خطبة الوقف وأحكامه
الشيخ منصور بن صالح الجاسر
الحمدُ للهِ له ملكُ السَّمواتِ والأرضِ، وله الحمدُ في الأولى والآخرة وهو على كلِّ شيءٍ قديرٍ، وأشهدُ أن لا إلَهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له خلَقَ السَّمواتِ والأرضَ وصوَّركم فأحسن صوركم وإليهِ المصيرُ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ صلواتُ ربِّي وسلامُهُ عليه، وعلى آلِهِ وأصحابِهِ وسَلَّم تَسليمًا كثرًا ، أمَّا بَعْدُ:
عبادَ اللهِ اتَّقوا اللهَ ، واشكرُوه على ما خَوَّلكُم مِن هذه الأموالِ واتَّخِذُوها قُربةً لكبيرِ المتعالِ، فكم تحتاجُ المسلمُ لاستمرارِ العملِ الصَّالحِ وتَنَوُّعِهِ في حياتِهِ، واستمرارِهِ بعدَ مماتِهِ، لذا نَظَّمَ الشَّارعُ الحكيمُ التَّعامُلَ مع الأموالِ في جَلْبِها وصَرْفِهَا سواءٌ في الحياةِ أو بعدَ المماتِ، وسيكونُ حديثي في هذه اللحظاتِ عن الوَقفِ. ما هُو؟ وما آثارُهُ ومَصَارِفُهُ ؟.
فالوقفُ: هو تَحِبيسُ الأصلِ وتَسبيلُ المنفعةِ، كأنْ يقولُ: البيتُ الفُلانِيُّ ، أو الأرضُ الفُلانِيَّةُ يكونُ رِيعُها على الأعمالِ الْخَيرِيَّةِ، أو يُحدِّدُها كأنْ تَكونَ للمسجدِ، أو الفْقرَاءِ أو الْمَشارِيعِ الخيريةِ.
والأصلُ في مشرُوعِيَّتِهِ مِن السُّنَّةِ ما وَرَدَ في الصَّحِيحَينِ أنَّ ابنَ عُمرَ قالَ يا رسولَ اللهِ: "أصبتُ مالًا لي لم أُصِبْ قَطُّ أنفسَ عندِي مِنهُ. ماذا تأمُرُني؟. قال ﷺ "إنْ شئتَ حَبَّسْتَ أَصْلَها، وتَصَدَّقتَ بِها غَيرَ أنَّهُ لا يُباعُ أصلُها، ولا يُوهُبُ، ولا يُورَثُ" .
وقالَ ﷺ : "إذا ماتَ ابنُ آدمَ انقَطعَ عملُهُ إلا مِن ثلاثٍ : صدقةٍ جاريةٍ ، أو عِلمٍ يُنتَفَعُ به، أو ولدٍ صالحٍ يدعُو لَهُ".
حَضَرَاتِ الْمُسْتَمِعِين : الوقفُ مما اختَصَّ به المسلمون، قالَ جابرٌ رضي الله عنه "لَمْ يكنْ أحدٌ مِن أصحابِ النَّبيِّ ﷺ إلا وأَوْقَفَ، وهذا خِلافُ ما عليه النَّاسُ أنَّهم لا يعرفون إلا الوَصِيَّةَ" سُئِلَ النَّبيُّ ﷺ، أيُّ الصَّدقاتِ أَفضَلُ؟ قال: "أنْ تتصدَّقَ وأنتَ صحيحٌ حريصٌ، تأملُ الغنَى، وتخشَى الفقرَ، ولا تُهمِلْ حتَّى إذا بلغتِ الْحُلقومَ، قلتَ: لفُلانٍ كذا، ولُفلانٍ كذا، وقد كان لفُلانٍ ".
أيُّها المؤمنون: ويلزمُ الوقفُ إذا نطَقَ ونَوَى كأنْ يقولُ: أُوقِفُ الأرضَ الفُلانِيَّةَ، ويكونُ وَقفٌ للعقارِ كـ (الأراضِي، والدُّورِ) يكونُ الوقفُ في منفعةٍ واجبةٍ أو مُستحبةٍ أو مُباحةٍ، وهناك بعضُ التنبيهاتِ على الوقفِ:
إذا تَمَّ الوقفُ لا يجوزُ بيعُهُ إلا أنْ يكونَ هناك مصلحةٌ شَرعِيَّةٌ تكونُ أنفعَ وذلِك بالرُّجوعِ للقاضِي، أو أهلِ العِلمِ ومما يُنَبَّهُ عليه: أنَّ هُناك أناسًا عندهم أوقافٌ لغيرِهم، ثم يَصرفُونَها بمصارِفَ غيرِ شَرعِيَّةِ، فليتَّقُوا اللهَ وليعلمُوا أنَّها أمانةٌ يُسْألونَ عنها (( إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا )) .
مَعشرَ المسلمين : مِن التَّنبيهاتِ جَعْلُ نَاظِرٍ للوقفِ ويُحَدَّدُ له جِهَاتُ الصَّرْفِ ، وكذلك التَّحديدُ الدُّقِيقُ للعَقَارِ، فيُذكَرُ وصفٌ دقيقٌ لما أوقَفَهُ أو تَحدِيدُه بِرَقَمٍ
يَا مَن تُريدُ الوقفَ: لابُدَّ أنْ يكونَ زائدًا عَن حاجتِك وحاجَةِ أولادِك، قالَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: "إنَّك إنْ تذرَ أولادَك أغنياءَ، خيرٌ لك مِن أنْ تَجعَلَهم عالةً يَتَكفَّفُون النَّاسَ" ، ولا بأسَ أنْ يأخُذَ مِن غَلَّتهِ إذا احتاجَ.
عبادَ اللهِ: يا مَن وسَّع اللهُ عليهم قدِّمُوا لأنفُسِكُم وتَزوَّدُوا بالطَّاعاتِ، وأكثروا مِن القُرباتِ واحفظُوا أموَالَكُم العَيْنِيَّةَ ما يَبْقَى لكم ويَستَمِرُّ نفْعُهُ قبلَ أنْ يَأتِيَكُم هادمُ اللَّذَّاتِ، ويُنْسَى ذِكْرُكم ويَبْقَى عَمَلُكم الْخَيْرِيُّ، فكَمْ مِن مسجدٍ وجمعياتٍ خيريَّةٍ وحَلَقَاتٍ للقُرآنِ بقيتْ بِمِثلِ هذِهِ الأوقَافِ.
عبادَ اللهِ: أمَّا الوصِيَّةُ، فهي التَّصَرُّفُ بعدَ الموتِ والأصْلُ فيها قولُهُ: (( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ )) .
وأما السُّنَّةُ قولُهُ ﷺ : "ما حَقُّ امرئٍ مُسلِمٍ يَبيتُ ليلةً أو ليلتين إلا وصِيَّتُهُ مكتوبةٌ عندَ رَأْسِهِ" .
وأَذِنَ الشَّارِعُ في التَّصَرُّفِ بثُلُثِ المالِ في الوَصِيَّةِ وإنَ كانَ كثيرًا وتكونُ الوَصِيَّةُ بالقولِ: "كأُوصِي بكَذا وَكَذَا". أو بالكِتَابَةِ ويُسَنُّ الإشْهَادُ بالوَصِيَّةِ.
عبادَ اللهِ وتكونُ الوَصِيَّةُ واجبةٌ فِمَن يكونُ عليه دَيْنٌ أو في ذِمَّتِهِ حُقُوقٌ للنَّاسِ، أو أَمَانَاتٌ، فتَجِبُ الوَصِيَّةُ، وأمَّا القِسْمُ الثَّانِي مِن الوَصِيَّةِ : فَهُو الْمَسْنُونُ بالثُّلُثِ ، أو أَقَلَّ لغيرِ الوَارِثِ.
مَعشَرِ المسلمين : وإليكم بعضَ التَّنْبِيهاتِ الْمُتعلِّقَةِ بالْوَصِيَّةِ :
أولاً : لا تَجُوزُ الوَصِيَّةُ لوَارِثٍ ، لقولِهِ: "لا وَصِيَّةَ لوَارثٍ"، وفي الحديثِ "وإنَّ الرَّجلَ ليَعْمَلُ والمرأَةُ بِطاعَةِ اللهِ سِتِّين سَنةً، ثم يَحضُرُهم الموتُ فَيُضَارَّانِ بالوَصِيَّةِ فتَجِبُ لهم النَّارُ" .
ثانيًا : لا تصحُّ الزيادَةُ عن الثُّلثِ في الوَصِيَّةِ ، قالَ ﷺ : "الثُلثُ، والثُّلثُ كثيرٌ" .
ثالثًا : لا تَصحُّ الوَصيةُ في الأمُورِ المحرمةِ أو الْمُبتَدَعَةِ .
رابعًا : أنْ يُوصِي أهلَهُ بتقوى اللهِ، والصَّلاةِ ، والعملِ الصَّالحِ.
أيُّها المؤمنون: يَظُنُّ بعضُ النَّاسِ أنَّهُ إذا كَتبَ وصِيتَهَ دلَّ ذلك على دُنُوِّ أجلِهِ ، وهذا جُبْنٌ وخَوَرٌ لنْ تَمُوتَ نفسٌ حتَّى تستوفيَ أجَلُها، وليَضَعْ الْمُوصِي وَصِيًّا على الوَصِيَّةِ حتَّى لا تَضِيعَ.
أقولُ ما تسمعون، وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم، فاستغفرُوه إنَّهُ هو الغفورُ الرَّحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ والصَّلاةُ والسَّلامُ على رسولِ اللهِ وعلى آلِهِ وأصحابِهِ، ومَن اهتَدَى بِهَدْيِهِ واقتَفَى أَثَرَهُ إلى يومِ الدِّينِ، أمَّا بَعْدُ:
يسألُ بعضُ النَّاسِ ما الفَرقُ بين الوَصِيَّةِ والوَقْفِ ؟
الوَقْفُ: تَحْبِيسُ الأصل وتسبيلُ المنفعةِ.
أمَّا الوَصِيَّةُ: فهي مُلْكٌ يُضَافُ بعدَ الموتِ شرعًا.
ومِن الفُرُوقِ أيضًا : أنَّ الوقْفَ لا حَدَّ لأكثرِهِ ، أما الوَصِيَّةُ حَدُّها الثُّلُثُ.
عبادَ اللهِ: والأفضَلُ في الوَقْفِ والوَصِيَّةِ أنْ تَجعَلَ المصَارِفَ عَامَّةً علَى مَشارِيعِ الْخَيرِ، لأنَّهُ قد تُسْتَجَدُّ أُمورٌ لم تَكنْ في حياةِ الْمُوصِي.
عبادَ اللهِ: قَدِّمُوا لأنفسِكُم واشتَرُوا الآخرةَ بالدُّنيا، واتَّقُوا النَّارَ ولو بِشِقِّ تَمْرَةِ فقد تَكُونُ في ظُلُمَاتِ القَبْرِ وتَكْفِيكَ صَدَقَةٌ فَيُفَرِّجُ اللهُ عنك بِها ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَموَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ)) ، وقولُهُ سبحانَهُ ((مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ )) .
ثم صَلَّوا وسَلِّمُوا علَى خَيْرِ البَشَرِ مُحمَّدٍ بنِ عبدِ اللهِ الرَّحمةِ الْمُهدَاةِ والنِّعمَةِ الْمُسْدَاةِ. اللَّهمَّ صلِّ وسلِّمْ على عبدِكَ ورَسُولِكَ محمَّدٍ وارْضَ اللَّهمَّ عن الخلفَاءِ الأربعَةِ أبي بكرٍ الصِّدِّيقِ وعُمرَ الفَارُوقِ وعُثْمانَ ذِي النُّورَيْنِ وعلِيِّ أبِي السِّبْطَينِ، وَعَنَّا معهم بفضلِكَ وجودِكَ يا ذا الجلالِ والإكرامِ.
اللَّهم أعصمنا مِن الفتنِ ما ظَهرَ منها وما بَطنَ. اللَّهمَّ أصلِحْ أحوالَنا. اللَّهمَّ وفِّقْنَا لِمَا تُحِبُّ وتَرضَى. اللَّهمَّ أَصْلِحْ قُلوبَنَا. اللَّهمَّ سَدِّدْ آرَاءنا وأَعمَالَنا يا ذا الجلالِ والإكرامِ. اللَّهمَّ اجْعَلْ خيرَ أّيَّامِنا يومَ أَنْ نَلْقَاكَ، وخَيرَ أيَّامِنا أخِرهَا يا ذا الجلالِ والإكرامِ. اللَّهمَّ اختِمْ بالصَّالحاتِ آجَالَنا وبالسَّعادَةِ أَعْمَالنَا يا ذا الجلالِ والإكرامِ، اللَّهمَّ اختِمْ حَيَاتَنا بالتَّوحِيدِ، واجْعلْ آخِرَ كلامِنَا مِن الدُّنيَا لا إله إلا الله يا ذا الجلالِ والإكرامِ، اللَّهمَّ تَوَفَّنا وأَنْتَ راضٍ عَنَّا. اللَّهمَّ إنَّا نَسْألُكَ خَشيَة في الغَيبِ والشَّهَادَةِ، وكلِمَةَ الْحَقٌ في الغَضَبِ والرِّضَا يا ذا الجلالِ والإكرامِ يا حيُّ يا قَيُّومُ .
اللَّهمَّ إنَّا نَعُوذُ بِكَ مِن قلبٍ لا يَخْشعُ، ومِنْ عَينٍ لا تَدْمَعْ، ومِن نَفْسً لا تَشْبعْ ومِن دَعوةٍ لا تُسمَعْ، ونَعوذُ بِكَ اللَّهمَّ مِن هُؤُلاء الأربَعِ.
(( سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ )) ، وصَلَّى اللهُ وسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ
عِبادَ اللهِ: (( إنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإْحَسانِ وَإيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ )) . فاذْكُرُوا اللهَ الْجَلِيلَ يَذْكُرْكُم، واشْكُرُوهُ على نِعَمِهِ يَزِدْكُم، ولَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ واللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ
المرفقات
1767193138_خطبة الوقف وأحكامه.docx
1767193147_خطبة الوقف وأحكامه.pdf