خطبة : ( الوطنية شعور أم شعار )
عبدالله البصري
1435/11/24 - 2014/09/19 04:56AM
الوطنية شعور أم شعار 24 / 11 / 1435
الخطبة الأولى :
أَمَّا بَعدُ ، فَـ" يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم وَالَّذِينَ مِن قَبلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ " " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ "
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، كَم هُوَ الفَرقُ بَينَ أَن تُطعِمَ جَائِعًا أَو تَكسُوَ عَارِيًا ، أَو تَقضِيَ حَاجَةَ مُحتَاجٍ أَو تُنَفِّسَ كُربَةَ مَكرُوبٍ ، وَبَينَ أَن تُريَهُم أُنَاسًا يَأكُلُونَ أَلَذَّ الطَّعَامَ أَو يَلبَسُونَ أَفخَرَ الثِّيَابِ ، أَو تَحكِيَ لَهُم قِصَّةَ نَجَاحِ شَخصٍ قُضِيَت حَاجَتُهُ أَو نُفِّسَت كُربَتُهُ ، إِنَّكَ إِن تُطعِمِ الجَائِعَ وَلَو لُقمَةً صَغِيرَةً ، أَو تُلبِسِ العَارِيَ وَلَو ثَوبًا خَلَقًا ، أَو تُسَاهِمْ في قَضَاءِ حَاجَةِ المُحتَاجِ وَلَو بِقَلِيلٍ ، أَو تَبذُلْ وَلَو يَسِيرًا لِتَنفِيسِ كَربِ المَكرُوبِ ، تَنَلْ بِذَلِكَ مِنَ النَّاسِ الشُّكرَ وَالحَمدَ وَالذِّكرَ الحَسَنَ ، وَتَجِدْ عِندَ اللهِ أَعظَمَ الجَزَاءِ وَأَوفَرَ الثَّوَابِ ، وَأَمَّا إِن كَانَ جُهدُكَ وَسَعيُكَ مَقصُورًا عَلَى أَن تُرِيَ الجَائِعَ وَالعَارِيَ أُنَاسًا يَأكُلُونَ وَآخَرِينَ مُكتَسِينَ ، أَو تَقُصَّ عَلَى المُحتَاجِ وَالمَكرُوبِ قِصَصَ أَقوَامٍ مُنَعَّمِينَ ، فَإِنَّ كُلاًّ مِنهُم سَيَشعُرُ حِينَئِذٍ أَنَّكَ إِنَّمَا تَستَهزِئُ بِهِ وَتَسخَرُ مِنهُ ، أَو أَنَّكَ كَذُوبٌ مُرَاوِغٌ تَتَشَبَّعُ بما لم تُعطَ ، أَو أَنَّكَ عَاجِزٌ لا حِيلَةَ في يَدِكَ ، وَلَن تَنَالَ إِذْ ذَاكَ مِنَ النَّاسِ إِلاَّ الذَّمَّ وَالمَقتَ ، وَكُرهَ مَا تَفعَلُ وَاحتِقَارَهُ ، وَلَن تَجِدَ عِندَ رَبِّكَ إِلاَّ عُقُوبَةَ الكَاذِبِينَ وَجَزَاءَ المُنَافِقِينَ وَعَاقِبَةَ المُستَهزِئِينَ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " لَا تَحسَبَنَّ الَّذِينَ يَفرَحُونَ بما أَتَوا وَيُحِبُّونَ أَن يُحمَدُوا بما لم يَفعَلُوا فَلَا تَحسَبَنَّهُم بِمَفَازَةٍ مِنَ العَذَابِ وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ "
يُقَالُ مِثلُ هَذَا الكَلامِ ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ لِمَا يَرَاهُ العَاقِلُ في عَالَمِنَا اليَومَ ، مِن كَثرَةِ الادِّعَاءَاتِ الكَاذِبَةِ ، وَالتَّلوِيحِ بِالشِّعَارَاتِ البَرَّاقَةِ الخَادِعَةِ ، مِن أُنَاسٍ تَتَمَدَّحُ بما لم تَعمَلْ ، وَلا تَستَحيِي أَن تَقُولَ ما لا تَفعَلُ ، وَإِذَا هِيَ بَلَغَت في جُهدِهَا أَن تُلقِيَ الكَلِمَاتِ الرَّنَّانَةَ ، أَو تَكتُبَ العِبَارَاتِ الجَمِيلَةَ ، أَو تُقِيمَ الحَفَلاتِ المُتَكَلَّفَ عَلَيهَا أَو تُنَظِّمَ الأَعيَادَ المُبتَدَعَةَ ، ظَنَّت أَنَّهَا بِهَذَا قَد بَلَغَت في التَّقَدُّمِ وَالمَدَنِيَّةِ شَأنًا عَظِيمًا ، أَو أَنَّهَا غَيَّرَت وَاقِعًا أَلِيمًا ، أَو خَدَمَت بِلادَهَا وَمُجتَمَعَاتِهَا وجَاءَت من الحَضَارةِ بما لم يَأتِ بِهِ الأَوَائِلُ ، وَمَا عَلِمَت أَنَّهَا إِنَّمَا تَفعَلُ بِذَلِكَ في بُلدَانِهَا وَمُجتَمَعَاتِهَا فِعلَ المُخَدِّرِ في عَقلِ مُتَعَاطِيهِ ، إِذْ يَغِيبُ بِهِ عَن وَاقِعِهِ وَلَو كَانَ مُرًّا ، وَيَصعَدُ بِهِ إِلى جُوٍّ مِنَ الفَرَحِ المَصنُوعِ وَالنَّشوَةِ الكَاذِبَةِ ، الَّتِي لا يَستَطِيعُ التَّخَلُّصَ مِن آثَارِهَا السَّيِّئَةِ فِيمَا بَعدُ ، إِلاَّ بِالعَودَةِ إِلى تَعَاطِي ذَلِكَ المُخَدِّرِ مَرَّةً أُخرَى وَثَانِيَةً وَثَالِثَةً ، إِلى أَن يَأتِيَهُ أَجَلُهُ أَو يُدرِكُهُ عَدُوُّهُ ، وَهُوَ لم يُحَصِّلْ حَمدًا وَلم يَسلَمْ مِن ذَمٍّ .
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، كَم هِيَ الشِّعَارَاتُ البَرَّاقَةُ الَّتي تُرفَعُ في عَصرِنَا الحَاضِرِ ، وَيَحمِلُهَا كَثِيرُونَ وَيَتَبَاهَونَ بِحَملِهَا ، سَوَاءٌ في الخَارِجِ أَوِ الدَّاخِلِ ، بَعِيدًا عَنَّا وَقَرِيبًا مِنَّا ، وَمِن أَعدَائِنَا وَمِن بَنِي جِلدَتِنَا ، في حِينِ أَنَّ تِلكَ الشِّعَارَاتِ لا حَظَّ لَهَا مِنَ الصِّدقِ في نَفسِهَا ، وَمِن ثَمَّ فَلا يُستَنكَرُ أَن أَذهَبَ اللهُ مِن قُلُوبِ النَّاسِ تَقدِيرَ أَصحَابِهَا ، بَل وَنَزَعَ مَهَابَتَهُم مِنَ الصُّدُورِ وَلم يُقِمِ النَّاسُ لَهُم وَزنًا ، حَتى وَإِن كَانُوا مِنَ الأَكَابِرِ أَوِ العُظَمَاءِ ، أَوِ المُلُوكِ وَالرُّؤَسَاءِ ، أَوِ الهَيئَاتِ أَوِ المُنَظَّمَاتِ ، وَهَذَا هُوَ الجَزَاءُ الطَبِيعِيُّ لعَدَمِ الصِّدقِ مَعَ اللهِ ثُمَّ مَعَ الآخَرِينَ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَلَو صَدَقُوا اللهَ لَكَانَ خَيرًا لَهُم "
أَجَلْ ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ إِنَّ عَدَمَ الصِّدقِ في الادِّعَاءِ ، قَد جَعَلَ لِلمُدَّعِينَ في قُلُوبِ النَّاسِ بُغضًا لَهُم وَنُفرَةً مِنهُم ، وَمَلَلاً مِمَّا يَأتُونَ بِهِ وَيُقَدِّمُونَهُ ، غَيرَ أَنَّ الغَرِيبَ حَقًّا ، أَنَّهُ مَا زَالَ في الأُمَّةِ المُؤمِنَةِ وَالمُجتَمَعَاتِ المُسلِمَةِ ، مَن بَقِيَ يَعِيشُ في الوَهمِ وَيُصَدِّقُ الأَكَاذِيبَ ، مُضَيِّعًا وَقتَهُ وَعُمرَهُ في طَردِ السَّرَابِ ، وَمَا عَلِمَ أَنَّهُ بِانجِرَافِهِ وَرَاءَ كُلِّ نَاعِقٍ وَانقِيادِهِ لِكُلِّ نَابِحٍ ، وَتَقَرُّبِهِ لِكُلِّ مُبغِضٍ شَانِئٍ وَعَدُوٍّ مُشَاحِنٍ ، يُذهِبُ في كُلِّ يَومٍ مِن دِينِهِ جُزءًا ، وَيَفقِدُ مِن مَبَادِئَهِ نَصِيبًا ، وَيَنحَرِفُ عَن صِرَاطِ اللهِ المُستَقِيمِ شَيئًا فَشَيئًا ، وَلَقَد كَانَ يَكفِى الأُمَّةَ أَفرَادًا وَمُجتَمَعَاتٍ ، أَنَّهَا مَا زَالَت مُنذُ أَكثَرَ مِن سِتِّينَ عَامًا أَو يَزِيدُ ، مَحَطَّةَ تَجَارِبَ فَاسِدَةٍ ، وَمَمَرًّا لِمَنَاهِجَ غَرِيبَةٍ عَنهَا ، وَمُستَودَعَ شِعَارَاتٍ نَشَازٍ وَمَدَارِسَ فِكرِيَّةٍ ضَالَّةٍ ، وَهَدَفًا لِقَومِيَّاتٍ ضَيِّقَةٍ وَوَطَنِيَّاتٍ مَحدُودَةٍ ، وَحِزبِيَّاتٍ آسِنَةٍ وَعُنصُرِيَّاتٍ نَتِنَةٍ ، غَايَتُهَا نَبذُ الدِّينِ القَوِيمِ وَحَربُهُ وَإِقصَاؤُهُ ، وَتَنحِيَتُهُ مِنَ الحَيَاةِ العَامَّةِ وَالقَضَاءُ عَلَيهِ ، بَل وَالاعتِدَاءُ عَلَى المُقَدَّرَاتِ وَنَهبُ الخَيرَاتِ .
كَم هِيَ الأَعيَادُ القَومِيَّةُ وَالأَيَّامُ الوَطنِيَّةُ التي تُقَامُ في دِيَارِ المُسلِمِينَ عَامَّةً وَفي بُلدَانِ العَرَبِ خَاصَّةً ، وَهِيَ وَأَصحَابُهَا وَالدَّاعُونَ إِلَيهَا وَالمُتَابِعُونَ لها ، أَبعَدُ مَا يَكُونُ عَن رُوحِ القُومِيَّةِ الحَقِيقِيَّةِ وَالوَطَنِيَّةِ الصَّادِقَةِ ، إِذْ تُختَزَلُ القَومِيَّةُ وَالوَطَنِيَّةُ في يَومٍ بِعَينِهِ أَو أُسبُوعٍ فَحَسبُ ، مُقتَصَرًا فِيهِمَا عَلَى مَظَاهِرَ جَوفَاءَ وَشِعَارَاتٍ خَرقَاءَ ، ثُمَّ يُنطَلَقُ بَعدَهَا لِلإِفسَادِ في الأَرضِ أَو خِيَانَةِ الأَوطَانِ ، أَو طَعنِ المُجتَمَعَاتِ وَإِهَانَةِ بَنِي الإِنسَانِ ، وَلَو كَانَت ثَمَّةَ وَطَنِيَّةٌ صَادِقَةٌ وَقَومِيَّةٌ حَقِيقِيَّةٌ ، لَكَانَت مَنهَجَ إِصلاحٍ شَامِلٍ ، وَرِحلَةَ عُمُرٍ فَاضِلٍ ، يَبنِي صَاحِبُهَا وَلا يَهدِمُ ، وَيُصلِحُ وَلا يُفسِدُ ، وَيُعطِي قَبلَ أَن يَأخُذَ ، وَيُؤثِرُ وَلا يَطمَعُ ، وَيَعدِلُ وَلا يَظلِمُ ، وَأَمَّا مَن هُوَ مُهدِرٌ لِمُقَدَّرَاتِ بَلَدِهِ ، أَو خَائِنٌ لأَمَانَتِهِ ، أَو مُفَرِّطٌ في مَسؤُولِيَّتِهِ ، أَو تَارِكٌ كَثِيرًا مِمَّا يَلزَمُهُ فِعلُهُ ، أَو مُقَدِّمٌ مَصلَحَةً خَاصَّةً عَلَى المَصَالِحِ العَامَّةِ ، فَمَا عَرَفَ القَومِيَّةَ وَلا لَبِسَ ثِيَابَ الوَطَنِيَّةِ ، فَكَيفَ بِمَن هُوَ وَرَاءَ ذَلِكَ يُحَارِبُ الدِّينَ القَوِيمَ ، وَيَنتَزِعُ مِنَ القُلُوبِ صِالِحَ القِيَمِ ، وَيُجلِبُ عَلَى النَّاسِ بِنِيرَانِ الشُّبُهَاتِ وَيَجرِفُهُم إِلى مُستَنقَعَاتِ الشَّهَوَاتِ ، وَيُرِيدُ الانتِقَالَ بِهِم مِن حَيَاةِ العَدلِ وَالإِحسَانِ وَالطُّهرِ وَالعَفَافِ وَالصِّدقِ وَالأَمَانَةِ وَكُلِّ خُلُقٍ حَسَنٍ ، إِلى بَهِيمِيَّةِ الكُفَّارِ وَفَحشَائِهِم وَمُنكَرِهِم وَبَغيِهِم ، وَأَخلاقِهِم السَّيِّئَةِ وَعَادَاتِهِمُ القَبِيحَةِ .
أَلا فَلْنَتَّقِ اللهَ ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ وَلْنَكُنْ مَعَ الصَّادِقِينَ ، وَلا نَغتَرَّنَّ بِبَهَارِجِ الهَالِكِينَ ، فَإِنَّمَا الفَلاحُ لِمَن أَحسَنَ القَولَ ثُمَّ بَرَّ وَصَدَقَ ، وَاستَقَامَ عَلَى الإِيمَانِ وَالعَمَلِ الصَّالِحِ وَأَحسَنَ وَثَبَتَ ، وَدَعَا النَّاسَ إِلى سَبِيلِ رَبِّهِم وَجَمَعَ عَلى الإِسلامِ كَلِمَتَهُم ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ استَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيهِمُ المَلَائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحزَنُوا وَأَبشِرُوا بِالجَنَّةِ الَّتي كُنتُم تُوعَدُونَ . نَحنُ أَولِيَاؤُكُم في الحَيَاةِ الدُّنيَا وَفي الآخِرَةِ وَلَكُم فِيهَا مَا تَشتَهِي أَنفُسُكُم وَلَكُم فِيهَا مَا تَدَّعُونَ . نُزُلاً مِن غَفُورٍ رَحِيمٍ . وَمَن أَحسَنُ قَولاً مِمَّن دَعَا إِلى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّني مِنَ المُسلِمِينَ "
الخطبة الثانية :
أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ ، وَاعلَمُوا أَنَّ حُبَّ المَرءِ وَطَنَهُ وَمَيلَهُ إِلى قَومِهِ وَبَني جِنسِهِ ، فِطرَةٌ مَغرُوسَةٌ في قَلبِهِ وَنَفسِهِ ، لا يَحتَاجُ إِلى أَن يَتَعَاهَدَهَا غَيرُهُ أَو يُنَمِّيَهَا ، أَو يَجعَلَ مَقَايِيسَ أَو مَعَايِيرَ مُختَرَعَةً لإِثبَاتِ وُجُودِهَا أَو عَدَمِهَا ، وَأَمَا مَا يُسَمَّى بِالأَعيَادِ القَومِيَّةِ وَالأَيَّامِ الوَطَنِيَّةِ ، فَإِنَّمَا هِيَ شَيءٌ احتَاجَت إِلَيهِ بَعضُ الحُكُومَاتِ الظَّالِمَةِ ، وَخَاصَّةً في البِلادِ الكَافِرَةِ وَالأَنظِمَةِ الغَاشِمَةِ ، فَجَعَلَتهُ لِلتَّلبِيسِ عَلَى مَن ظَلَمَتهُم وَهَضَمَتهُم ، وَخِدَاعِ مَن أَكَلَت حُقُوقَهُم وَاحتَقَرَتهُم ، وَأَمَّا بِلادُ المُسلِمِينَ وَأَئِمَّتُهُم ، فَلَيسُوا بِحَاجَةٍ إِلى مِثلِ هَذِهِ البِدَعِ ، إِذْ إِنَّ حُبَّ المُسلِمِينَ لِدِيَارِهِم ، وَطَاعَةَ الرَّعِيَّةِ لِقَادَتِهِم ، وَامتِثَالَ أَمرِهِم وَتَوقِيرَهُم ، وَلُزُومَ الجَمَاعَةِ مَعَهُم وَعَدَمَ الخُرُوجِ عَلَيهِم ، كُلُّ أُولَئِكَ دِينٌ يَدِينُ المُسلِمُونَ بِهِ رَبَّهُم ، وَيَفعَلُونَهُ طَلَبًا لِمَا عِندَهُ وَدَفعًا لِلشُّرُورِ وَدَرءًا لِلفِتَنِ ، مُمتَثِلِينَ قَولَ رَبِّهِم ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمرِ مِنكُم " وَقَولَ نَبِيِّهِم ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ في الحَدِيثِ المُتَّفَقِ عَلَيهِ : " مَن أَطَاعَني فَقَد أَطَاعَ اللهَ ، وَمَن عَصَاني فَقَد عَصَى اللهَ ، وَمَن يُطِعِ الأَمِيرَ فَقَد أَطَاعَني ، وَمَن يَعصِ الأَمِيرَ فَقَد عَصَاني " وَقَولَهُ فِيمَا رَوَاهُ البُخَارِيُّ : " السَّمعُ وَالطَّاعَةُ عَلَى المَرءِ المُسلِمِ فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ ، مَا لم يُؤمَرْ بِمَعصِيَةٍ ، فَإِذَا أُمِرَ بِمَعصِيَةٍ فَلا سَمَعَ وَلا طَاعَةَ " أَلا فَلْنَتَّقِ اللهَ ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ وَلْنَحفَظْ أَمنَ أَوطَانِنَا وَاطمِئنَانَهَا ، بِالإِيمَانِ بِاللهِ وَرَسُولِهِ ، وَشُكرِ النِّعمَةِ وَحِفظِهَا ، وَالتَّنَاصُحِ فِيمَا بَينَنَا وَالأَمرِ بِالمَعرُوفِ وَالنَّهيِ عَنِ المُنكَرِ ، وَلْنُظهِرْ شَعَائِرَ دِينِنَا وَلْنُحَافِظْ عَلَيهَا ، فَإِنَّهُ مَا حُفِظَتِ البُلدَانُ بِمِثلِ هَذَا ، وَلا حَلَّت بها النِّقَمُ إِلاَّ بِضِدِّهِ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " الَّذِينَ آمَنُوا وَلم يَلبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمنُ وَهُم مُهتَدُون " وَقَالَ ـ جَلَّ وَعَلا ـ : " وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ . الَّذِينَ إِن مَكَّنَّاهُم في الأَرضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالمَعرُوفِ وَنَهَوا عَنِ المُنكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ " وَقَالَ ـ تَعَالى ـ : " وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَريَةً كَانَت آمِنَةً مُطمَئِنَّةً يَأتِيهَا رِزقُهَا رَغَدًا مِن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَت بِأَنعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الجُوعِ وَالخَوفِ بما كَانُوا يَصنَعُونَ . وَلَقَد جَاءَهُم رَسُولٌ مِنهُم فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ العَذَابُ وَهُم ظَالِمُونَ . فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلَالاً طَيِّبًا وَاشكُرُوا نِعمَةَ اللهِ إِن كُنتُم إِيَّاهُ تَعبُدُونَ " وَقَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " كَدَأبِ آلِ فِرعَونَ وَالَّذِينَ مِن قَبلِهِم كَفَرُوا بِآيَاتِ اللهِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِم إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ العِقَابِ . ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لم يَكُ مُغَيِّرًا نِعمَةً أَنعَمَهَا عَلَى قَومٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ . كَدَأبِ آلِ فِرعَونَ وَالَّذِينَ مِن قَبلِهِم كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِم فَأَهلَكنَاهُم بِذُنُوبِهِم وَأَغرَقنَا آلَ فِرعَونَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ "
الخطبة الأولى :
أَمَّا بَعدُ ، فَـ" يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم وَالَّذِينَ مِن قَبلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ " " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ "
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، كَم هُوَ الفَرقُ بَينَ أَن تُطعِمَ جَائِعًا أَو تَكسُوَ عَارِيًا ، أَو تَقضِيَ حَاجَةَ مُحتَاجٍ أَو تُنَفِّسَ كُربَةَ مَكرُوبٍ ، وَبَينَ أَن تُريَهُم أُنَاسًا يَأكُلُونَ أَلَذَّ الطَّعَامَ أَو يَلبَسُونَ أَفخَرَ الثِّيَابِ ، أَو تَحكِيَ لَهُم قِصَّةَ نَجَاحِ شَخصٍ قُضِيَت حَاجَتُهُ أَو نُفِّسَت كُربَتُهُ ، إِنَّكَ إِن تُطعِمِ الجَائِعَ وَلَو لُقمَةً صَغِيرَةً ، أَو تُلبِسِ العَارِيَ وَلَو ثَوبًا خَلَقًا ، أَو تُسَاهِمْ في قَضَاءِ حَاجَةِ المُحتَاجِ وَلَو بِقَلِيلٍ ، أَو تَبذُلْ وَلَو يَسِيرًا لِتَنفِيسِ كَربِ المَكرُوبِ ، تَنَلْ بِذَلِكَ مِنَ النَّاسِ الشُّكرَ وَالحَمدَ وَالذِّكرَ الحَسَنَ ، وَتَجِدْ عِندَ اللهِ أَعظَمَ الجَزَاءِ وَأَوفَرَ الثَّوَابِ ، وَأَمَّا إِن كَانَ جُهدُكَ وَسَعيُكَ مَقصُورًا عَلَى أَن تُرِيَ الجَائِعَ وَالعَارِيَ أُنَاسًا يَأكُلُونَ وَآخَرِينَ مُكتَسِينَ ، أَو تَقُصَّ عَلَى المُحتَاجِ وَالمَكرُوبِ قِصَصَ أَقوَامٍ مُنَعَّمِينَ ، فَإِنَّ كُلاًّ مِنهُم سَيَشعُرُ حِينَئِذٍ أَنَّكَ إِنَّمَا تَستَهزِئُ بِهِ وَتَسخَرُ مِنهُ ، أَو أَنَّكَ كَذُوبٌ مُرَاوِغٌ تَتَشَبَّعُ بما لم تُعطَ ، أَو أَنَّكَ عَاجِزٌ لا حِيلَةَ في يَدِكَ ، وَلَن تَنَالَ إِذْ ذَاكَ مِنَ النَّاسِ إِلاَّ الذَّمَّ وَالمَقتَ ، وَكُرهَ مَا تَفعَلُ وَاحتِقَارَهُ ، وَلَن تَجِدَ عِندَ رَبِّكَ إِلاَّ عُقُوبَةَ الكَاذِبِينَ وَجَزَاءَ المُنَافِقِينَ وَعَاقِبَةَ المُستَهزِئِينَ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " لَا تَحسَبَنَّ الَّذِينَ يَفرَحُونَ بما أَتَوا وَيُحِبُّونَ أَن يُحمَدُوا بما لم يَفعَلُوا فَلَا تَحسَبَنَّهُم بِمَفَازَةٍ مِنَ العَذَابِ وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ "
يُقَالُ مِثلُ هَذَا الكَلامِ ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ لِمَا يَرَاهُ العَاقِلُ في عَالَمِنَا اليَومَ ، مِن كَثرَةِ الادِّعَاءَاتِ الكَاذِبَةِ ، وَالتَّلوِيحِ بِالشِّعَارَاتِ البَرَّاقَةِ الخَادِعَةِ ، مِن أُنَاسٍ تَتَمَدَّحُ بما لم تَعمَلْ ، وَلا تَستَحيِي أَن تَقُولَ ما لا تَفعَلُ ، وَإِذَا هِيَ بَلَغَت في جُهدِهَا أَن تُلقِيَ الكَلِمَاتِ الرَّنَّانَةَ ، أَو تَكتُبَ العِبَارَاتِ الجَمِيلَةَ ، أَو تُقِيمَ الحَفَلاتِ المُتَكَلَّفَ عَلَيهَا أَو تُنَظِّمَ الأَعيَادَ المُبتَدَعَةَ ، ظَنَّت أَنَّهَا بِهَذَا قَد بَلَغَت في التَّقَدُّمِ وَالمَدَنِيَّةِ شَأنًا عَظِيمًا ، أَو أَنَّهَا غَيَّرَت وَاقِعًا أَلِيمًا ، أَو خَدَمَت بِلادَهَا وَمُجتَمَعَاتِهَا وجَاءَت من الحَضَارةِ بما لم يَأتِ بِهِ الأَوَائِلُ ، وَمَا عَلِمَت أَنَّهَا إِنَّمَا تَفعَلُ بِذَلِكَ في بُلدَانِهَا وَمُجتَمَعَاتِهَا فِعلَ المُخَدِّرِ في عَقلِ مُتَعَاطِيهِ ، إِذْ يَغِيبُ بِهِ عَن وَاقِعِهِ وَلَو كَانَ مُرًّا ، وَيَصعَدُ بِهِ إِلى جُوٍّ مِنَ الفَرَحِ المَصنُوعِ وَالنَّشوَةِ الكَاذِبَةِ ، الَّتِي لا يَستَطِيعُ التَّخَلُّصَ مِن آثَارِهَا السَّيِّئَةِ فِيمَا بَعدُ ، إِلاَّ بِالعَودَةِ إِلى تَعَاطِي ذَلِكَ المُخَدِّرِ مَرَّةً أُخرَى وَثَانِيَةً وَثَالِثَةً ، إِلى أَن يَأتِيَهُ أَجَلُهُ أَو يُدرِكُهُ عَدُوُّهُ ، وَهُوَ لم يُحَصِّلْ حَمدًا وَلم يَسلَمْ مِن ذَمٍّ .
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، كَم هِيَ الشِّعَارَاتُ البَرَّاقَةُ الَّتي تُرفَعُ في عَصرِنَا الحَاضِرِ ، وَيَحمِلُهَا كَثِيرُونَ وَيَتَبَاهَونَ بِحَملِهَا ، سَوَاءٌ في الخَارِجِ أَوِ الدَّاخِلِ ، بَعِيدًا عَنَّا وَقَرِيبًا مِنَّا ، وَمِن أَعدَائِنَا وَمِن بَنِي جِلدَتِنَا ، في حِينِ أَنَّ تِلكَ الشِّعَارَاتِ لا حَظَّ لَهَا مِنَ الصِّدقِ في نَفسِهَا ، وَمِن ثَمَّ فَلا يُستَنكَرُ أَن أَذهَبَ اللهُ مِن قُلُوبِ النَّاسِ تَقدِيرَ أَصحَابِهَا ، بَل وَنَزَعَ مَهَابَتَهُم مِنَ الصُّدُورِ وَلم يُقِمِ النَّاسُ لَهُم وَزنًا ، حَتى وَإِن كَانُوا مِنَ الأَكَابِرِ أَوِ العُظَمَاءِ ، أَوِ المُلُوكِ وَالرُّؤَسَاءِ ، أَوِ الهَيئَاتِ أَوِ المُنَظَّمَاتِ ، وَهَذَا هُوَ الجَزَاءُ الطَبِيعِيُّ لعَدَمِ الصِّدقِ مَعَ اللهِ ثُمَّ مَعَ الآخَرِينَ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَلَو صَدَقُوا اللهَ لَكَانَ خَيرًا لَهُم "
أَجَلْ ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ إِنَّ عَدَمَ الصِّدقِ في الادِّعَاءِ ، قَد جَعَلَ لِلمُدَّعِينَ في قُلُوبِ النَّاسِ بُغضًا لَهُم وَنُفرَةً مِنهُم ، وَمَلَلاً مِمَّا يَأتُونَ بِهِ وَيُقَدِّمُونَهُ ، غَيرَ أَنَّ الغَرِيبَ حَقًّا ، أَنَّهُ مَا زَالَ في الأُمَّةِ المُؤمِنَةِ وَالمُجتَمَعَاتِ المُسلِمَةِ ، مَن بَقِيَ يَعِيشُ في الوَهمِ وَيُصَدِّقُ الأَكَاذِيبَ ، مُضَيِّعًا وَقتَهُ وَعُمرَهُ في طَردِ السَّرَابِ ، وَمَا عَلِمَ أَنَّهُ بِانجِرَافِهِ وَرَاءَ كُلِّ نَاعِقٍ وَانقِيادِهِ لِكُلِّ نَابِحٍ ، وَتَقَرُّبِهِ لِكُلِّ مُبغِضٍ شَانِئٍ وَعَدُوٍّ مُشَاحِنٍ ، يُذهِبُ في كُلِّ يَومٍ مِن دِينِهِ جُزءًا ، وَيَفقِدُ مِن مَبَادِئَهِ نَصِيبًا ، وَيَنحَرِفُ عَن صِرَاطِ اللهِ المُستَقِيمِ شَيئًا فَشَيئًا ، وَلَقَد كَانَ يَكفِى الأُمَّةَ أَفرَادًا وَمُجتَمَعَاتٍ ، أَنَّهَا مَا زَالَت مُنذُ أَكثَرَ مِن سِتِّينَ عَامًا أَو يَزِيدُ ، مَحَطَّةَ تَجَارِبَ فَاسِدَةٍ ، وَمَمَرًّا لِمَنَاهِجَ غَرِيبَةٍ عَنهَا ، وَمُستَودَعَ شِعَارَاتٍ نَشَازٍ وَمَدَارِسَ فِكرِيَّةٍ ضَالَّةٍ ، وَهَدَفًا لِقَومِيَّاتٍ ضَيِّقَةٍ وَوَطَنِيَّاتٍ مَحدُودَةٍ ، وَحِزبِيَّاتٍ آسِنَةٍ وَعُنصُرِيَّاتٍ نَتِنَةٍ ، غَايَتُهَا نَبذُ الدِّينِ القَوِيمِ وَحَربُهُ وَإِقصَاؤُهُ ، وَتَنحِيَتُهُ مِنَ الحَيَاةِ العَامَّةِ وَالقَضَاءُ عَلَيهِ ، بَل وَالاعتِدَاءُ عَلَى المُقَدَّرَاتِ وَنَهبُ الخَيرَاتِ .
كَم هِيَ الأَعيَادُ القَومِيَّةُ وَالأَيَّامُ الوَطنِيَّةُ التي تُقَامُ في دِيَارِ المُسلِمِينَ عَامَّةً وَفي بُلدَانِ العَرَبِ خَاصَّةً ، وَهِيَ وَأَصحَابُهَا وَالدَّاعُونَ إِلَيهَا وَالمُتَابِعُونَ لها ، أَبعَدُ مَا يَكُونُ عَن رُوحِ القُومِيَّةِ الحَقِيقِيَّةِ وَالوَطَنِيَّةِ الصَّادِقَةِ ، إِذْ تُختَزَلُ القَومِيَّةُ وَالوَطَنِيَّةُ في يَومٍ بِعَينِهِ أَو أُسبُوعٍ فَحَسبُ ، مُقتَصَرًا فِيهِمَا عَلَى مَظَاهِرَ جَوفَاءَ وَشِعَارَاتٍ خَرقَاءَ ، ثُمَّ يُنطَلَقُ بَعدَهَا لِلإِفسَادِ في الأَرضِ أَو خِيَانَةِ الأَوطَانِ ، أَو طَعنِ المُجتَمَعَاتِ وَإِهَانَةِ بَنِي الإِنسَانِ ، وَلَو كَانَت ثَمَّةَ وَطَنِيَّةٌ صَادِقَةٌ وَقَومِيَّةٌ حَقِيقِيَّةٌ ، لَكَانَت مَنهَجَ إِصلاحٍ شَامِلٍ ، وَرِحلَةَ عُمُرٍ فَاضِلٍ ، يَبنِي صَاحِبُهَا وَلا يَهدِمُ ، وَيُصلِحُ وَلا يُفسِدُ ، وَيُعطِي قَبلَ أَن يَأخُذَ ، وَيُؤثِرُ وَلا يَطمَعُ ، وَيَعدِلُ وَلا يَظلِمُ ، وَأَمَّا مَن هُوَ مُهدِرٌ لِمُقَدَّرَاتِ بَلَدِهِ ، أَو خَائِنٌ لأَمَانَتِهِ ، أَو مُفَرِّطٌ في مَسؤُولِيَّتِهِ ، أَو تَارِكٌ كَثِيرًا مِمَّا يَلزَمُهُ فِعلُهُ ، أَو مُقَدِّمٌ مَصلَحَةً خَاصَّةً عَلَى المَصَالِحِ العَامَّةِ ، فَمَا عَرَفَ القَومِيَّةَ وَلا لَبِسَ ثِيَابَ الوَطَنِيَّةِ ، فَكَيفَ بِمَن هُوَ وَرَاءَ ذَلِكَ يُحَارِبُ الدِّينَ القَوِيمَ ، وَيَنتَزِعُ مِنَ القُلُوبِ صِالِحَ القِيَمِ ، وَيُجلِبُ عَلَى النَّاسِ بِنِيرَانِ الشُّبُهَاتِ وَيَجرِفُهُم إِلى مُستَنقَعَاتِ الشَّهَوَاتِ ، وَيُرِيدُ الانتِقَالَ بِهِم مِن حَيَاةِ العَدلِ وَالإِحسَانِ وَالطُّهرِ وَالعَفَافِ وَالصِّدقِ وَالأَمَانَةِ وَكُلِّ خُلُقٍ حَسَنٍ ، إِلى بَهِيمِيَّةِ الكُفَّارِ وَفَحشَائِهِم وَمُنكَرِهِم وَبَغيِهِم ، وَأَخلاقِهِم السَّيِّئَةِ وَعَادَاتِهِمُ القَبِيحَةِ .
أَلا فَلْنَتَّقِ اللهَ ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ وَلْنَكُنْ مَعَ الصَّادِقِينَ ، وَلا نَغتَرَّنَّ بِبَهَارِجِ الهَالِكِينَ ، فَإِنَّمَا الفَلاحُ لِمَن أَحسَنَ القَولَ ثُمَّ بَرَّ وَصَدَقَ ، وَاستَقَامَ عَلَى الإِيمَانِ وَالعَمَلِ الصَّالِحِ وَأَحسَنَ وَثَبَتَ ، وَدَعَا النَّاسَ إِلى سَبِيلِ رَبِّهِم وَجَمَعَ عَلى الإِسلامِ كَلِمَتَهُم ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ استَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيهِمُ المَلَائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحزَنُوا وَأَبشِرُوا بِالجَنَّةِ الَّتي كُنتُم تُوعَدُونَ . نَحنُ أَولِيَاؤُكُم في الحَيَاةِ الدُّنيَا وَفي الآخِرَةِ وَلَكُم فِيهَا مَا تَشتَهِي أَنفُسُكُم وَلَكُم فِيهَا مَا تَدَّعُونَ . نُزُلاً مِن غَفُورٍ رَحِيمٍ . وَمَن أَحسَنُ قَولاً مِمَّن دَعَا إِلى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّني مِنَ المُسلِمِينَ "
الخطبة الثانية :
أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ ، وَاعلَمُوا أَنَّ حُبَّ المَرءِ وَطَنَهُ وَمَيلَهُ إِلى قَومِهِ وَبَني جِنسِهِ ، فِطرَةٌ مَغرُوسَةٌ في قَلبِهِ وَنَفسِهِ ، لا يَحتَاجُ إِلى أَن يَتَعَاهَدَهَا غَيرُهُ أَو يُنَمِّيَهَا ، أَو يَجعَلَ مَقَايِيسَ أَو مَعَايِيرَ مُختَرَعَةً لإِثبَاتِ وُجُودِهَا أَو عَدَمِهَا ، وَأَمَا مَا يُسَمَّى بِالأَعيَادِ القَومِيَّةِ وَالأَيَّامِ الوَطَنِيَّةِ ، فَإِنَّمَا هِيَ شَيءٌ احتَاجَت إِلَيهِ بَعضُ الحُكُومَاتِ الظَّالِمَةِ ، وَخَاصَّةً في البِلادِ الكَافِرَةِ وَالأَنظِمَةِ الغَاشِمَةِ ، فَجَعَلَتهُ لِلتَّلبِيسِ عَلَى مَن ظَلَمَتهُم وَهَضَمَتهُم ، وَخِدَاعِ مَن أَكَلَت حُقُوقَهُم وَاحتَقَرَتهُم ، وَأَمَّا بِلادُ المُسلِمِينَ وَأَئِمَّتُهُم ، فَلَيسُوا بِحَاجَةٍ إِلى مِثلِ هَذِهِ البِدَعِ ، إِذْ إِنَّ حُبَّ المُسلِمِينَ لِدِيَارِهِم ، وَطَاعَةَ الرَّعِيَّةِ لِقَادَتِهِم ، وَامتِثَالَ أَمرِهِم وَتَوقِيرَهُم ، وَلُزُومَ الجَمَاعَةِ مَعَهُم وَعَدَمَ الخُرُوجِ عَلَيهِم ، كُلُّ أُولَئِكَ دِينٌ يَدِينُ المُسلِمُونَ بِهِ رَبَّهُم ، وَيَفعَلُونَهُ طَلَبًا لِمَا عِندَهُ وَدَفعًا لِلشُّرُورِ وَدَرءًا لِلفِتَنِ ، مُمتَثِلِينَ قَولَ رَبِّهِم ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمرِ مِنكُم " وَقَولَ نَبِيِّهِم ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ في الحَدِيثِ المُتَّفَقِ عَلَيهِ : " مَن أَطَاعَني فَقَد أَطَاعَ اللهَ ، وَمَن عَصَاني فَقَد عَصَى اللهَ ، وَمَن يُطِعِ الأَمِيرَ فَقَد أَطَاعَني ، وَمَن يَعصِ الأَمِيرَ فَقَد عَصَاني " وَقَولَهُ فِيمَا رَوَاهُ البُخَارِيُّ : " السَّمعُ وَالطَّاعَةُ عَلَى المَرءِ المُسلِمِ فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ ، مَا لم يُؤمَرْ بِمَعصِيَةٍ ، فَإِذَا أُمِرَ بِمَعصِيَةٍ فَلا سَمَعَ وَلا طَاعَةَ " أَلا فَلْنَتَّقِ اللهَ ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ وَلْنَحفَظْ أَمنَ أَوطَانِنَا وَاطمِئنَانَهَا ، بِالإِيمَانِ بِاللهِ وَرَسُولِهِ ، وَشُكرِ النِّعمَةِ وَحِفظِهَا ، وَالتَّنَاصُحِ فِيمَا بَينَنَا وَالأَمرِ بِالمَعرُوفِ وَالنَّهيِ عَنِ المُنكَرِ ، وَلْنُظهِرْ شَعَائِرَ دِينِنَا وَلْنُحَافِظْ عَلَيهَا ، فَإِنَّهُ مَا حُفِظَتِ البُلدَانُ بِمِثلِ هَذَا ، وَلا حَلَّت بها النِّقَمُ إِلاَّ بِضِدِّهِ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " الَّذِينَ آمَنُوا وَلم يَلبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمنُ وَهُم مُهتَدُون " وَقَالَ ـ جَلَّ وَعَلا ـ : " وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ . الَّذِينَ إِن مَكَّنَّاهُم في الأَرضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالمَعرُوفِ وَنَهَوا عَنِ المُنكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ " وَقَالَ ـ تَعَالى ـ : " وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَريَةً كَانَت آمِنَةً مُطمَئِنَّةً يَأتِيهَا رِزقُهَا رَغَدًا مِن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَت بِأَنعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الجُوعِ وَالخَوفِ بما كَانُوا يَصنَعُونَ . وَلَقَد جَاءَهُم رَسُولٌ مِنهُم فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ العَذَابُ وَهُم ظَالِمُونَ . فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلَالاً طَيِّبًا وَاشكُرُوا نِعمَةَ اللهِ إِن كُنتُم إِيَّاهُ تَعبُدُونَ " وَقَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " كَدَأبِ آلِ فِرعَونَ وَالَّذِينَ مِن قَبلِهِم كَفَرُوا بِآيَاتِ اللهِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِم إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ العِقَابِ . ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لم يَكُ مُغَيِّرًا نِعمَةً أَنعَمَهَا عَلَى قَومٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ . كَدَأبِ آلِ فِرعَونَ وَالَّذِينَ مِن قَبلِهِم كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِم فَأَهلَكنَاهُم بِذُنُوبِهِم وَأَغرَقنَا آلَ فِرعَونَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ "
المرفقات
الوطنية شعور أم شعار ؟.doc
الوطنية شعور أم شعار ؟.doc
الوطنية شعور أم شعار ؟.pdf
الوطنية شعور أم شعار ؟.pdf