الحرام– معاشر الأخوة - أجره وفضله، يحرك الساكن، ويهيج المشاعر والقلوب التي تطمع في مغفرة علام الغيوب.
فعن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل؟، قال: ( إيمان بالله ورسوله " قيل: ثم ماذا؟، قال: " الجهاد في سبيل الله، قيل: ثم ماذا؟، قال: حج مبرور). رواه البخاري (26)، ومسلم (83).
وعن سهل بن سعد الساعدي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم :(ما من مسلم يلبي إلا لبى من عن يمينه أو عن شماله من حجر أو شجر أو مدر حتى تنقطع الأرض من هاهنا وهاهنا ) رواه الترمذي (828) وابن ماجه (2921) ,. صحيح الجامع: 5770 .
والحج يعدل الجهاد في سبيل الله لمن وينوب لمن لا يقدر عليه، ففي البخاري (1432) من حديث عائشة - رضي الله عنها – (قالت: قلتُ: يا رسولَ الله نرى الجهادَ أفضلَ الأعمال، أفلا نجاهد؟ قال: لكنْ أفضل الجهاد وأجملُه: حَجّ مَبْرُور، ثم لزوم الحُصر، قالت: فلا أدَعُ الحج بعدَ إذ سمعتُ هذا من رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم-).
ودعوة الحاج والمعتمر كيف لا وهم وفد الله تعالى، ففي سنن ابن ماجه (2893) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : (وفد الله ثلاثة: الغازي والحاج والمعتمر، إن دعوه أجابهم، وإن استغفروه غفر لهم). صحيح الجامع: 4171.
أسأل الله الكريم أن ييسر لنا زيارة بيته مرارا وتكرارا، وأن يقر أعيننا برؤية تلك البقاع الطاهرة.
أقول ما تسمعون ..............

((الخطبة الثانية))
أيها المسلمون: الحج فريضة عظيمة، وركن ركين من أركان الدين، لا يجوز التهاون في فعله مع القدرة عليه، قال تعالى : ( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) (97).
وقوله: (وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ العَالمِينَ)، يقول القرطبي عن هذه الآية: "هذا خرج مخرج التغليظ؛ ولهذا قال علماؤنا: تضمنت الآية أن من مات ولم يحج وهو قادر فالوعيد يتوجه عليه" .
عباد الله: لقد حث الرسول صلى الله عليه وسلم على المبادرة بالحج وعد التسويف فيه، وجاء في ذلك عدة أحاديث:
فعن ابن عباس ن النبي عليه الصلاة والسلام قَال صلى الله عليه وسلم: (تَعَجَّلُوا إِلى الحَجِّ -يَعني الفَرِيضَةَ-، فَإِنَّ أَحَدَكُم لا يَدرِي مَا يَعرِضُ لَهُ) روه أحمد (2867) وحسنه الألباني في الإرواء (990).
وعن ابن عباس وقَال عَلَيه الصَّلاة والسَّلام: "مَن أَرَادَ الحَجَّ فَلْيَتَعَجَّلْ، فَإِنَّهُ قَد يَمرَضُ المَرِيضُ وَتَضِلُّ الضَّالَّةُ وَتَعرِضُ الحَاجَةُ". رواه أحمد (1833) حديث حسن.
كما جاءت عدة أحاديث فيها التحذير من التسويف من أداء الحج مع القدرة.
- عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم :( قال الله تعالى: إن عبدا صححت له جسمه ووسعت عليه في المعيشة، يمضي عليه خمسة أعوام لا يفد إلي لمحروم ). رواه ابن حبان (3703) صحيح الجامع: 1909.
- فَعن عَليّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( من ملك زادا وراحلة تبلغه إِلَى بَيت الله الْحَرَام فَلم يحجّ فَلَا عَلَيْه أَن يَمُوت يَهُودِيّا أَو نَصْرَانِيّا، وذَلك أَن الله يَقُول {وَللَّه على النَّاس حج الْبَيْت من اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا}). رَوَاهُ التِّرْمِذِي (812) وقال حديث غريب، وللحديث شواهد تقويه. تنبيه القارئ على تقوية ما ضعفه الألباني (ص: 148).
- وصح عن أمير المؤمنين عمر أنه قال : "من أطاق الحج فلم يحج فسواء عليه مات يهوديا أو نصرانيا"، قال ابن كثير(1/474): وهذا إسناد صحيح إلى عمر.
- وجاء عن عمر بن الخطاب رضي اللهُ عنه: "لَقَد هَمَمْتُ أَن أَبعَثَ رِجَالاً إِلى هَذِهِ الأَمصَارِ، فَلْيَنظُرُوا كُلَّ مَن كَان لَهُ جِدَةٌ ولم يحُجَّ فَيَضرِبُوا عَلَيهِمُ الجِزيَةَ، ما هُم بِمُسلِمِينَ، مَا هُم بِمُسلِمِينَ", رواه سعيد بن منصور من طريق صحيحة. تلخيص الحبير (3/ 123).
- وروي عن علي رضي الله عنه فقد قال: "من ملك زادًا وراحلةً تبلغه إلى البيت ولم يحج فلا عليه أن يموت يهوديًا أو نصرانيًا".
- قال سعيد ابن جبير : " لو مات جار لي وله ميسرة ولم يحج لم أصل عليه".
إن على المسلم - بعد أن سمع كل هذه التحذيرات - أن يبادر الحج عند استطاعته، ولا يؤجل ذلك فإن للدنيا عوارض كثيرة تخشى أن تحول بينه وبين الحج.
كثير منا تجاوز العشرينَ سنةً أو الثلاثين أو الأربعين أو ربما الخمسين، وقدْ تكرَّمَ اللهُ عليه بصحةٍ في الجِسم وعافيةٍ في البدنِ وسَعةٍ في المال وأمنٍ في الوطنِ ولم يخْطر ببالِه أن يَحُجَّ بيتَ اللهِ الحرامَ، وليس في جدوله ذلك البتة، وكأن الحج لا يجب على الإنسان إلا إذا بلغ الستين وتجاوزها.
عباد الله: كيف تطيب نفس المؤمن أن يترك الحج مع قدرته عليه بماله وبدنه، وهو يعلم أنه من فرائض الإسلام وأركانه، كيف يبخل على نفسه في أداء هذه الفريضة، وهو ينفق الكثير من أمواله فيما تهواه نفسه، ويسير في طريق مشاريعه التي لا تنتهي، كيف يتراخى ويسوف ويقول: أحج العام أو بعد العام، وهو لا يدري لعله لا يستطيع الوصول إليه بعد عامه!
كم من إنسان مقتدر أتته المنية ولم يؤد فريضة الحج، فمات وهي في ذمته! ويتمنى تمني أهل القبور أن يعودوا ليؤدوا ما وجب عليهم، لكن بعد فوات الأوان.
أيها الأخوة: يوجد من إخواننا المسلمين في بقاع شتى من الأرض، من يجمعون الدرهم إلى الدرهم والدينار إلى الدينار ، يستخرجون ذلك من رواتبهم ودخلهم الشهري، يقتطعونه من أقواتهم وطعام أطفالهم، ليجمعوا ما يبلغهم إلى حج بيت الله بعد سنوات عديدة، كل مُناهم أن تكتحل أعينهم برؤية كعبة المسجد الحرام، حتى إذا جاء الموسم وأذن المؤذن بالحج ولمَّا يكتمل الجمع بعد تولَّوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنًا أن لا يجدوا ما يبلّغهم بيت الله وكعبة الله، مع أنهم معذورون بل مأجورون من الله على نياتهم، ولسان حالهم:
يا سائرين إلى البيت العتيق *** سرتم جسوما وسرنا نحن أرواحا
إنا أقمنا على عذر ومن *** أقام على عذر كمن راحا
إننا بحاجة ملحة جدا شبابا وشيبا ، رجال ونساء، إلى نعطي هذه القضبة المهمة الخطيرة جل اهتمامنا، وننشر فيما بيننا ثقافة الحرص على أداء الحج عند أول الاستطاعة، وأن نوصي بعضا بعضا على عدم التسويف والتأجيل بمبرات غير مجدية، خوفا من فوات الوقت، فإن الأرواح بيدالله تعالى ، (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِير) لقمانٌ (34).
فاتقوا الله عبادالله، أدوا فرائض الله تعالى، فإن التسويف في أمر الأركان والفراض أعظم ما يكون خطرا على دين الانسان، وعاقبة أمره.
نسأل الله تعالى أن يوفقنا لمرضاته، ويستعمل جوارحنا في طاعته، وبكفينا شر أنفسنا، إنه جواد كريم.
والحمد لله رب العالمين،،

 

 

المشاهدات 365 | التعليقات 0